الشاعر لبيد بن ربيعة والمعارضة السورية؟!!!

ذكر الزوزني في كتابه (شرح المعلقات السبع) في مقدمة شرحه لمعلقة الشاعر المخضرم[1] لبيد بين ربيعة -رضي الله عنه- فكتب: قال الأصمعي: وفدَ عامر بن مالك في رهط من بني جعفر ومعه لبيد بن ربيعة ومالك بن جعفر، وعامر بن مالك عمّ لبيد، على النعمان، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي، وكان الربيع نديْمًا[2]، أديبًا حسن الحديث والنَدام، وأحبه النعمان، فكان إذا أراد أن يخلوَ على شرابه بعث إليه، فلمّا قدم الجعفريون، وكان يَحْضُرُون النعمان لحاجتهم فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم، وذكر معايبهم، وكان بنو جعفر له أعداء، فلم يزل بالنعمان حتى صدّه عنهم، فدخلوا عليه يومًا فرأوا منه جفاء، وقد كان يكرمهم ويقرّبهم، فخرجوا غضابًا ولبيد متخلف في رحالهم يحفظ متاعهم، فأتاهم ذات ليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فسألهم عنه فكتموه، فقال: والله لا حفظت لكم متاعًا ولا سرحت لكم بعيرًا، أو تخبروني فيمَ أنتمْ، وكانت أمّ لبيد يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الْمَلِك وصدّ عنا وجهه، قال لبيد: فهل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول مُمِضٍّ مؤلم لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدًا؟!!! قالوا: وهل عندك شيء؟ قال: نعم، قالوا: فإنا نبلوك[3]، قال: وما ذاك؟ قالوا: تشتم هذه البقلة، وقدَّامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة فرعًا، بالأرض تُدعى التَّرَبَة[4]، فقال: هذه التَّرَبَةُ التي لا تذكي نارًا، ولا تؤهل دارًا، ولا تسّر جارًا، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، أقبح البقول مَرعَى، وأقصرها فرعًا، وأشدّها قلعًا، بلدها شاسع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، فأَلْقَوْا بي أخا عَبْس، أرده عنكم بتَعْس، وأتركه من أمره في لَبْس. قالوا: نصبح ونرى رأينا في أمرك، فقال عامر: انظروا إلى غلامكم هذا، يعني لبيدًا، فإن رأيتموه نائمًا فليس أمره بشيء إنما هو يتكلم بما جاء على لسانه، وإن رأيتموه ساهرًا فهو صاحبه. فرمقوه فوجدوه قد ركب رحلًا وهو يكدم وسطه حتّى أصبح، فقالوا: أنت والله صاحبه، فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابته وألبسوه حُلَّة[5]، ثم غدا معهم وأدخلوه على النعمان، فوجدوه يتغدّى ومعه الربيع بن زياد وهما يأكلان لا ثالث لهما، والدار والمجالس مملوءة من الوفود، فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان أمرهم تقارب، فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم، فقال لبيد:

أكل يوم هامتي مقزَّعه[6] … يا رب هيجا هي خير من دعه

نحن بنو أم البنين الأربعه … سيوف جن وجفان مترعه

نحن خيار عامر بن صعصعه … الضاربون الهام تحت الخيضعه

والمطعمون الجفنة المدعدعه[7] … مهلًا -أبيت اللعن- لا تأكل معه

إن استه من برص ملمَّعه … وإنه يدخل فيه إصبعَه

يدخلها حتى يواري أشجعه[8] … كأنه يطلب شيئًا ضيعه

فرفع النعمان يده عن الطعام وقال: خبَّثت والله يا غلام عليّ طعامي، وما رأيت كاليوم قط، فأقبل الرّبيع على النعمان فقال: كذبَ والله ابنُ الفاعلة. ولقد فعلت بأمّه كذا وكذا. فقال له لبيد: مثلك فعل ذلك بربيبة بيته والقريبة من أهله، وإنّ أمي من نساء لم يكن فواعل ما ذكرْتَ.

قضى النعمان للجعفريين الحوائج من وقتهم وصرفهم. ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته. فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه وأمره بالانصراف إلى أهله، فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في نفس الملك ما قال لبيد. وإني لست بارحًا حتى تبعث إليّ من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال. فأرسل إليه: إنك لست صانعًا باتقائك مما قال لبيد شيئًا. ولا قادرًا على ما زلت به الألسن فالحق بأهلك[9]. أهـ بتصرف.

تناولت هذه الرواية بعد تمحيص دقيق، وصفنة عميقة، في واقعنا. وتوصلت -والحق يقال- أن بين أروقة معارضينا السياسيين -زعموا- من يتوسدون وسائد القوى المؤثرة في الشأن السوري، متسولين على أبواب أصحاب النفوذ والقرار في الدول الراعية لإدارة المأساة، يترجون منهم الدعم المالي والنفوذ السياسي. رابطين مصير بلدهم (الجنين) برفعة سادتهم (الأم)، وكرامة أبناء جلدتهم بحماية من نصبوهم أوصياء.

فمنطق تحويل النضال للخلاص من الاستبداد والفساد، إلى مكاتب استرضاء وإرضاء، للعرابين والدائنين الأبعد .. فهل ثمة شيء يفوق في وهنه الطاعة والمراضاة، وهل يملك شخص أو فريق الحق في أن يضع ثمنا لتضحيات شعب؟ وهل يحق -اللهم إلا لمن باع الضمير والقيم- أن يسمسر بمصير أهله وبلده؟

لا يتوقف دور هذه الفئة على بيع السيادة واختزال سيادة مواطن ووطن في اعتبارهم قُصّر، أي حشرهم قسرا، كما يقول الفيلسوف عمانوئيل كانط، قبل التنوير والبلوغ الضروري لخلاص الأشخاص والشعوب، بل يتمادى في صراعاتهم البينية المسطحة، وحربهم المعلنة دون حياء على كل من يتحدث عن سيادة الوطن وكرامة المواطن، فكلما قامت الجموع أو الأشخاص الذين حافظوا على مناعتهم الذاتية من الفساد والتبعية، بالحركة والفعل، أو خرج من بين ظهرانينا مبادرٌ بخطة إصلاحية تعد بفتح آفاق الأمل لشعبنا السوري، تنقذه من عثراته، يأتي هؤلاء، -الذين هم كأمثال الربيع- يسخّفون ويعترضون على تلك المبادرات، وما ذاك إلا ليبقوا ندماء وعملاء لهذه الدولة أو تلك[10].

يستخف هؤلاء المتملقون بالفكرة ويعارضونها؛ لا لشيء سوى لضمان استمرارية تبعيتهم ووفائهم لأسيادهم الأجانب، وتمسكهم بمناصبهم الوهمية. ويعمدون بكل ما أوتوا من قوة لإفشالها.!!!

نحن وبإلحاح شديد نحتاج إلى أشخاص يرفضون دور القاصر، والمأجور والتابع، فليس هناك تبعية “حلال” وتبعية “حرام”، وكل تَبِعٍ ذليل.

إنَّ رفع الصوت في وجه أصحاب النفوذ والسلطة بحجج لا ترد، وأمانة وصدق، تجبر الطغمة المتحكمة على استبعاد الأذلاء من مجالسها، ولا تأخذ بمشورتها غير السديدة، ويضطرها للتعامل مع السوري كائنا مستقلا سياديا وسيدا.

كلماتهم يجب أن تكون كنبل قول لبيد بن ربيعة، يتغنى بها العامة وينحت بها في الأذهان كنقوش الشعراء الخالدين، يقدمون مشاريع النجاة لشعبنا الأبي.

فلنلتمس معًا لبيدًا بين جنباتنا، لعلنا نجده ينبلج من ظلمات اليأس. لبيدٌ يحتاجه شعبنا كضرورة!

فاصفنوا معي علّنا نجده بيننا.

فما أحوجنا له.!!!

الدكتور محمد خير الوزير


[1] الشاعر المخضرم هو الشاعر الذي عاش في عصرين، ولبيد عاصر الجاهلية والإسلام، وكذلك الأعشى، هم من الشعراء الجاهلين العظام، الذين عاصروا الجاهلية والإسلام. بيد ان لبيد أسلم، والأعشى لم يسلم.

[2] النديم هو جليس الطعام والشراب والمسامرة (أي ملازم وصديق حميم).

[3] نبلوك: أي نختبرك.

[4] نبتة شائكة من نبات الصحراء.

[5] وكانت هذه عادة الشعراء إذا أرادوا الهجاء في ذلك العصر.

[6] مقزعة: محلوقة وبقيت منها بقايا.

[7] مدعدعة: مملوءة.

[8] الأشجع: هو الكف، أو ظاهر الكف.

[9] أهـ بتصرف.

[10] راجع صفنة (أيها العار إن المجد لك)
https://karkadan.org/shame-glory-be-to-you/

 

Scroll to Top