هيثم مناع
قبل قرابة نصف قرن من اليوم، توجهت إلى مدينة السويداء وكنت طالبا في كلية الطب بجامعة دمشق. ذهبت مع صديقي وائل معروف إلى مكتب والده المحامي سلمان معروف، وحدثته عن مشروع كتابة دراسة عن انتفاضة العامية في جبل العرب. أخبرته بأنني عملت ليلا لتجميع بعض النقود والمراجع، وبإمكاني زيارة كل القرى والبلدات لجمع الشهادات. قال لي الأستاذ سلمان: هذا مشروع كبير، أرجوك منك فقط أن لا تنسى أنك ضيفنا، وأتمنى أن لا تسأل الناس عن مطعم أو أوتيل، فكل البيوت بيتك، وأبناء الجبل أهلك.
هكذا وفي عدة زيارات فاق مجموعها الأشهر الستة، تعرفت على كنوز المنطقة في الشعر والأدب والنضال السياسي والاجتماعي والمدني. وجمعت أرشيفا هائلا حول انتفاضة العامية والثورة السورية الكبرى والحركة الشعبية ونشوء الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية. وأرسلت كتاب “انتفاضة العامية الفلاحية في جبل العرب” في نهاية 1975، وكنت أحضر مخطوطة عن “الحركة الشعبية” عندما جرت ملاحقتي من قبل أجهزة الأمن.
في سنوات النضال السري عرض عليّ منصور أبو الحسن وعدد من الأحبة في الجبل أن أذهب للمحافظة كونها أكثر أمنا، فاعتذرت فقالوا لدينا منازل في دمشق يمكنك السكن بها. وبقي معي حتى سفري أكثر من مفتاح بيت ألجأ إليه عند الحاجة.
أبدأ بهذه الشهادة الموجزة، متوجها للشبيبة التي ناضلت مع أهلها واكتشفت تاريخهم ونضالاتهم قبل ولادتهم بعقود، بالقول: في أعناقكم مسؤولية كبيرة، لأن ما قام به جبل العرب من أجل وحدة الأراضي السورية وبناء الدولة السورية، من أجل تحرير فلسطين والوحدة العربية، من أجل دولة المواطنة، من أجل الحرية والكرامة، تخرجه انتفاضتكم الشعبية المدنية من وراء مقصلة اغتيال الذاكرة الجماعية للسوريين.
من هنا ضرورة استحضار ذاكرة الجبل البعيدة والقريبة، في هذه الأوضاع الأصعب في تاريخ سوريا المعاصر.
استحضار هذه الذاكرة، وعلى الأراضي السورية قوى احتلال تتناهش جغرافيتها، وأمراء حرب قسموا الشعب الواحد إلى ملل ونحل وأقوام، لقد كسرتم بحراككم المدني السلمي كل ما حاول أعداء الشعب السوري زرعه في النفوس وفي العقول، من أطروحات طائفية بغيضة، وتمجيد للقابلية للاستعمار والتبعية، وجلب لكل الظلاميين والشوفينيين من أصقاع الأرض إلى أرض النهضة العربية الأولى، وتثبيت لسلطة الاستبداد والفساد على رقاب الناس…
يوم نسي العالم أن سوريا تحتضر ولا أمل حتى في الإشارة خارج البيانات السورية إلى موت أكثر من 500 سوري وسورية في الشهر الواحد، وتهجير المهجّر وإذلال النازح ومحاصرة اللاجئ وتعميم سجون التعذيب في كامل مناطق سلطات تسمى أمرا واقعا في صمت دولي مريب، قلتم كفى،
كفاكم فخرا أنكم حركتم المياه الآسنة الراكدة.
عندما حاول المستعمر الفرنسي تقسيم سوريا إلى دويلات، قام سلطان باشا الأطرش بقيادة أكبر ثورة سورية في القرن العشرين ورد كيدهم على نحرهم. وانتصرت الثورة السورية الكبرى. وعندما سعى الانتداب الفرنسي بعدها لإغراء إخوتنا من الموحدين والعلويين بما أسماه “الإدارة الذاتية” و”قانون الاستقلال المالي والإداري” لجبل العرب وجبال اللاذقية، قامت “الحركة الشعبية” لمقاومة هذا القانون. وأعطت المثل للمثقفين والطلبة في اللاذقية وطرطوس، ولم تكتف بإجبار المستعمر الفرنسي على إلغاء هذا القانون، بل حررت جبل العرب من القوات الفرنسية وأجبرتها على مغادرة المحافظة قبل 11 شهرا من تاريخ الجلاء. هذه “الحركة الشعبية” أرسلت مقاتليها للدفاع عن فلسطين في 1948. أليس قادة الحركة الوطنية في الجبل هم الذين وضعوا اتفاق الوحدة بين حزب البعث العربي والحزب الاشتراكي العربي كما جاء في شهادة والدي الذي حضر هذه الاجتماعات عن محافظة درعا. كان اتحاد الفلاحين في السويداء صوتا لحقوق الفلاحين في عموم سوريا بقيادة منصور أبو الحسن، هذا الفلاح العصامي الذي تعلم خارج المدارس ورأس الاتحاد في عموم سوريا وأصدر صحيفته الحرة، وكم كنت سعيدا عندما أعطاني مخطوطة ترجمته لكتاب “هيجان” لجوزيه لويس دي فيلالونغا حول محاكمة وقتل غارسيا لوركا لنشرها.
أعطى جبل العرب للسوريين والعالم قمما في البحث والفكر والتأريخ. وفي نقاش جرى في مقر سانتي جيديو في روما مع معارض مخضرم بالغ في الحديث عن “المظلومية” بحق الكتّاب السوريين “السنة”، قلت له: إن أردت الحديث في المظلومية فخير من عانى منها أبناء جبل العرب. هل تعرف مثلا من هو ذوقان قرقوط؟ قال لي: مين هاد؟ قلت له: جاوز 93 عاما من العمر، وجاوزت أعماله الستين بين تأليف وترجمة، وأنت صحفي من ثلاثين سنة وتقول: مين هاد؟.
للأسف غابت وغيبت تحف فكرية وثقافية ومعرفية خرجت من جبل العرب، وعشنا حقبة تصحر ثقافي وسياسي في عموم سوريا تحت ظل دكتاتورية دموية لم ينج من ظلمها أحد، وجاء الجراد الأسود الظلامي ليكمل على ما تبقى، شريكا موضوعيا للسلطة الدكتاتورية في مهمة اغتيال ربيع الشبيبة السلمي في درعا وباقي المحافظات.
لقد فتحتم أعينكم على وطن تتناهشه الذئاب، ودفعتم ثمن معارك عدمية مدمرة للبشر والشجر والحجر، ومع كل ذلك، لم تفقدوا حصتكم من الأمل، ولم يغب عنكم دوركم في بناء سوريا المواطنة والوطن الواحد، تماما كما قام أسلافكم بمقاومة العثمانيين والفرنسيين، وشكلت نضالاتهم لوحة أصيلة في تاريخ سوريا الحديث. وكم أتمنى أن تكون ساحة الكرامة باعثا لأن نتذكرهم كجزء لا يتجزأ من تاريخنا السياسي والثقافي والنهضوي المشترك.
إن صمودكم المدني السلمي، يعطي الدرس لكل السوريين بأن الحياة أقوى من الموت والحرية أقوى من كل القيود، وسيادة الوطن والمواطن، ليست مجرد شعار، بل ضرورة وجودية لكل سوري من القامشلي إلى القنيطرة ومن عفرين إلى درعا ومن اللاذقية إلى الميادين.
الحديث طويل ولا يمكن إلا أن يكون من القلب إلى القلب، لكن اسمحوا لي أن أتوجه إلى كل السوريين والسوريات اليوم، بدءا من أهلي في سهل حوران إلى دمشق والساحل، وانتهاء بإخوتي في عموم الشمال بالقول: انتفاضة جبل الكرامة انتفاضتكم، ولا يكفي التأييد اللفظي ولوحات جميلة بعبارات مؤثرة، عليكم أن تفعلوا ما فعلت القيادات الوطنية في عموم سوريا قبل قرابة قرن يوم انطلقت الثورة السورية الكبرى، أن تكونوا شركاء في هذا الحراك، وحماة للقيم السامية التي يحملها. هذا إن أردتم سورية متحررة من الاستبداد والفساد والعنف والإرهاب والتدخلات الخارجية، شعب واحد ودولة مواطنة لكل أبنائها.
—————-
مقدمة الدكتور هيثم مناع للسهرة الحوارية بهذا العنوان يوم 9/سبتمبر 2023 التي نظمها “المؤتمر الوطني السوري لاستعادة السيادة والقرار”، وشارك فيها الدكتور فندي أبو فخر من السويداء والدكتور هيثم مناع من جنيف، وأدارها الأستاذ حسن البكفاني.
لمشاهدة كامل السهرة أنظر الرابط:
https://www.facebook.com/mannahaytham/videos/138394379299861