في نهاية القرن الماضي حرر محمد حافظ يعقوب فيما حرر، مادة “عمانوئيل كانت” في موسوعة “الإمعان في حقوق الإنسان” وكتب مُكثِّفا علاقة الفيلسوف الألماني بالحرية وتحطيم الفكر المطلق:
“إن الفكر الحر هو الفكر المستقل المتحرر من الأحكام الناجزة وتوجهات العقائد المتوارثة. إنه الفكر الذي لا يعترف بغير شرعية القوانين الطبيعية أو الخلقية التي يكتشفها عقله. أما القانون فهو الذي يحل المعضلة القديمة بخصوص الحرية والطاعة، والسيادة والقيادة. إذ كيف للناس الطاعة ولا قائد، والخدمة ولا سيّد من غير القانون.
هكذا كسر كانت هيمنة الفكر المطلق، وأعاد للإنسان مكانته ككائن حر. فقد أتاحت مقولة محدودية العقل تنصيب الاختيار في قلب العلاقة بين الناس. وصار الناس أحراراً بالاعتقاد بكل ما تملي مصالح البشرية وتدفع إلى التسليم به. وهكذا وضع كانت القاعدة الشرعية للفكرة الديمقراطية الحديثة ولفلسفة الحقوق الإنسانية: فإذا صارت الحرية الإنسانية ممكنة نظرياً وغدا التنوع الإنساني بل وكل إيمان مسوغاً؛ وهذا أسّ الديمقراطية”…
لم تكن كتابات “أبو رشد” المتعددة بعد وقبل هذا التاريخ، لتكفي نهمه البحثي حول قضية الحرية. هذه الكلمة التي لخصتها أمهات القواميس العربية من تاج العروس ولسان العرب وغيرها بالقول: الحرية اسم مصدرها من “حر يحر إذا عتق”… أي أنها لا تتعدى في صلاحية الاستخدام جملة سيد عنترة بن شداد يوم قال له: كرّ وأنت حر. باختصار: معنى الإعتاق وليس الانعتاق. وباستثناء فاصلة قصيرة ومقتطفات للمعتزلة والنظّام، وأخرى للمتصوفة وابن عربي، قلما نوقشت هذه الفكرة بعمق تجاوز استعمالها اللغوي السائد. من هنا بقيت عديد الإيديولوجيات المعاصرة والقديمة تحت سقف نقل العبودية من سيد/منظومة إلى آخر (ى)، بما فيها الإيديولوجية المودودية-القطبية القائمة على ما تسميه “نقل عبودية البشر للبشر إلى عبودية البشر لله وحده”.
في كتابه الصادر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”: الحلم المحبَط – في الهوية والدولة والحداثة، بالنسبة للمفكر الفلسطيني والمناضل الحقوقي محمد حافظ يعقوب وفي التقديم: “كلُّ تأمّلٍ حريةٌ، وهو بالضرورة مغامرةٌ ليست مضمونة النتائج. إنه لا يخضع للقوالب الناجزة، وتستعصي عليه المدرسة التي ينتمي إليها، إن كان ينتمي إلى مدرسة فعلا… نكتشف في كل تأمّل أن اليقين، أي ما يقع في أساس المعرفة ويشكل لحمتها وأس ضمانها وصحتها، هو إلى الاعتقاد الأسطوري أقرب… فالفكر الحداثي مثلًا، وهو نتاج الأجيال الثقافي منذ حركة الأنوار، استند إلى معتقدات أسطورية لا زال بعضها فاعلًا حتى اليوم، وعلى الرغم من أنه استمد سلطته الآسرة من انتقاده الأساطير وتناقضاتها، فإنّ وهَنَه يكمن أساسًا في تزعزع اليقين بأنّ بداهاته متطابقة مع الواقع. والمشروع الحداثي، وفق فلسفة الأنوار، استند إلى إحالة فكرية من شقّين: الأول تعريف الإنسان في بُعده الاجتماعي باعتباره فردًا أولًا، وفي بُعده الفلسفي باعتباره ذاتًا Sujet فاعلة ومنتِجة للتاريخ، وتمثّل، وفق ألان تورين، الرابط بين “الفردية والكونية، المتمثلة إما في العقل أو الله أو التاريخ” . وتنزلق بداهات الحداثة اليوم (الفرد، العقلانية، مفهوم الطبيعة) نحو خانة الأساطير، كما لو أن شحنتها الاعتقادية تأكّلت وتكشفت عن تناقضات بنيوية. يلجأ الإنسان في لحظات اليأس إلى وسائل ميؤوس منها، ويعتقد إرنست كاسيرر أن “أساطيرنا السياسية المعاصرة هي من هذه الوسائل”.
إنّ التأمّل مغامرة كما سلف، وهو يقترح صيغةً للحقيقة تُفترض فيها سمتَا التماسك والصلاحية لبناء الوعي، إضافة إلى أنه مُطالَب بإنجاز توافق بين الذاتية والطبيعة، أو بين صورة الطبيعة والفكرة عنها. إنه، إذًا، أمام تحدي بناء استراتيجيا مفهومية غرضها التوافق بين الطبيعة والفكرة عنها، ومصالحة الفرد والجماعة من البشر.
لربما تكون الحداثةُ مسلّحةً بمفاهيم وتسويغات فلسفية مستمرة، وبالقدرة الدائمة على إعادة الإنتاج الرمزي، لكن الأزمة اليومَ معيارية، باعتبار أنّ مرحلتنا تواجه فكرًا يتعامل معها بمعايير يصعب الركون إليها لإنتاج الحقيقة، فهي إما تفكّكت لفقدانها شرعيتها المتأتية من كفاءتها في إنتاج المعرفة، وإما لا تزال تتشكّل، أي لم تكتسب بعدُ ما يوفّر شرعيتها التي تتوّج أدوات العقل (المنهج، المفاهيم، حقول المعرفة … إلخ) وتضع معطياته في خانة الحقائق.
لا يعدم المراقب ملاحظة أن العلوم جميعها، لا العلوم الإنسانية والاجتماعية فحسب، دخلت، في مرحلة تفكّك داخلي متسارع منذ أربعة عقود ونيِّف، وتكفي مراجعة أقوال علماء اليوم بخصوص اللّبْس والعجز عن التعيين واللا أدرية في مقابل اليقين الذي كان يسم معارفهم وعلومهم. إن البحث في قضية الحرية الإنسانية يواجِه محدوداتها، سواء تجاه الطبيعة أو الأقران في المجتمع ومألوفهم وأنماط عيشهم. أما الحرية التي يمكن التفكير فيها فتتعلق بالعسف والاستبداد، أي الحرية السياسية وما يرتبط بها من أبعاد “نظرية” تتصل بالشرعية السياسية و”إجرائية” ترتبط بالتمثيل والنظام السياسيَّين ونمط الحكم واختيار الحكام وتداخل السلطات.
يفضي ما سبق إلى تقاطع قضايا الحرية والهوية مع مفهوم “العبودية الطوعية” (قابلية البشر للاستعباد) لإتيان دو لابويسي، وهنا ثمة علاقة بين كرّاس ماكيافيلّي الأمير وكتاب لابويسي العبودية المختارة؛ فقد عرف الأول انتشارًا واسعًا في فرنسا، وبخاصة في أوساط الطلاب، ورجّحت سيمون غويار فابر في مقدمتها على العبودية المختارة، أن لابويسي تأثَّر بـ الأمير وعزم الردّ عليه، لكنّ الطبعة الأولى لنصه نُشرت بعد أكثر من عشر سنوات من وفاته، لاحتمال خضوعه مع الزمن لتأويلات وتعديلات قوْلَبَته بما يتناسب مع أهواء الأزمنة، لكنه تجاوز عند نشره مؤلِّفَه وغرضَه من تأليفه، فثمة فجوة بين نصه وبين تأويلات حُشِيَ بها تُسقِط عليه قضايانا المعاصرة، فهو لم يذكر أيًّا من معاصريه، أمثال مارتن لوثر وإيراسموس وكالفن، مع أن آراءهم كانت واسعة الانتشار زمنَ كتابة النص وذات علاقة مباشرة بالسياسة.
بات يُنظر إلى العبودية المختارة مع الزمن بصفته نداءً للحرية، وبيانًا ضد الملَكية المطلقة، ودفاعًا عن الديمقراطية، وما عاد بعد نشره مِلْكًا لمؤلفه، بل خاضعًا لحاجات الناس وأهوائهم وتوظيفاتهم، فالبحث في ما لا يقال هو الذي يعطي أيَّ نص معناه “الحقيقي”، إن كان ذا معنى.
ليست قراءتنا لابويسي وابن خلدون والكواكبي إلا لمقارعة الاستبداد المتناسل، ونيل الحرية أُمِّ الفضائل جميعًا، ونص العبودية المختارة يشد أزرنا في مقاومة العسف، وفي السعي إلى الحرية. فكيف يُستعبَد الإنسان؟ وما الآليات التي تُسهّل استعباد الإنسان للإنسان؟
إنّ تأملات لابويسي في استمراء العبودية (ترويض النفس على القبول بها) تثري تأملاتنا بخصوص ظاهرة العبودية وتعقيداتها وألوانها، ففي العبودية المختارة يحدّثنا عن الذين يجعلون الاستبداد ممكنًا أكثر من حديثه عن الاستبداد نفسه، ويستند إلى فكرة تعذُّر الاستبداد إذا لم يكن ثمة من يعين عليه أو يرضخ له، ويطرح أسئلة الأزمنة كلها: هل الحرية ضرورية للإنسان مهما تكن الظروف؟ وهل فقدانها هو بسبب استعداد فطري لدى المستعبَدين، كما يقول الطغاة؟ وهل الحرية ضرورية لجدارتنا بها أم لحُسن تدبير الاجتماع؟ وكيف ينجح الطغاة في حيازة الولاء المطلق لمحكوميهم؟
ثلاث روايات وأخرى للابويسي
ثلاث روايات عن السياسة تمنحنا ثلاثة طُرزٍ لممارستها، نَتْفُ ستالين دجاجة حيّة وإقبالها عليه بعد تلويحه لها بالحبوب، أي حصر متطلبات الشعوب في الطعام فقط، وشعرة معاوية مع الناس، أي السياسة بمعنى الإدارة والتدبير، والرؤوس التي أينعت وحان قطافها لدى الحجاج، أي البطش المطلق. أما لابويسي، فلا يستخدم مصطلح “الحرية” Liberté بمعنى نقيض “العبودية” Esclavage، بل مصطلحFranchise ، الذي يعني في قاموس Littré “الانعتاق” و”عدم الارتباط بأي سيد”، وهو المعنى نفسه للحرية في معجم مقاييس اللغة لابن زكريا، الذي يقول: “ما خالف العبودية”. بناءً عليه، نستنتج أمرين: الأول، أن محتوى مصطلح الحرية اليوم هو غير محتواه لدى القدماء، عربًا وأوروبيين، فالحرّ هو غير العبد، والحرية هي انعتاق العبد من ربقة السيد. والثاني، أن مفهوم الحرية المتداول اليوم حديث نسبيًّا، ومرتبط بشدة بالحداثة السياسية وبعوالمها.
بخلاف الآراء السائدة، وبصرف النظر عن أن الحرية حق طبيعي للبشر، لا يرجِّح محمد حافظ يعقوب أن الإنسان يولد حرًّا بخلقته، بل في مجتمع يتيح له أن يكون حرًّا أو لا، أي إن الحرية في رأيه علاقة اجتماعية، والأمر لدى زيغمونت باومان مشابه، فقد ذهب إلى أن الحرية امتياز اجتماعي وليست لأن الإنسان وُلد حرًّا.
هذا لا يلغي، في رأي المؤلف، أنّ على الإنسان أن يكون جديرًا بحريته، وأن يذبّ عنها في وجه مفترسيها من الطغاة والمأفونين والمستبدين، وليس في هذا تناقض، فكلامه يعني أن الطبيعة لا تهبنا الحرية ناجزةً بل توفر فينا مَلَكة الحرية مع إمكانية أن نصبح أحرارًا، فهي تشبه الوعد الطبيعي الذي علينا ملؤه بالكفاح من أجل أن نكون جديرين به.
يذهب المؤلف إلى أن اتساع دائرة الصمت في المجتمع يعني الكبت وتغييب الحرية والتقيّة وتكبيلَ حق الاعتراض والتنديد بمكامن الخلل، أما الديمقراطية فـبرأيه “ثرثارة”، لأن توهّم الحرية يُطلق شهية النقد ويعزز إرادة المشاركة في صنع القرار.
هل عصرنا هو عصر الرأسمالية؟ وهل ما نعيشه فيه انتصار نهائي للرأسمالية وفق فرانسيس فوكوياما، الذي ترجمت العولمة ما كتب إلى أهم لغات العالم، أي ليبرالية رأسمالية خرجت منتصرة من الحرب الباردة فصحّحت مسار التاريخ المتخبّط؟ أم أنه انعتاق شامل للفئات الاجتماعية (الأقليات، والنساء، والأطفال، والعمال …) وللشعوب (المستعمَرة المنعوتة بالعالم الثالث)، ودمقرطة سياسية (تحوّل من نظم استبدادية وشمولية إلى أخرى تعددية وليبرالية سياسيًّا) وتحرر اجتماعي (من العمل المنزلي والحرفي واليدوي إلى التقانة وتقسيم العمل والأتمتة والمعلوماتية)، أي سيرورة من التوحيد والاندماج تتيح للبشرية المرة الأولى التقارب والتعايش أكثر في ظل حضارة جديدة حوّلت المعمورة قرية تزداد صغرًا باستمرار مع تطور التكنولوجيا؟
هل صحيح أننا إزاء عالم جديد اليومَ تتلاعب بمقدراته قوة واحدة أو قوتان، وأن عمليات التحرر الوطني قد ولّت، وأن الشعوب الحديثة الاستقلال تواجه التهميش والتحلّل وخسارة مكتسباتها الاستراتيجية القليلة المنتزَعة في المرحلة القريبة السابقة، وأن المرحلة اليوم مرحلة توسعٍ مطرد للرأسمالية يفاقم الانقسام بين الفقر والتهميش في طرف، والوفرة والعلم والتقانة في الطرف المقابل؟
لئن كانت الإجابات عن المساءلات السابقة بالإيجاب، فهل النزوع التوحيدي المذكور هو بين نخب تتقارب في المصالح ونمط الحياة والاستهلاك وبين جمهور يتزايد تماثلًا وتشابهًا في الملبس والذوق والهموم؟ وهل ما تحدّث به مثقفون مرموقون بخصوص مجتمع الجمهور هو اليوم حقيقة واقعة تسير نحو الاستكمال؟ وماذا عن التقسيم العالمي للعمل؟ وهل ما نعيشه اليوم، كما يقول كثيرون في الغرب، من تفجّر التناقضات التي ولّدتها عملية التحديث أزمةُ انتقال من نظام عالمي إلى آخر، سيكون من نتائجها المباشرة تكسير التوازنات القائمة وإعادة بناء النظام العالمي على أسس جديدة تهدد العديد من المجتمعات بالخروج من “التاريخ”؟
وأخيرًا، ألا تؤدي هذه التساؤلات إلى سؤال رئيس هو: كيف يمكن إنسان اليوم التفكير في مشروع حرية إنسانية مزعوم في ظل الانهيارات والانكسارات المادية والمعنوية التي يعيشها، وما يشهده من بروز هوياتٍ تدميرية وعصبياتٍ عضوية استعادت ما قيل إن أيامه مضت إلى غير رجعة؟
إن تناقضات عالم اليوم المتفجر جعلت العلوم الإنسانية تفصح بوضوح عن عجزها المتزايد عن الإحاطة بالمتغيرات الجارية، وتبدي حولها آراء متخبطة، ومن مظاهر هذا الأمر تنامي مشاعر الإحباط والعجز عن إمكانية التغيير وتسيّد الفكر اللاأدري، وغير ذلك.
إنّ ارتباط الدولة الحديثة في أوروبا بظهور الرأسمالية يثير إشكاليات نظرية كثيرة تجعل دراسة الدولة الحديثة و”الحداثة” أمرًا شديد اللّبْس، ويشتدّ اللّبْس مع تحديد التخوم الفاصلة بين الحقل الخاص بالسياسة (المؤسسات التمثيلية، الأحزاب السياسية، الدستور، بنية السلطة) ومصادر الشرعية السياسية (التي تجعل ممارسات السلطة شأنًا مقبولًا)، وحقول التنظيم الاقتصادي للحياة، إضافة إلى أنه يثير مشكلات منهجية ومعرفية، ويكشف عجزًا عن الإحاطة بإشكاليات التعيين، وكيفية التمييز بين السياسي والاجتماعي في ظاهرة الدولة، خصوصًا الحديثة منها، وكيفية رسم الحدود بين الاقتصادي/ الاجتماعي و/ أو الثقافي في الحداثة.
أين يبدأ الحديث؟ وأين ينتهي القديم؟ هل نستطيع القول بقطيعة تاريخية كما هو شائع في الأدبيات المتداولة؟ وأخيرًا كيف نتقبّل مفاهيم محددة بالمشكلات التي تتعامل معها، ومشروطة بالبحث، أو المدرسة الفكرية التي تنتمي إليها؟
كلُّها أسئلة لا بد من الإجابة عنها؛ فصلاحية المفاهيم تكون بمقدار إجابتها عن تطلعات الأجيال، إذ ليست “الحقيقة” ولا التماسك المنطقي هما ما يوفّر للمفاهيم جدارتها بل استطاعتُها تحرير الجماعة من أزماتها، كما يمدّ المفاهيمَ بالشرعية نظامُ علاقاتها بغيرها من المفاهيم المشتركة في النظام المعرفي نفسه.
يشير كلّ ما حولنا إلى استنفاد “عصر الأنوار” طاقته التي فبركت العالم الحديث. فهل صار ذلك العصر جزءًا من ماضٍ عَبَرَ إلى غير رجعة؟
إن العودة الدائمة إلى معايير “عصر الأنوار” وقيمه تعني أنه لم يمت، وأنه يحثّنا على استنباط طرقنا الخاصة نحو عصر أنوارٍ جديد، فـ “فرضية موته [عصر الأنوار] ليست مقنعة” كما يقول يورغن هبرماس.
يرى مؤلف الحلم المحبط أنّ التزمّت الهوياتي (العنصرية) واستفحاله في العقدين الأخيرين ناجمان عن تلاقي سيرورتين تاريخيتين كبريين هما: وَهَن الحداثة وتعثّر خطابها وخبوّ دورها المركزي قاطرةً للتاريخ العالمي وتراجع طاقة الدولة القومية الحديثة في الدمج الاجتماعي وفبركة أمّة وتكلّس دولة الرفاه من جهة، ومن جهة أخرى اندحار العولمة عن طوباويتها وغُدُوّها أشبه بقطار يقوده سائق أرعن يكتسح الفيافي ويلفظ ركّابَه بعد أن يجردهم من متاعهم وأرواحهم.
إن مسار تأكّل العقلانية في الحداثة مسار مزدوج الخطّ: خطّ ارتباطه بأيديولوجيا التقانة واختزالاتها الفاحشة للعقل، كما عند تسيُّد الفلسفات والعلوم الواطسونية والبافلوفية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، بتوسلها عند التعامل مع الإنسان علمًا للفلسفة يجافيه التأمل، وبعلمٍ للنفس يستبعد النفس، وبموضوعية تخلو من الذاتية.
عندما تكفّ الحداثة عن أن تكون قاطرة للتاريخ تتسلل الهوية بصيغتها الفاحشة وتشرع في التمدّد والتسيّد، وفي هذا يوافق المؤلف رأيَ حنة آرنت في مقالة في الثورة حول أن العنصرية (الفاشية والنازية وأشباههما) هي من منتوجات الحداثة، وأن في أُسّ فكرة الدولة القومية جذرًا لعنصرية ممكنة، وقد أثبتت وقائع التاريخ المعيش جدارة هذا الرأي في فهم حوادث البلقان وتركيا وسورية ولبنان والكويت والعراق بخصوص الكرد والبدون واللاجئين والنازحين، فالذي أشعل العالم منذ الثورة الفرنسية وفق آرنت هو “التوليف القاتل بين الثورة والقومية، بين الثورة القومية والقومية الثورية، بل بين القومية التي تنطق لغةً ثورية والثورات التي تهيّج أساسًا الأهواء القومية”.
إن غرض كتاب الحلم المحبط هو مقاربةُ قضية غلبة مقال الهوية وتسيُّده ووهَن مقال الحرية في العقود الأخيرة على نحو خاص. وهو ليس كتابًا في التاريخ بل في المعارف، وفي الأفكار وحواملها الاجتماعية.
يريد محمد حافظ يعقوب أن يذكرنا، عبر تفكيك الضبابيات السوداء السائدة، بحيوية فكرة الحرية وضرورتها، بما ذكرنا بجملة هوركهايمر وأدورنو في تعريفهما للتنوير: مشروع غير منجز، ورائعة جورج حنين: الحرية كحنين ومشروع.
- محمد حافظ يعقوب
باحث فلسطيني، من مواليد عكا، فلسطين. حاز دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة باريس (السوربون). عمل في التعليم والصحافة والبحث والاستشارات. رأس الجمعية العربية لحقوق الإنسان قبل 35 عاما ومن مؤسسيي “اللجنة العربية لحقوق الإنسان” حيث أشرف على الدراسات والبحوث، وحرر أهم المواد الفلسفية والسياسية في موسوعة “الإمعان في حقوق الإنسان”. تتركز اهتماماته حول القضية الفلسطينية، والصهيونية، والنظرية السياسية، وحقوق الإنسان. من مؤلفاته: “نظرة جديدة إلى تاريخ القضية الفلسطينية 1917-1948” (1973)؛ “التخلف العربي والتحرر العربي” (1977)؛ “فالاشا إثيوبيا: التاريخ، الأسطورة والمنفى” (1997، 1999)؛ “اللاجئون الفلسطينيون والسلام: بيان ضد الأبارتايد” (1999، 2000، 2023)؛ “العطب والدلالة: في الثقافة والانسداد الديمقراطي” (1997). وله عدد من الفصول في كتب جماعية بالعربية والفرنسية، إضافة إلى عشرات الدراسات المنشورة باللغتين.
للدكتور محمد حافظ يعقوب
قراءة : لجنة مختارات الكتب