كيف تصنع شعبًا جاهلًا.[4]!!!

“نتابع موضوعنا عن الوصفة السحرية لصنع شعب جاهل؟!!!

بعد الصفنات الثلاث الماضية، نتابع معًا في صفنة رابعة حول ثنائية السلطة المستبدة المركبة من تحالف السلطتين (السياسة والدينية).    [su_pullquote]   كيف تصنع شعبا جاهلا (1)، (2)، (3) [/su_pullquote]

وإليكم ما يلي:

الدين والسياسة: تحليل نقدي للتقاطع ومسارات الفصل بينهما

 يعبدون آلهة أخرى:
علينا أن نتفق في البداية على أن السياسة، لا دين لها، والساسة والحكام يعبدون آلهة أخرى!!! فأنت أيها المؤمن ما يحركك ويضبط سلوكك، لا يحرك هؤلاء إطلاقًا. فطبيعة العمل السياسي والصراع الدائر في أجوائه لخدمة مآربهم أفكارهم السياسية، ولا يخرج عنها أبدًا. ومهما أعلنوا مرارًا وتكرارًا أمام كاميرات العالم عن هويتهم الدينية فهذا الإعلان لا يعنينا في شيء إطلاقًا. وسواء أكانوا يعبدوا ما نعبد أم لا، فما يهمنا هو سلوكهم وأعمالهم. إذن علينا أن نخرج الدين من لعبة السياسة تمامًا، لا سيما أن الإيمان محله القلب، ولا يمكن لأحد أن يتذوق ما ينضح عن قلب بشر.!!!، هذا إن كنا نريد محو الجهل الذي خلفته وما زالت سلطة الثنائية “الدين/السياسة”، ومن ثم هدم آلياتها التي تحاصرنا ليلًا نهارًا ومنذ سنوات وسنوات بعيدة.

في عصرنا، حيث تعددت الأديان وتنوعت المعتقدات، من الإسلام بعمقه الروحي، إلى المسيحية برسائلها السامية، مرورًا باليهودية وتقاليدها العريقة، وصولًا إلى البوذية والفلسفات الشرقية، يبرز تحدٍ جوهريٍ يتمثل في التداخل بين الدين والسياسة. هذا التداخل أثار جدلًا واسعًا حول مدى تأثير الدين على القرارات السياسية والعكس بالعكس. ونرى أن الأمر يتطلب منا تحليلاً عميقًا للكشف عن كيفية التأثير المتبادل بين هذين الجانبين ومسارات الفصل الممكنة.

الدين كأداة في يد الساسة:

الحقيقة المؤلمة التي تواجهنا هي أن العديد من القادة والسياسيين يميلون إلى استغلال الدين كأداة لتحقيق مآرب سياسية، أو حتى مصالح شخصية. هذا الاستغلال يشوه جوهر الدين ويعرضه للخطر، حيث يُستخدم لتبرير القرارات السياسية أو لتعزيز السلطة. وعبر التاريخ، شهدنا كيف أن الدين، بكل رسائله النبيلة، يمكن أن يتحول إلى أداة للقمع أو لتأجيج الصراعات.

فالعالم لن يخوض حربًا عالمية ثالثة كما يحاول البعض ترويج الخوف والهلع للشعوب، وتصدير فكرة نهاية العالم عبر الإعلام، وأفلام السينما؛ ليفر المؤمنون إلى مساجدهم وكنائسهم ومعابدهم ويتقوقعوا ويلجؤوا إلى رمز ديني خائفون من غضب الآلهة. بهذا يصبح المؤمنون، بوعي أو بدون وعي، أبواقًا صدئةً تردد التخاريف وفوضى الأفكار التي تثبت جذور رجال السياسة ورجال الدين أكثر. والضامن لهذا الاستنتاج هو أن حكام العالم ورجالهم المخلصون، ودجاليهم المنتشرون، وقادة جيوشهم، أذكى بكثير من الأجيال التي خاضت حروب عالمية في أزمان فائتة، وأبادت الملايين من البشر، هذا أولًا. ثانيًا، الرغبة المرضية في إطالة عمر حكمهم وسيطرتهم على الشعوب بكل الوسائل المتاحة، الأخلاقية، وغير الأخلاقية، وإلى آخر لحظة في حياتهم.!!! وعليه لا مفر من ترتيب الوطن من الداخل، أو ترتيب عناصر وخصائص مفهوم الوطن في عقلنا الجمعي “العربي” للخروج من هذا المأزق الحضاري الخطير.

التأثير المتبادل بين الدين والسياسة:

من أوجه التداخل بين السياسة والدين تأثير السياق السياسي على الممارسات الدينية وتفسيراتها. حيث في بعض الأحيان، تُفرض قيود على الحريات الدينية أو تُستخدم الديانات كأدوات للفصل أو التمييز ضمن النسيج الاجتماعي، وهذا ما يعكس التداخل العميق بين السلطة السياسية والمؤسسات الدينية.

إعادة تعريف مفهوم الوطن:

لتجاوز التحديات التي يطرحها التداخل بين الدين والسياسة، يجب العمل على إعادة تعريف “مفهوم الوطن” بشكل يتجاوز الانقسامات الدينية أو السياسية أو العرقية. فالوطن ينبغي أن يكون فضاءً جامعًا يحترم التنوع ويعزز الوحدة، بمعزل عن الدين أو السياسة أو العرق. وهذا يتطلب تنقية الخطاب الديني أو السياسي من الشوائب التي ألصقت بهما عبر التاريخ والعمل على بناء مفهوم وطني يرتكز على القيم المشتركة والاحترام المتبادل.
فإن إعادة إنتاج “مفهوم الوطن” يصبح أكثر وضوحًا حين يمر بعمليات تنقيةٍ من الشوائب العالقة به، والتي نتجت عن تداخل الدين بالسياسة. وإن التغير، والتطور في خطاب رجال الدين واقترابه من العلوم الإنسانية، كان بهدف استخدامه سياسيًا. وذلك دون إخلاص حقيقي لرسالته الإنسانية العظيمة، تمامًا كما استخدم رجال السياسة الدين في إقناع ضحاياهم بسياساتهم.

فالوطن هو كل مفهوم انطلق من وجهات النظر المختلفة وأقره الوعي الجمعي مهما تعددت الانتماءات السياسية، أو الدينية، أو العرقية. فالحديث عن “مفهوم الوطن” هو حديث عن مفهوم يكون جامعًا مانعًا لا يختزل في مفهوم أصغر منه. إن قطرة ماء من البحر تحمل في صورتها المصغرة صفات البحر، ولكن يبقى البحر هو المتسع والكلي؛ هو بيئة النقاش الخصبة والصالحة لخلق أنموذج المستقبل على أرض الواقع أو على أقل تقدير فهي تسمح بطبيعة الحال لبلورة مفهوم وطني للوطن يصلح للاستخدام الآني دون انحياز سياسي ضيق يشكل الوطن فعليًا وواقعيًا تحت درجة حرارة تُصهر الديني بالسياسي وتشوه التنوع والمرونة التي يتسم ويتصف بها الوطن. فيتم صب مفهومه في قوالب جامدة اكتسبت صفات الجمود والتحجر من كل ما هو ماضوي ديني ثابت بحيث يبدو الوطن ككائن شرس غير قابل للترويض أو التطور أو التحديث. كل ذلك لأن رجل ما ينصِّب نفسه قيّمًا علينا على أنه من أهل الذكر!!! ويمضي في طريقه الإلهي المرسوم مسبقًا في اللوح المحفوظ!!!، فهو مخوَّل من السماء بأن ينطق بكلام الله عز وجل -لأنه من أهل الذكر- وله كل الحق أن يفسر النصوص المقدسة بما يمليه عليه هواه، ويخدم مأربه ومأرب أسياده!!!
والسؤال الذي يكشف عن منطق الدولة المستبدة قديمًا وحديثًا في استخدام المؤسسة الدينية، واعتبارها كيانًا يمثل الدين الرسمي، هو كيف لهذا “الشيخ/العالم” أن يكون ناطقًا بكلام الله ولا تقبله الدولة ناطقًا بكلامها هي الأخرى!!! ولا ننسى أن الحاكم أيضًا هو الآخر -وبطبيعة حال الأفكار التجهيلية العتيقة- مُعينٌ تعينًا قدري الوجود، وتحفظه عناية السماء على الأرض، وتجري على لسانه قرارات سياسية مصيرية أرادها الله في الأزل لتحقق مشيئته!!! لذلك لا يعوق “الشيخ” الخروج على العالم عبر وسائل الإعلام المتعددة في أي وقت ويتحدث في أي موضوع دون أن يعلق على كلامه أحدٌ أو يسأله حتى عن تخصصه -لا سمح الله- وكيف لأحد أن يناقش أو يجادل حضرة “الشيخ العالم”؟!!!، فالتكفير وقانون ازدراء الأديان يقف على الأفواه بالمرصاد لكل من تغويه نفسه وينتقد الخطاب الديني. فكل من أراد التحررمن هذا الخطابِ وفقهِ الأوليين الماضوي الذي يتنافى حضاريًا مع ما وصلت إليه الإنسانية، ويطمح في تفعيل فلسلفة الدين بين عوام الخلق، يتم نبذه وتكفيره.

والإجابة على السؤال الرئيس الذي يدور حوله حديثنا: من هو الصانع الأول للجهل؟ إنه تحالف الشر، ثنائية الدين والسياسة!!! هكذا قولًا واحدًا. فأغلب الدول المستبدة تتخذ من مؤسسة دينية ما ركيزة، وتمنحها سلطتها، داخل حدودها لتتكئ عليها في تمرير ما تريده. فالدين عمومًا، وباعتباره مكون رئيسي من مكونات الشعوب الثقافية، والإسلام بشكل خاص، يتشتت عبر الإحالات والإستمالات، ويتقنع في أشكال مختلفة بهذه الممارسات. ولولا التشرذم الديني الإقليمي المتجسد فيما تدعيه الدول بأنها تنتمي لمنهجية إسلامية صحيحة، ما كان لمأساة “الجهل” أي وجود واقعي. ولما ظهر لنا بعض الحركات الدينية التي “تأسلم المسلمين”! وفق معايير خاصة بها رغم عيشهم المشترك داخل الإطار الجغرافي للدولة الواحدة.

فكل تلك التمزقات ساهمت في رسم خرائط متعددة للإسلام وتنفي الخارجين عنها في حالات كثيرة من الدين والملة، وتكفرهم، وتجيز اتهامهم بالعمالة أو الخيانة على المستوى السياسي. وتتكون لدينا ظاهرة يمكن أن نطلق عليها ظاهرة “الإسلام المطاطي” التي تغير مقاييس هذا الدين بحسب معايير ومصالح القيميين عليها. مما سهل في تجهيل المسلم بالإسلام، وخلق الصراع “الديني/السياسي” في المنطقة العربية برعاية رجال الدين ورجال السياسة. والأمثلة على هذا التمزق كثيرة وتطفو على سطح العالم العربي.

والصراع الدائر في كل من اليمن، والعراق، وسوريا، وغيره من دول المنطقة، كل ذلك بفضل الجهل الذي صنعته هذه الثنائية.

والمراقب الذي يقف على مسافة واحدة من كافة أطراف الصراع، يرى أن المتقاتلين لا يختلفون في دمويتهم وعنفهم. وهذا الحديث لا يمس من قريب أو من بعيد قناعات الشعوب بما تتبعه وتعتنقه من اختيار ديني أو مذهبي.

فسلسلة “كيف تصنع شعبًا جاهلا؟”، هي محاولة لفهم آليات الجهل التي تخلقها الأنظمة السياسية بإقحام ما هو ديني فيما هو سياسي، مستغلة عاطفة الشعوب لتحقيق مكاسبها. وما سبق ذكره، هو محاولة لتفسير أحد أبعاد ظاهرة الربيع العربي، التي حولت موجة الثورات الشعبية المطالبة بالحرية، إلى حروب خلَّفت ورائها مدنًا بأكملها مدمرة.

خاتمة:

((إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مهتدون))
إعادة تشكيل الوطن: بين تقاليد آبائنا وضرورة فصل الدين عن السياسة:

إن الدعوة إلى فصل الدين عن لعبة السياسة، لا تهدف إلى إقصاء الدين عن الحياة العامة، بل إلى حمايته من الاستغلال السياسي والحفاظ على نقائه. هذا الفصل ضروري لتحقيق التوازن في المجتمعات ولضمان أن تبقى المؤسسات الدينية بعيدة عن الأطماع السياسية والصراعات السلطوية؛ وهذا يتيح للدين أن يظل مصدر إلهام وتوجيه روحي بعيدًا عن التوظيفات السياسية.

والطريق نحو فصل الدين عن السياسة مليئة بالتحديات، ولكنه أمر لا مفر منه لبناء مجتمعات خلاقة وعادلة. وهذا يتطلب جهدًا مشتركًا من القادة الدينيين الشرفاء والسياسيين الأحرار وكافة مؤسسات المجتمع المدني؛ لإعادة النظر في كيفية تفاعلنا مع هذه الجوانب الحيوية من الحياة البشرية. ويمكننا من خلال الفهم العميق والحوار البنّاء أن نأمل في تحقيق توازن يحترم الإيمان الروحي ويضمن الحكم الرشيد والعادل للمجتمعات.
[1] العنوان وكثير من الأفكار مقتبسة من كتاب صديقي المفكر والصحافي والشاعر طارق سعيد أحمد من كتابه (كيف تصنع جاهلًا) فله جزيل الشكر والامتنان لسماحه لي بذلك.

Scroll to Top