أتحفنا شهر نوفمبر 2019 بأشكال عديدة للبلطجة، بلطجة الحكومات والجماعات واللوبيات، بعضها تكرار بائس لحقارات وانتهاكات معروفة، وبعضها الآخر “مبتكر”.
المشهد الأول
يمكن القول أن المدير السابق للمخابرات المركزية الأمريكية ووزير الخارجية الحالي مايك بومبيو قد خطف الأنظار، بتصريحه البائس حول مشروعية بناء المستوطنات في أراض محتلة. أي وضع نهاية لاحترام القوة العظمى الأمريكية لاتفاقية جنيف الرابعة وقرارات مجلس الأمن وميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية. لم يعد بالإمكان الحديث حتى عن Pax Americana بل الأدق الحديث عن البلطجة الأمريكية. هذه البلطجة التي تمتد إلى آبار النفط السورية شرقي الفرات باعتبارها من غنائم “الحرب ضد الإرهاب”؟
في متحف جون كينيدي وأثناء عرض فيلم حمل فيه الرئيس السوفييتي نيكيتا خروتشوف حذاءه وضرب على الطاولة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، علق جاري الإفريقي بالقول: “لو أن رئيسا إفريقيا فعل ذلك لاتهم بالجنون، لكن من يجرؤ على اتهام رئيس أمريكي أو روسي بذلك؟”… واليوم، من يجرؤ من المسؤولين الأوربيين على اعتبار مايك بومبيو مجرم حرب ويصدر مذكرة قضائية بملاحقته؟ حتى فاطيماتو لاهاي، المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية تذرعت بانقطاع الأنترنيت في إيران (تقصد في هولندا) لكي تمتنع عن التعليق على هذه الجريمة. فلم تجف بعد حروف القرار الأمريكي بمنع أي محقق من المحكمة الجنائية الدولية من دخول الولايات المتحدة والأفضل في حالة كهذه عدم التصعيد!!
المشهد الثاني
كان بشار الأسد قد اختتم الشهر الماضي بلقاء مع الصحفيين السوريين والروس تباعا، لقاء أكد فيه أن ما يجري في جنيف هو اجتماع لأطراف لا تشبهنا مع أطراف تشبهنا ولا تمثلنا رسميا. وما يجري هو امتداد لمؤتمر الحوار الوطني في سوتشي أما مفاوضات جنيف فقد ماتت. ذكرني هذا التصريح بقصة رواها لي صحفي يعمل في وسيلة إعلام خليجية بعد يومين من تقطيع أوصال جثة الصحفي جمال خاشقجي. كانت قناة الجزيرة القطرية تعنون أخبارها بجملة: أين جمال، 98 مرة في اليوم، فاتصل صحفي من عرب تركيا بمسؤول سعودي ووجه له السؤال: برأيكم طال عمركم، أين جمال؟ فأجابه: الله أعلم والتحقيقات جارية. فما كان من الصحفي إلا أن يتصل بمكتب الجزيرة في إسطنبول ويقول: يبدو من رد مسؤول سعودي رفيع المستوى أن جمال في جوار ربه.
ما سمي باللجنة التفاوضية كان يجاهد للبقاء على قيد الحياة وهمه البحث عن صيغة لاستمرار المرتبات والمساعدات، خاصة وأن المستضيف السعودي قد أخبرهم بأن لا وقت لديه لهم، “ياكلوا ويشربوا وياخذوا مرتباتهم ويدبروا أمورهم”. فمددوا لأنفسهم ثلاثة أشهر طوارئ..
لم يخرج تعليق واحد من المبعوث الدولي لسورية أو السيد غوتيريس الأمين العام على تصريحات بشار الأسد والتي قامت السلطات التركية بتوزيعها، لتذكير من تم القبول بهم أعضاء في اللجنة الدستورية، إنما تم بتوافق روسي تركي يعطي مقعد المعارضة “للموالاة التركية”. حتى في اللجنة المصغرة، فإن من لم يقسم لأبي فرقان بأن مصلحة تركيا قبل مصلحة سوريا، لأن تركيا هي الأم وسوريا هي الجنين… يجلس على مقعد متحرك بانتظار الإبعاد. نصر الحريري وعصابة الأربعة تبلطجوا على “مهند دليقان” وأحضروا حمار بوريدان (صفوان عكاش) ليوقع على قرار فصله. عبقرينو الأمم المتحدة الذي لم يفهم بعد الشبكة المعقدة للصراعات ومراكز القوى، لم يوجه الدعوة لمهند دليقان إلى اجتماع اللجنة المصغرة احتراما لقرار الحريري وشركاه، الذين كانوا في هذا الوقت يحملون الفولار التركي في اجتماع التركمان (أصر الأتراك على إهانة كل الموجودين على الأراضي التركية كما أذلوا من قبل سهيل إبليس بحمل العلم التركي فأحضروا الأحياء والأموات في الإعتلاف والمجلس ووضعوهم في الصف الأول)… وكما تبين لنا بأن الصور والأفلام التي وضعت على وسائل التواصل التركمانية كانت أقل انتشارا بعشرين مرة من إعادة توزيعها على وسائل التواصل القريبة من النظام السوري، الذي يحسن الاستثمار في جحشنات خصومه. جاء الكزبري والبحرة إلى جنيف، فاشترط الأول أن يوقع الثاني مبادئ وطنية قبل أي جلسة دستورية؟ طبعا وبكل قلة أدب، فلفلها وملحها بشكل يجعل من قبول المواطن التركي هادي البحرة بها، شخص غير مرغوب به في ما يعتبره بلده الأم (تركيا)… أما “المجتمع المدني” والمنصات غير التركية، فتذكرني بدور النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي. والله غالب في أمره من قبل ومن بعد.
عندما تختار تركيا حثالتها لتمثيل المعارضة في اللجنة الدستورية، وترفض حتى السلفيين المستقلين لعدم ضمان ولائهم المطلق، وتتحول التوافقات الروسية التركية إلى قانون دولي بديل لقرارات الأمم المتحدة، وتتحول الأمم المتحدة لمشرع لقرارات الأستانة، فإن كل أشكال العربدة والبلطجة تصبح من عاديات الأمور…
المشهد الثالث
من مصائب عولمة البلطجة، أن الخصوم والأعداء يصابون بمرض التقليد والمزاودة فيها. اليوناني، الذي يدفع جزءا من ضريبة اللجوء من مناطق الصراع، و بعد أن أظهرت أرقام نشرتها وكالة الأمم المتحدة للاجئين أخيراً ارتفاع عدد اللاجئين الذين يعبرون البحر من تركيا بنسبة 73 ٪ هذا العام، قررت الحكومة اليونانية بناء مخيمات في جزيرة مغلقة تشبه السجون لوضع اللاجئين فيها، فقد تبين لهذه الحكومة أن أفضل حل لهذه المشكلة هو اتباع طريقة ديك شيني ورامسفيلد عندما قررا بناء منتجع غوانتانامو لحل مشكلة “المقاتلين الأعداء”…
الحكومة اليونانية تعلم أنها ستتعرض لنقد شديد من منظمات حقوق الإنسان لانتهاكها اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين، وبروتوكول عام 1967 المتعلق بوضع اللاجئين. لكن في عالم البلطجة السائد، أليس المبدأ المشترك: ما حدا أحسن من حدا؟؟؟
الجدير بالذكر أن السلطات اليونانية تتعامل حاليًا مع 70 ألف طلب لجوء بينهم حوالي 4 آلاف قاصر وقاصرة، أي أنها من أقل البلدان في شمالي البحر الأبيض المتوسط استقبالا للاجئين؟؟