“نتابع موضوعنا عن الوصفة السحرية لصنع شعب جاهل؟!!!
بعد الصفنتين الماضيتين، نتابع معًا في صفنة ثالثة في ثنائية السلطة المستبدة المركبة من تحالف السلطتين (السياسة والدينية).
وإليكم ما يلي:
التحالف المشبوه بين السلطتين السياسية والدينية: آليات صناعة الجهل
الأفكار المتجذرة “بين الوهج والوهم”:
أفكار لا تولد:
في عصرنا هذا، تبرز أفكار تنمو في الخفاء، بعيداً عن الأضواء، تشكل وتتموقع في الأذهان دون أن ندرك، تنغرس في الوعي الجمعي على هيئة عادات وتقاليد ومخاوف، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من تكويننا النفسي والذهني. هذه الأفكار الخفية، رغم هشاشتها، تكتسب قوة وتأثيراً مع الزمن، تُغذي بيئة خصبة لصناعة الجهل ذاتيًا، مستغلة العالمين الواقعي والافتراضي اللذين أصبحا متداخلين بشكل لا ينفصم، مكملين لبعضهما البعض.
التحالف المشبوه بين السلطة السياسية والدينية يبرز كمثال صارخ على استغلال هذه الأفكار. شهدنا كيف تمركزت حالات اعتقال تعسفي، واغتيال لشخصيات عامة تنادي بالحرية، على يد جماعات مسلحة تدعي الدين، في مشهد يعكس تواطؤًا بين القوى السياسية والدينية. هذا التحالف لم يعد مجرد تعاون مؤقت، بل أصبح استراتيجية ممنهجة لتعميق الجهل وقمع الأصوات المنادية بالتغيير والتقدم، والحرية، والعيش المشترك، وبناء السلام والتنمية المستدامين.
الإجابة على هذه الأسئلة لن تخرج عن سياق موضوعنا الذي بدأناه ألا وهو الإجابة على السؤال الرئيس.. (كيف تصنع شعبًا جاهلًا؟!) ويقدم لنا حاضرنا المهيأ للاكتشاف الكثير من الإجابات وذلك رغم الأجواء العامة الخانقة، خصوصًا بعد ثورات الربيع العربي، واستمرار تفعيل الأنظمة السياسية المدمرة في الحيز “الواقعي والافتراضي” على حد سواء عبر شبكة معاونين لهم أخلصوا لدولة الفساد لمصالحهم الشخصية من ناحية، ومن ناحية أخرى لسفك الدماء على يد الفاشية السياسية والدينية، وحيث أنهم أيضا أنموذجين تجسد في وجودهما الفعلي مفهوم صناعة الجهل وتجهيل الشعوب، وصناعته محليا من خلال خطوط إنتاجية (سياسية) و(فتاوي دينية) لا تتوقف ساهمت بطبيعة الحال في تعليب الجهل وتوصيله للمنازل مغلفا بغلاف كتب عليه تاريخ الإنتاج “عام 2011” وترك مكان تاريخ الانتهاء شاغرًا!!!.
لقد تم استخدام “الأفكار التي لا تولد”، والتي تنمو ذاتيًا حولنا دون أن نشعر، كأداة لهدم البناء الثقافي والمعرفي لشرائح عريضة من الشعوب. استغلال الجهل بشتى أنواعه أصبح سلاحًا بيد السلطات لتمديد نفوذها وإشاعة الظلام في أوسع مساحة ممكنة من عالمنا.
تناقضات هذا التحالف، على الرغم من ظهورها بمظهر المعارضة في البداية، تكشف عن تطابق في الأهداف والمبادئ. الشعار المشترك “من ليس معي فهو ضدي” يفضح طبيعتهما المتطابقة ويؤكد على خطورتهما في تشكيل واقع ملبد بالجهل والتخلف.
البصيرة في عصر الظلمات:
أن تنظر ولا ترى؟!
كم منا يعيش حياته ناظرًا دون أن يرى الحقيقة المحيطة به؟! إن تطبيق القواعد الإنسانية العتيقة على أنفسنا والقيام بمحاكمة ذاتية عادلة قد يكون المفتاح لإيقاظ وعينا وتحرير فكرنا من أغلال الجهل والتسليم الأعمى. فمن خلال هذه المحاكمة، نستطيع أن نرى بوضوح كيف أن الأفكار المغروسة فينا، والتي نمت وترعرعت تحت تأثير التحالفات المشبوهة بين السلطات السياسية والدينية، قد شكلت حاجزًا يحول دون رؤيتنا للعالم كما هو بالفعل.
الوعي الذاتي والحلم الديمقراطي:
إن الخطوة نحو “الحلم الديمقراطي” تبدأ بإدراكنا لحقيقة أن لنا الحق في تحقيق أحلامنا وبناء وطن يعبر عن طموحاتنا ويرعى مصالحنا، بعيدًا عن الظروف الاقتصادية الطاحنة والأزمات السياسية المتلاحقة التي يُفترض بالزعماء المتصدرين للمشهد حلها.
أليس من حقنا أن يكون لنا حُلم؟!!! ونشرع في بناء وطن يحتوينا ونحتويه.!!! خصوصًا حينما يستمر “الوطن” على تقديم نفسه على أنه حزمة الظروف الاقتصادية الطاحنة أو مجموعة من الأزمات الكبرى التي تبدأ فجأة، وتنتهي بتدخل الزعيم أو الرئيس الحكيم أو المؤمن الذي يقدم لنا نفسه -هو الآخر دائما- على أنه هو الضرورة أو الحتمية أو المُخَلّص، وأحيانا الأب الحنون!!!، والذي يزعم أنه يختار أفراد أسرته الكبيرة “الحكومة” بعناية إلهية، وينتقيها فردًا فردًا من صفوة الصفوة لتقدم نفسها هي الأخرى بأنها تستعين بتوجهات الرئيس، وتدرس توجهات الرئيس، وتسبح بحمد توجهات سيادته العبقرية، لنكتشف بعد كل ذلك أن ما يدور حولنا هو مجرد فشل متراكم على فشل يحملنا إلى فشل.
هذا التحرر الذهني يتطلب منا إعادة التفكير في الدور الذي يلعبه كل من الساسة ورجال الدين في حياتنا. فالتاريخ يعلمنا أن السيطرة وإنتاج الحيل التجهيلية هي أساليب قديمة قدم الإنسان نفسه، ومع ذلك، لا تزال فعالةً في السيطرة على العقول وتوجيهها حسب الرغبات.
يتطلب الأمر منا الشجاعة لرفض هذا الواقع والسعي نحو بناء مجتمع يعتمد على الفهم والوعي والتفكير النقدي. فالتحرر من الجهل ليس مجرد تحد شخصي، بل هو مهمة جماعية تتطلب جهودًا متضافرة من جميع أفراد المجتمع.
نحو بصيرة جديدة:
الطريق إلى المستقبل يمر عبر تحدي الأفكار الموروثة والمسلمات التي تُفرض علينا، وإعادة تقييم العلاقة بين الدين والسياسة في تشكيل وعينا وهويتنا الوطنية الجامعة. علينا أن نعيد النظر في كيفية تأثير هذه التحالفات على حريتنا في التفكير والتعبير، وأن نبحث عن طرق لتعزيز المشاركة الديمقراطية والمساءلة في جميع جوانب حياتنا.
في النهاية، يتطلب بناء مجتمع مستنير استعدادًا لمواجهة التحديات والتغلب عليها، والإيمان بقدرتنا على إحداث تغيير حقيقي. يجب علينا جميعًا العمل معًا لتحقيق هذا الهدف، مسترشدين بالحكمة والتفكير النقدي -كما أسلفت-، والتزامنا بقيم العدالة والمساواة. ينبغي لنا أن نسعى إلى ترسيخ مبادئ الديمقراطية ليس فقط كنظام حكم، بل كثقافة تحترم الاختلاف وتعزز الحوار البنّاء والتفاهم المتبادل.
إن التحدي الذي نواجهه اليوم يتطلب منا أن نعيد التفكير في دورنا كأفراد في المجتمع، وأن نكون أكثر وعيًا بالتأثيرات الخارجية التي تشكل آراءنا وأفكارنا. يجب علينا أن نتسلح بالعلم، وبالمعرفة وأن نكون مستعدين للدفاع عن حقوقنا وحرياتنا في مواجهة أي محاولات للتضليل أو القمع.
تحرير العقل “خطوة نحو الإصلاح”:
تحرير العقل من قيود الجهل والأفكار المسبقة يتطلب جهدًا متواصلًا وإرادة قوية. هذا يعني التشجيع على التفكير الحر والمبدع، والحوار البناء، وتعزيز المناهج التعليمية التي تركز على القراءة، والبحث، والتحليل، والتساؤل بدلاً من التلقين، والإملاء. كما يعني ضرورة البحث عن مصادر معلومات متنوعة وموثوقة لتكوين رأي حر مستنير.
المسؤولية الاجتماعية والسياسية:
المسؤولية في مواجهة تحديات العصر لا تقع على عاتق الأفراد وحدهم، بل تمتد لتشمل المؤسسات السياسية، والدينية، والتعليمية، والإعلامية. يجب على هذه المؤسسات العمل بشفافية ونزاهة، وتوفير الدعم للمبادرات التي تعزز الوعي العام وتحترم حقوق الإنسان والحريات الأساسية.
في ظل واقع مرير وصل بنا الحال إلى أن كل ما نكتبه وننشره متابع سواء إن كنت تنتقد أو تؤيد والعكس صحيح. ووصل الأمر من جانب الدول في هذا السياق إلى اتخاذ هذه الآراء المنشورة والمتاحة للتواصل والتفاعل الإنساني كوثيقة تضع صاحبها تحت طائلة القانون -المزعوم- وتدينه بها “خصوصًا في الدول الشمولية والتي تعرف وتصنف عالميا بـ دول العالم الثالث”
نحو مستقبل مستنير:
في زمن تزداد فيه التحديات تعقيدًا، من الضروري بناء مجتمعات تقوم على أسس الشفافية والمحاسبة، حيث يلعب التعليم والثقافة فيه دورًا محوريًا في تنمية الوعي وتشجيع الابتكار والإبداع. يجب أن نعمل على تطوير نظم تعليمية تركز على تنمية مهارات التفكير النقدي، والإبداعي، وحل المشكلات، وتقدير النقد البنّاء، وتخرج كل من يعمل على ذلك من دائرة التهم المعلبة والجاهزة من تكفير أو تبديع أو تخوين أو العمالة.
وأختتم كلامي مكررًا أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب جهودًا مشتركة من جميع الأطراف في المجتمع، بما في ذلك المؤسسات التعليمية، والأحزاب السياسية، والمنظمات الدينية، ووسائل الإعلام، والمجتمع المدني. يجب علينا جميعًا العمل معًا لتعزيز ثقافة الديمقراطية والحرية كثقافة مجتمعية، مع الحفاظ على احترام التنوع والاختلاف. وإدارتها بشكل صحيح.
في الختام، الطريق نحو مجتمع مستنير وديمقراطي ليس سهلًا، ولكنه ضروري. يتطلب الأمر منا التزامًا بالعمل الدؤوب والإيمان بقوة الإرادة الإنسانية للتغلب على العقبات. من خلال السعي نحو التعليم والوعي والمشاركة الفعالة، يمكننا بناء مستقبل يسوده العدل والمساواة والحرية للجميع.
فانفض غبارك أصناما وأضرحة *** وانهض عزيزًا كريمًا أيها البلد.!!!
[1] العنوان وكثير من الأفكار مقتبسة من كتاب صديقي المفكر والصحافي والشاعر طارق سعيد أحمد من كتابه (كيف تصنع جاهلًا) فله جزيل الشكر والامتنان لسماحه لي بذلك.