الدكتور يونس كنهوش
ولد صادق جلال العظم في دمشق في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1934، في الجمهورية السورية، لعائلة العظم الدمشقية العريقة والتي قدمت أكثر من زعيم ورئيس وزراء لسوريا. كان والده، جلال العظم، أحد العلمانيين السوريين المعروفين بإعجابه بإصلاحات مصطفى كمال أتاتورك العلمانية في جمهورية تركيا.
تلقى صادق العظم تعليمه في بيروت- لبنان، وحصل على بكالوريوس في الفلسفة من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1957، حصل العظم على ماجستير في عام 1959 والدكتوراه في عام 1961 من جامعة ييل، تخصص بالفلسفة الأوروبية عام 1963، بعد حصوله على الدكتوراه، بدأ التدريس في الجامعة الأمريكية في بيروت. ثم توجه لعمان بعد هزيمة 1967 وعمل فترة قصيرة في الجامعة الأردنية ونظمت له المقاومة الفلسطينية عدة محاضرات عامة حول هزيمة 1967 وضرورة قيام أحزاب ثورية في المنطقة كضمان لمواجهة نتائج العدوان الإسرائيلي. تعرض في إحدى هذه المحاضرات إلى “ضرورة إسقاط أنظمة الهزيمة” فطالبته السلطات الأردنية بمغادرة البلاد. عاد إلى بيروت حيث ثمة هامش أوسع للحريات ونشر كتاب “النقد الذاتي بعد الهزيمة” (1968- دار الطليعة ، بيروت). يحلل فيه تأثير حرب الأيام الستة على العرب.
أصدر في 1969 كتاب “نقد الفكر الديني” وفيه توبيخ لزعماء سياسيين ودينيين وإعلاميين يدعمونهم لاستغلال المشاعر الدينية للناس. اعتمد في الكتاب تحليلا ماركسيا نقديا إضافة إلى طرحه إشكالية “إبليس” في عودة لإطروحات الحلاج. وفضح في الكتاب كيف “وجدت الأنظمة العربية في الدين عكازًا يمكنها استخدامه لتهدئة الجمهور العربي والتستر على عدم كفاءتها وفشلها الذي كشف عنه الهزيمة بتبني التفسيرات الدينية والروحية لانتصار إسرائيل ….منع الكتاب في كل البلدان العربية، وقد شنت صحيفة “الشهاب” الناطقة باسم حركة الإخوان المسلمين في لبنان حملة شعواء ضده وطالبت بمنع الكتاب ومحاكمة الكاتب والناشر الدكتور بشير الداعوق صاحب “دار الطليعة”. وبعكس ما أراد الإخوان، شكلت المحاكمة محكمة للجمود الفكري وأعداء العقلانية السياسية والفلسفية. ومنحت الدكتور العظم جمهورا تقدميا واسعا من القراء. وأفرج عن الكتب والناشر منتصف كانون الثاني (يناير) 1970 بعد أن “قضت المحكمة بالإجماع بإسقاط التهم الموجهة ضد المتهم صادق العظم وبشير الداعوق لعدم وجود العناصر الإجرامية المتهمين بها”. فصدرت طبعات لاحقة من “نقد الفكر الديني” تتضمن وثائق من المحكمة ويستمر نشرها باللغة العربية حتى يومنا هذا. ويعود الفضل لهذه المواجهة الفكرية في فتح الباب لصدور عدة كتابات جريئة في نقد الفكر الديني عن دار الطليعة كالثالوث المحرم لبو علي ياسين (1973) و”تاريخ التعذيب في الإسلام” وتاريخ الاغتيال السياسي في الإسلام لهادي العلوي و”من نقد السماء إلى نقد الأرض” للعفيف الأخضر و”الأسرة الأبوية في الإسلام” (1973) و”المرأة في الإسلام” (1980) لهيثم مناع. وقد نشر صادق جلال العظم عدة فصول من هذه المؤلفات في مجلة “دراسات عربية” أثناء رئاسة تحريره لها.
عاد في 1977 إلى دمشق (اشتقت للتواصل مع بلدي في بلدي) وكان أول مشروع فكري له في دمشق عمل جماعي مع الباحث الفرنسي ميشيل سورا وبوعلي ياسين وهيثم مناع ونبيل سليمان وعمر أميرالاي حول “الصراع الاجتماعي والفكري والثقافي في سوريا”. إلا أن تصاعد عمليات “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين” أوقفت المشاريع الثقافية التي صارت السلطات السورية تتعامل معها كخطر عليها.
قرر العظم التدريس في جامعة دمشق للتواصل مع الجيل الشاب، وكان يتشكل حوله باستمرار جلسات نقاشية وفلسفية تجمع الطلبة من عدة كليات وكتاب وأدباء سوريين. ولم يكن بإمكان السلطات السورية منع هذه الاجتماعات كون صادق العظم بالفعل شخصية مستقلة عن كل التنظيمات السياسية بما فيها الماركسية وقتها. كان أستاذا للفلسفة الأوروبية الحديثة في قسم الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة دمشق من مطلع الثمانينيات إلى 1999. وواصل نشاطه في إلقاء المحاضرات في الجامعات الأوروبية والأمريكية كأستاذ زائر.
في عام 2004 ، فاز بجائزة إيراسموس مع فاطمة المرنيسي وعبد الكريم سروش. في عام 2004 حصل على جائزة الدكتور ليوبولد لوكاس الممنوحة نيابة عن الكلية البروتستانتية في جامعة توبنغن من قبل البروفيسور إيلرت هيرمس بعنوان “الإسلام والإنسانية العلمانية” وفي عام 2005 أصبح دكتور مرتبة الشرف من جامعة هامبورغ. في عام 2015 حصل على وسام جوته من رئيس معهد جوته.
تمت دعوته من قبل عدة جامعات أجنبية ثم انتقل إلى الخارج مجدداً ليعمل أستاذاً في عدة جامعات بالولايات المتحدة وألمانيا.
كان العظم ناقدًا لاستشراق إدوارد سعيد، مدعيًا أنه يؤسس “الغرب” بنفس الطريقة التي ينتقد بها سعيد القوى الإمبريالية وعلمائها في إضفاء الطابع الأساسي على “الشرق”. في مقال كتبه عام 1981 ، كتب العظم عن سعيد: “غالبًا ما يهرب المصمم والمتجادل في إدوارد سعيد مع المفكر المنهجي … نجد سعيد … يتتبع أصول الاستشراق وصولًا إلى هوميروس ، أسخيليس وبعبارة أخرى ، فإن الاستشراق ليس في الحقيقة ظاهرة حديثة تمامًا، كما اعتقدنا سابقًا، ولكنه نتاج طبيعي لعقل أوروبي قديم لا يقاوم تقريبًا لتحريف حقائق الثقافات والشعوب الأخرى ولغاتهم … هنا يبدو أن المؤلف يقول إن “العقل الأوروبي” ، من هوميروس إلى كارل ماركس وGibb ، مصمم بطبيعته على تشويه جميع الحقائق الإنسانية غير الخاصة به “.
كتب العظم العديد من الكتب والمقالات باللغة العربية، وترجم بعضها إلى اللغات الأوروبية بما في ذلك الإيطالية والألمانية والدنماركية والفرنسية. لم تتم ترجمة نقد الفكر الديني بالكامل إلى اللغة الإنجليزية، على الرغم من ظهور مختارات من نقد الفكر الديني في الترجمة الإنجليزية في جون ج. وجون إل إسبوزيتو الإسلام في مرحلة انتقالية: وجهات نظر إسلامية ([1982] 2007 ، الطبعة الثانية) بالإضافة إلى ذلك، تمت ترجمة الفصل الثاني من نقد الفكر الديني إلى الإنجليزية في كتاب مهرجان 2011 تكريما لكتاب العظم. السيرة المهنية المنشورة تحت عنوان الاستشراق والتآمر: السياسة ونظرية المؤامرة في العالم الإسلامي، مقالات على شرف صادق ج. العظم التجربة الفكرية
تأسست تجربة العظم الفكرية منذ البداية على المعارك الضارية التي اشتبك فيها مع مقولات التراث والحداثة والجدل الفلسفي الديني، مما عرضه لكثير من الانتقاد وأثار عليه غضب شرائح مجتمعية عديدة. فقد حوكم بسبب كتابه “نقد الفكر الديني” الصادر عام 1969 إثر نكسة حزيران 1967، وصدر عليه حكم بالسجن مطلع عام 1970 لكن المحكمة أعلنت براءته لاحقا في نفس العام. وفي الوقت الذي يعتبره كثيرون “علمانيا ملحدا”؛ يصفه أنصاره ومريدوه بأنه داعية إلى “التمسك بالعلوم والمعارف المادية في عالم عربي يشهد انحسارا لدور العقل”، ولذلك فإنه “يواجه استبداد العادات المتوارثة بيقظة العقل المتجددة”.
ويرون أنه “قدم إسهامات فكرية في نقد المؤسسة الدينية” واحتل بها “مكانه في طليعة المفكرين الذين تصدوا للموروثات الدينية والسياسية”، حتى صار “أحد أشهر العقلانيين العرب”. وبعد حوالي ربع قرن من صدور كتابه “نقد الفكر الديني”؛ أثار العظم عاصفة جدلية أخرى بكتابه “ذهنية التحريم” الصادر 1992 عن دار طلاس للنشر في دمشق، والذي دافع فيه عن سلمان رشدي وروايته “آيات شيطانية”، وذلك بقوله “إن أدب سلمان رشدي ينتصر للشرق ولكن ليس لأي شرق بالمطلق، بل للشرق الذي يجهد لتحرير نفسه من جهله وأساطيره وخرافاته، وبؤس دكتاتوريته العسكرية وحروبه الطائفية والمذهبية وهامشيته الكاملة في الحياة المعاصرة”. ورغم أن العظم درس الفلسفة في جميع مراحل تعلمه الأكاديمي وتخصص فيها دراسة وتدريسا؛ فإن علاقته بها لم تحل دون انخراطه في الواقع السياسي العربي الذي قدم فيه مساهماته الفكرية السياسية نقدا وتشخيصا وطرحا للحلول والبدائل كما يراها. ولذلك وُصف بأنه “قريب من العامة، ولم تكن علاقاته الاجتماعية حكرا على النخب رغم كونه ينتمي إلى عائلة أرستقراطية”. عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011 على نظام بشار الأسد، أخذ العظم -الذي انتقل بعد تطور الأحداث إلى ألمانيا للعيش فيها- موقفا داعما لها على عكس عدد من نظرائه اليساريين العرب، وقال إن هدفها هو “استرجاع الجمهورية من السلالة الحاكمة إلى الأبد، ومن مجمعّها العسكري/التجاري الاحتكاري لكل شيء مهم في البلد”.. وانتقد موقف العلمانيين السوريين واليسار السوري في رفضهم “مذهبة الصراع” واعتبار المذهبة تصب في خدمة الخطاب الإخواني والتكفيري، معتبرا الأغلبية السنية “الطبقة المظلومة الأكبر في البلاد”(مناظرة حول الثورة السورية- بوسطن). وأضاف أنه “لا يمكن للصراع أن يصل إلى خاتمته بدون سقوط ‘العلوية السياسية‘، تماما كما أن الحرب في لبنان ما كان يمكن أن تصل إلى خاتمتها بدون سقوط ‘المارونية السياسية‘ (وليس الموارنة) في لبنان”. أثار استخدام مصطلح “العلوية السياسية” من قبل صادق جلال العظم، هذا المصطلح الذي أطلقه “محمود صادق”(الاسم المستعار للفقيد ميشيل كيلو) في كتاب “حوارات حول سوريا” (1993)، نقاشا واسعا في صفوف التقدميين السوريين، واعتبره الكتّاب اليساريون ارتدادا للعظم عن أفكاره العلمانية وقراءأته المادية التاريخية وسقوطا في الشعبوية، وكان هذا الموضوع من آخر المعارك النظرية التي خاضها، والتي قال فيها جملته المأثورة: “إذا كان اليسار يعتبر حديثي في “العلوية السياسية” حديثا غير علماني وغير علمي، فكل ما أعرفه، أنني لست يساريا” (مناظرة حول الثورة السورية- بوسطن).
بقي صادق جلال العظم، مثيراً للجدل بأفكاره حتى بعد الربيع العربي، خاصة خلال الثورة السورية، إذ اعتبر أنها الوسيلة للتخلص من الدكتاتور، كما كان من مؤيدي ووصف العظم الثورات العربية بأنها “العودة الربيعية للناس إلى السياسة”، ويرى أنها أوجدت جيلا جديدا سيقوم بتصفية مشاريع توريث السلطة لسلالات حاكمة في الجمهوريات العربية بنقل السلطة مباشرة إلى أبناء الحاكم أو أقاربه. ويؤكد أنه “ربما يكون في ذلك تمهيد لمستقبل أكثر ديمقراطية وحرية مما عرفناه حتى يومنا هذا”.
في 14 سبتمبر/أيلول 2016 أصدر العظم -رفقة نحو 150 من الكتاب والفنانين والصحفيين السوريين وصفوا أنفسهم بأنهم “ديمقراطيون وعلمانيون”- بيانا مشتركا أدان السياسات الأميركية والروسية في بلادهم “بأقسى العبارات لمقاربة القوتين المتدخلتين في سوريا (الولايات المتحدة وروسيا) لشأننا السوري، وعملهما -منذ عام 2013 على الأقل- على إلحاق كفاح السوريين التحرّري بحرب ضد الإرهاب…، دون ذكر لميليشيا حزب الله أو المليشيات الطائفيه الأخرى التي تحارب الأسد
لم يعتبر العظم من أبرز رموز ربيع دمشق الذي بدأ في سوريا بعد العام 2000 فقط، بل تمت بجهوده الدعوة لعقد أول مؤتمر للعلمانية في دمشق عام 2010، والذي منع إبانها من قبل الأمن السوري وكان بمثابة دعوة جريئة للبحث في الواقع والحماية من التطرف.
توفي في برلين الأحد 11 ديسمبر/ كانون الأول 2016، المفكر السوري صادق جلال العظم، الذي اشتهر بأفكاره الجدلية حول العلمانية ونقد الأفكار الدينية، مخلفاً إرثاً ثقافياً كبيراً. “نعلمكم ببالغ الحزن والأسى وفاة والدنا صادق جلال العظم في منفاه برلين، ألمانيا”، هكذا أعلن ولدا المفكر السوري صادق جلال العظم، عمرو وإيفان، للعالم وفاة أحد أهم منظري العلمانية في العالم العربي في القرن العشرين، نعيٌ تناقله الساسة والمثقفون والنشطاء، حيث عزّا العديد من السوريين أنفسهم بوفاة أحد ابرز أعلامهم بعيداً عن أرض الوطن. توفي عن عمر يناهز الـ82 عاماً، بعد أشهر من تدهور صحته، حيث فشلت عملية استئصال الورم الخبيث في المخ،
بعد موته اعتبر الكثيرون، أن شخصية وفلسفة صادق جلال العظم في الحياة لا يمكن اختزالها في السنوات الأخيرة من عمره، فلا يمكن لأحد أن يغيب كتاباته النقدية للدين والإسلام السياسي خلال ثلاثين عاما، كذلك نضالاته من أجل دولة علمانية في وقت كان اليسار يختبئ وراء تعبير “الدولة المدنية”. لذا فإن إكرام صادق جلال العظم، يكون في إعادة نشر فكره العقلاني العلماني، حيث انتشر هاشتاغ “#تكريم_المفكر_أن_نقرأه” مع نشر عدداً من أقواله ومواقفه.