وقعت أهم نقاشات “المال السياسي” قبل ولادة الحركات الإسلامية السياسية والتنظيمات القومية العربية والكردية ومن نافل القول إضافة “قبل سبعين عاما من مقالة سيد قطب “الإسلام الرباني والإسلام الأمريكاني” ومائة عام قبل مناقشة عدد من الناصريين واليساريين في مصر لموضوع تمويل المنظمات الحقوقية والمدنية في مصر.
ويمكن القول أن تراث “الأنتلجنسيا الروسية الراديكالية”، التي أحرق ستالين قسما كبيرا منها، قد فتحت ملفات أساسية في قضية تمويل التنظيمات الراديكالية والمعارضة. اعتبرت العديد من التنظيمات اليسارية الراديكالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر المال مفسدة مهما كان شكله أو طريقة الحصول عليه أو سبل استخدامه، وعندما طرح بعضها الحاجة إلى المال لشراء السلاح، معروفة إجابة أحد الفوضويين: “لماذا تسرق المال، اسرق السلاح مباشرة”، الحراسة على مخفر الشرطة أقل بكثير من حراسة البنوك”. في حين أن اتجاها يساريا واسعا استعمل مقولة لينين “اسرقوا الأموال المسروقة” أثناء نقاشات الاشتراكيين الروس قبل 1905. وعلينا انتظار الأزمة الاقتصادية الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ووقوف عدد من رجال الأعمال الألمان مع الحركة النازية لنعيش أكبر عملية تمويل وتوظيف لعبت دورا كبيرا في البناء التحتي لحزب قادر على استلام السلطة وبالتالي تأميم قدرات الدولة لمشروعه الخاص، والمصيبة الكبرى، إشعال حرب كونية سقط فيها أكثر من خمسين مليون إنسان.
في البلدان العربية، ورغم الاعتقالات والإعدامات والتجويع الجماعي لمناهضي الخلافة العثمانية المريضة، لم تلجأ حركات النهضة والمقاومة إلى التمويل الخارجي. فالثورة السورية الكبرى ضد الانتداب الفرنسي اعتمدت على نفسها وعلى أبناء الشعب السوري على خلاف انتماءاتهم، كذلك كانت الحركة الشعبية في جبل العرب هي التي أنهت المشروع الفرنسي المسمى “الاستقلال المالي والإداري لجبل الدروز”. وكان الوطنيون السوريون ضد أي تقسيم أو تمايز بين المحافظات السورية المختلفة. ولا شك بأن وجود شخصيات وطنية كبيرة بين أعيان المدن ورجال الأعمال، قد جعل من الاستقلال المالي للأحزاب التي ولدت بين 1938 و1958 (تاريخ حل الأحزاب السياسية في سوريا)، مبدأ أساسي لم يشذ عنه أي من الأحزاب الوطنية السورية.
هذا لا يعني أن الاستثمار في الأحزاب السياسية كان غائبا. فالأحزاب الموالية للاتحاد السوفييتي كان لها امتيازات في المنح الدراسية لأنصارها في معسكر وارسو، وقد استثمرت بريطانيا فيما يسمى بالإسلام السياسي مبكرا. وتمويل السفارة البريطانية في بيروت لحزب التحرير والنبهاني ليس “كذبة مخابراتية”. وقد دفعت المملكة العربية السعودية لمشاريع الروابط والهيئات الإسلامية لمواجهة المد القومي الناصري مبالغ طائلة، كذلك كان حزب البعث في السلطة في سوريا والعراق يموّل فروعه في عدد من البلدان العربية.
المنعطف الكبير
إلا أن المنعطف الكبير سواء في حجم التمويل أو في دخوله عاملا أساسيا في تقرير مصير الدول، كان في عام 1979 وانطلاق ما يسمى في الأدبيات الأصولية (الجهاد في بلاد الشام)، وفي الأدبيات السورية المواجهة المسلحة بين النظام السوري والطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين.
كانت الطليعة المقاتلة عند نشأتها تتلقى مساعدات محدودة من دول الجوار وتقوم بعمليات تفجير أو اغتيال محدودة إلى حين انطلاقة الحراك الشعبي ضد الشاه. حفز وصول الخميني للسلطة في مطلع 1979 حركات إسلامية عدة للحراك فيما يسميه البعض “الصحوة الإسلامية”، إلا أن التغييرات في إيران شكلت خطرا مباشرا على العراق، حيث نسبة هامة من السكان تنتمي للمذهب الشيعي. وقد وقف حافظ الأسد مع إيران، في موقف نشاز من الإجماع الرسمي العربي. حاول النظام العراقي بناء تحالف مع غريمه البعثي في سوريا بادئ الأمر، ومع فشل هذه المحاولة، اتخذ النظام العراقي قرارا بدعم غير محدود للطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين مؤيدا في ذلك من ممالك الشرق العربية. وبدأت في “العراق العلماني” طباعة كتب عن تكفير النصيرية وقوافل سلاح عبر البادية.
كانت الحركة المدنية في سوريا في وضع متقدم نسبة لنظيراتها في المنطقة. وقد تحركت النقابات المهنية والأحزاب الوطنية اليسارية وعدد كبير من المثقفين من أجل رفع حالة الطوارئ والحريات الأساسية للتنظم والتجمهر والتعبير. وكان أول من واجه هذه الحركة، الطليعة المقاتلة التي أصدرت بيانا في صحيفتها “النذير”: أيها الوطنيون عودوا إلى جحوركم، الثورة إسلامية”. كان للدعم المالي واللوجستي العراقي والأردني للطليعة المقاتلة دورا كبيرا في تحجيم الحراك الشعبي المدني. وقامت أجهزة الأمن الأسدية باعتقالات واسعة في صفوف النقابيين والديمقراطيين لم تعرفها سوريا في تاريخها الحديث. فقد اعتمدت استراتيجية النظام الأمني على جعل المواجهة الأساسية بين النظام والإخوان، وساعدها الإخوان بعماهم الإيديولوجي وتبعيتهم. حتى مجزرة حماه التي كتب فيها الدكتور جمال الأتاسي: لم يتحرك الشعب السوري لنصرة الطليعة المقاتلة في حماه، لأنه لا فرق عنده بين دكتاتورية النظام ودكتاتورية الإخوان”.
منذ ذلك الزمن حدث الاختراق الكبير في المعارضة السورية، حيث حرصت الرابطة السورية لحقوق الإنسان التي اعتقل قادتها والتجمع الوطني الديمقراطي الذي اعتقل كادره الشيوعي، على استقلال قرارها. في حين بنى أحمد محفل القيادي في الحزب الشيوعي-المكتب السياسي جسرا مع التحالف الوطني لتحرير سوريا الذي ولد في بغداد بقيادة البعث العراقي والإخوان المسلمين (كشف بشار العيسى في تقرير له حول العلاقة مع العراق عن جزء من هذه القصة).
في نفس هذا الوقت، كان حزب العمال الكردستاني يعمل في دمشق كما يعمل الإخوان من بغداد، لديه تسهيلات أمنية ومالية كبيرة، ولكنه طرح منذ البدء مسألة التمويل… وكان قراره بفرض ما سماه “الضريبة الثورية” ويسميه الكورد تندرا: “الخوة الثورية”. وقد طبقت هذه السياسة في أوربة بشكل أساسي حيث يفرض على أصحاب المحال التجارية والمطاعم إلخ مبلغا شهريا لدعم الحزب. ومنذ تحصن الحزب في قنديل خاض في كل ما يسمح له بتمويل مالي يغطي متطلبات الحزب العسكرية، بما في ذلك تجارة المخدرات.
منذ عام 2000، عادت فكرة التمويل الأجنبي تستهوي بعض المشاركين في ربيع دمشق، وقد بدأت هذه المحاولات عبر نافذة “المساعدات الحقوقية”. وفي البدء كانت خجولة وعبر وسيط مصري (بهي الدين حسن) الذي يحصل على مساعدات غربية لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. وقد شغّل بهي الدين حسن في مشاريع مشتركة كل من حازم نهار ورضوان زيادة وغيرهما. وعلينا انتظار احتلال العراق وطلوع نظرية الصفر الاستعماري لرياض الترك وتأييد الاحتلال من رياض سيف من وراء القضبان، لكي تعود “نظرية التمويل الضروري للنجاح” إلى الظهور.
في لندن، أعلن أحد أبناء الجيل الثاني (أنس العبده، أحد أبناء محمد العبده من قياديي الحركة السرورية) عن ميلاد حركة العدالة والبناء، وقد توجه إلى باريس لطلب الانتساب لإعلان دمشق وسلم ذلك لهيثم مناع واثنان من قيادة حزب الاتحاد الاشتراكي (كانا وقتئذ في باريس). حاول العبده تنظيم الإسلاميين غير المنضوين في حركة الإخوان المسلمين باقتباس خطاب مقتبس من التجربة التركية. إلا أن الحركة راوحت مكانها ولم ينتسب لها أحد. فكلف المسؤول الإعلامي بالتواصل مع السفارة الأمريكية للحصول على مساعدات تسمح ببناء محطة تلفزيونية وصدور صحيفة إعلامية بالعربية والإنجليزية. استقال الأمين العام للحركة بسبب ذلك، وكما قال في استقالته: صارت الحركة تتحدث عن حماس كتنظيم إرهابي في الطبعة الإنجليزية إرضاء لمن يمولها). ووفق شهادة له وقتئذ: (لا أعرف إن كان إعلان دمشق يعرف بعلاقات العبدة المالية، لكن أبو عصمت بالتأكيد يعرف كل شيء –أبو عصمت القصد رياض سيف).
من جانب آخر توجه “عبقرينو” (كمال اللبواني) إلى الولايات المتحدة للحصول على مساعدات للمعارضة. هذه المساعدات يتحدث عنها في الشهادة التالية للنص. مع تحفظنا على أمانة طريقة العرض والأسماء، التي تعرض وكأنها تصفية حساب مع من اختلف معه، أكثر منها مع من أشرف بالفعل على صرف ما جاء من “مساعدات لأسر المعتقلين”. (التسجيل الصوتي لكمال اللبواني).
كل هذه الأحداث سبقت ثورة الشعب السوري في آذار/مارس 2011، ومن المأساوي القول اليوم، بأنها تفاصيل صغيرة أمام عمليات الشراء والاحتواء والإغراق المالية التي وقعت في ثماني سنوات. والتي أحرقت أسماء نضالية وعرّت تجار الشعارات وبائعي القناعات.
ولكن هذا الأمر يحتاج إلى تفصيل وحلقات قادمة.
التسجيل الصوتي لكمال اللبواني