أدونيس
نجتمع من أجل سورية ديمقراطية، من أجل دولةٍ مدنيةٍ فيها، السؤال المباشر الذي يفرض نفسه هو هل نؤمن جميعاً أن الوسيلة جزء لا يتجزأ من الغاية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب وهو ما أفترضه شخصياً، فإن علينا أن نعترف بأن الوسائل العنفية المسلحة القائمة اليوم إنما هي وسائل تتناقض كلياً وجوهرياً مع هذه الغاية إنها بالأحرى قضاءٌ على الديمقراطية والمدنية عدا أنها لا تقيم أي وزن لحياة الإنسان ولحقوقه وحرياته إضافةً إلى أنها تحتقر تاريخه ومنجزاته العمرانية والحضارية. والحق أنا عندما ننظر إلى ما يحدث الآن في سورية مربوطاً برمزيتها التاريخية على المستويين الحضاري والكوني، ندرك مباشرةً كيف أن الصراع فيها تحول إلى صراعٍ إقليمي ودولي في آن، وكأن مقصد الجميع يتخطى تهديم النظام إلى تهديم سورية. فسورية بلد الحضارة والتعدد هي مفترق وملتقى من الأبجدية التي ابتكرتها وغيرت وجه الإبداع الحضاري إلى سلسلةٍ طويلةٍ من المراكز والمنجزات الحضارية، إلى الدولة العربية الأولى في دمشق التي أنشأها معاوية وحملت البذور الأولى للثقافة المدنية وكانت النواة الأولى للفصل بين الدين والدولة، أو لإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله. إلى الأندلس التي أسست في كونية الثقافة وإنسانيتها إلى انتصار الشاطئ المتوسطي الشرقي على الشاطئ الغربي انتصاراً عسكرياً بقيادة صلاح الدين الأيوبي أقول في هذا كله كانت سورية ولا تزال تمثل التجمع البشري الأكثر قدماً وغنى وتنوعاً وانفتاحاً بين بلدان العالم ففيها التقت ولا تزال تلتقي أديان وسلالات قديمة وتتعايش مع بعضها بعضاً ولا يضاهي سورية بصون الجماعات المتباينة دينياً على الأخص وفي استقبال الهجرات الجماعية للمضطهدين وتوطينهم أي بلدٍ في العالم هذا.
كانت جغرافية العالم المشرقي المتوسطي العقدة أكثر استعصاءً في استراتيجيات العالم الحديث سياسةً وثقافةً واقتصاداً. هكذا يبدأ العمل من أجل سورية ديمقراطية ومن أجل دولة مدنية فيها بأن نرفض قطعياً تحويل سورية بحجة تغيير النظام _الذي يجب أن يتغير_ إلى ساحةٍ لمباريات القوى الأجنبية الاستعمارية في تدخلها باسم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ علماً أن ثمة بلدان كثيرة عربية وغير عربية أولى بهذا الدفاع. هذا من جهة، ويجب أن نرفض من جهةٍ ثانية تحويل سورية باسم هذا التغيير أيضاً إلى ميدان للجهاد الديني تشارك فيه جميع المعسكرات الأصولية الإسلاموية في العالم كأن سورية بلاد كفرٍ يجب أن تغزى وأن تُفتح، وهذا عنف عابر للقارات يغرق البلاد في ظلامية القرون الوسطى ويعمق جذوراً لا إنسانية في تاريخنا ثقافية واجتماعية وسياسية خصوصاً فيما يتعلق بالآخر المختلف. ولا معنى لأي تغيير أو لأية ثورة في سورية إذا لم يكن اقتلاع هذه الجذور هدفاً أول، والمسألة العميقة إذاً في سورية لا تنحصر في مجرد تغيير النظام أو السلطة، فالديكتاتورية ليست مجرد بنيةٍ سياسية إنها أساسياً بنيةٌ ثقافيةٌ اجتماعية. إنها في الرأس قبل أن تكون في الكرسي، لا بد إذاً للثورة إذا كانت حقيقيةً من أن يقترن مشروع تغيير السلطة أو النظام السياسي اقتراناً عضوياً بمشروعٍ آخر هو تغيير المجتمع سياسياً وإدارياً ثقافياً واجتماعياً. وفي أساس هذا التغيير الذي يرتكز جوهرياً على وحدة الأرض السورية المساواة الكاملة بين جميع السوريين في معزل عن الجنسي والديني والمنشأ الاجتماعي أو الإثني السلالي ومعنى ذلك التأسيس علمانياً للديمقراطية ولمدنية الحياة والدولة والمجتمع إرساءً للتعددية وتوطيداً لحقوق الإنسان وحرياته وفي مقدمتها تحرير المرأة من القيود التي تكبلها فتعيد لها حضورها الإنساني الكامل ولا تعود مجرد آلة للحرث والإنجاب وتؤكد أن الثورة في معناها العميق ليست ذكورية وإنما إنسانية ثورة المرأة والرجل معاً كأنهما عقل واحد وجسم واحد. وهذا ما يتيح لسورية الحديثة أن ترتبط بمنجزات الإنسان الحديث في ميادين الفكر والعلم والتقنية وأن تتأصل في الوقت نفسه في تاريخ حضاري عريق إذ ما تكون مثلاً جدوى ثورةٍ في سورية أو في غيرها لا تؤسس لولادة الفرد الحر المستقل سيد نفسه وحياته ومصيره، وما جدوى ثورة يحكمها تأويل خاص وسياسي للنص الديني في معزل كامل عن الواقع وعن الطبيعة وعن الحياة وعن الثقافة وعن الإنسان نفسه؟ وما جدوى ثورة تتكلم بلغةٍ غير إنسانية لغة الأكثرية والأقلية ولا تلتفت إلى أن المجتمع يقوم على مواطنية واحدة لا أكثرية ولا أقلية بالمعنى الديني أو العرقي أو اللغوي بل حصراً بالمعنى الديموقراطي المدني الذي يقوم على الرأي الحر الفردي ويتجلى في صناديق الاقتراع؟ وما معنى ثورة لا تؤمن بحق الإنسان في أن يكون معتقده الديني شخصياً لا يلزم أحداً غيره ولا يخضع لمحاسبة أحدٍ إلا الخالق وأن يعتقد ما يشاء في الطبيعة وفي ما ورائها في الثقافة والحياة والموت وغيرها وأن يفصح عن هذا الاعتقاد بحرية كاملة. وما جدوى ثورة لا يصل سقفها الثقافي الإنساني إلى أعلى من التسامح ذلك أن في التسامح نوعاً من العنصرية، أتسامح معك لأن الحق معي ولأن الحقيقة هي ما أؤمن به ولكن اتفضل عليك وأتيح لك أن تقول رأيك ضمن حدود معينة، الإنسان لا يريد التسامح، الإنسان يريد المساواة؛ والمقدمة الأولى للعمل من أجل هذا كله أيتها الصديقات أيها الأصدقاء هي الفصل الكامل بين ما هو ديني من جهة وما هو سياسي ثقافي اجتماعي من جهة ثانية، هذه ألف باء كل ثورة حقيقية وفي أساس ذلك الخروج من جحيم النظام العسكري المستمر والمتصاعد بصيغ مختلفة منذ 1949 والخروج تبعاً لذلك من الجحيم الأخرى جحيم العسكرة وإباحة الساحة لكل مغامر والاقتتال المسلح والنظرة الواحدية الشمولية. هكذا لا بد من أن يكون التغيير في الأسس، دون ذلك لا ديموقراطية ولا مدنية، لا مواطنية ولا تعددية، لا حقوق ولا حريات، ودون ذلك لا يكون التغيير إلا انتقالاً من عبوديةٍ إلى أخرى.
تحية عالية إلى الذين هيؤوا هذا اللقاء وإلى جميع المشاركين فيه، وشكراً.
(كلمة الشاعر السوري الكبير أدونيس في مؤتمر “من أجل سورية ديمقراطية ودولة مدنية”، جنيف 28/01/2013. )