بدها صفنة
الدكتور محمد خير الوزير
“اللا عنف: حلم أم مجرد وهم عابر؟”
هل تساءلت يومًا عن سبب أن معظم الباحثين في مجال العنف وهم قادمون من الدول العنيفة؟ التي بنت إمبراطوريتها على جثث وأشلاء المدنيين الأبرياء.
هل هو مجرد صدفة أن تكون أشهر دراسة عن العنف قد أجريت في جامعة هارفارد الأمريكية، وهي الدولة التي بنت ثروتها على العنف الداخلي والخارجي والتوسع العسكري؟ قبل اغتياله بأشهر، قابل كمال جنبلاط المبعوث الأمريكي من أصل لبناني فيليب حبيب، وقال له حسب صحيفة النهار اللبنانية: “يا أخي ذبحتونا بأفلام العنف والحروب، واليوم شبابنا المتأثر بقصة “الحلم الأمريكي” صار عنده إذا حبيت تروح لأمريكا لازم تكون عنيف ومقاتل، ولما ما يروح ويبقى بالبلد، لا يفكر إلا كيف يصير رجّال بالعنف”. ذهب جنبلاط ضحية اغتيال غاشم، واستمرت الحرب الأهلية سنوات طويلة مزق لبنان وجعلت العنف جزءا من الخارطة السياسية للبلد.
في حياة مليئة بالعنف العسكري والبنيوي والثقافي، يطل علينا كتابٌ جديدٌ “أطلس اللا عنف”، يؤكد الدكتور هيثم مناع أن “العنف يؤجج العنف والحقد يزيد العمى”. وهذا، على ما يبدو، ليس مجرد حالة من الغضب بعد متابعة مباراة كرة قدم رديئة، أو مشاهدة فيلم كوميدي؛ ولكن نتيجة لمجموعة مهمات قام بها في مناطق النزاع المسلح ونضالات عقود في الدفاع عن الإنسان وحقوقه… لا يدعم الكاتب وجهة نظره فقط بالأحداث والمشاهدات والتجارب المعاشة، بل يؤكد عمقها في تحليل يتناول مختلف الجوانب النفسية والمجتمعية والسياسية للعنف في عالمنا المعاصر، مع العودة لرموز زرعت بذور ثقافة ترفض العنف منذ الحسن البصري وابن عربي إلى الشيخ عبد الله العلايلي والشيخ عبد الله الحامد والمهاتما غاندي والقائمة طويلة.
ولعل أبرز مثال على ذلك هو الدراسة المشار لها آنفًا، التي أظهرت أن العنف ليس مجرد نتيجة لأفراد يتلبسون بالعدوانية، بل هو أيضًا نتيجة للعديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
بناءً على هذه الدراسة، فإن الحل الوحيد لمقاومة العنف هو تعزيز ثقافة اللا عنف والتسامح في مجتمعاتنا، الأمر الذي لا يعني قبول الاستبداد وطغيان الحاكم، ولكن كما قلت بعد خروجي من السجن في مطلع 2012: بعدم السقوط في ملعب العنف الأعمى، لأن طغيان الحاكم يعجز عن مواجهة النساء والأطفال الذي يرفضون استمراره. فاللا عنف يكون بالتظاهر والاعتصام والعصيان المدني الذي يشل البندقية والمدفع ويحدد من الخسائر في الأرواح والبنيات التحتية والشجر والبشر. واللا عنف يبقي الأبواب مفتوحة بين أبناء المجتمع الواحد لتعزيز الحوار والتفاهم المتبادل بين الأفراد والجماعات، في المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة، ويعزز قيم التعايش السلمي وحل النزاعات بطرق سلمية.
ليس اللا عنف حلم صعب المنال، بل هو أرقى أشكال المقاومة لسرطانات عصرنا التي تفرز العنف اليومي من العلاقة المريضة بين الآباء والأبناء وبين الرئيس والمرؤوس، حتى تلك بين الأقوى والأضعف على صعيد الدول… مثل بسيط، كم من تريليون دفع في الحرب على العراق؟ وماذا لو دفع هذا المبلغ نفسه لمحاربة الجوع في إفريقيا؟ كم تكلف الحرب الأوكرانية الروسية، وما هي الفاتورة التي دفعها الجميع ومن كل القارات؟ ما هي التكلفة الفعلية لعقد زمني من الصراعات المسلحة في سوريا وكم نحتاج للعودة إلى بلد غير ممزق، وبحيرات دماء لم ينج منها أحد، ومستنقعات فساد حلت محل الإعمار والتنمية والتقدم؟
الخروج من العقلية “الحربجية” و”البارودة للرجال” ضروري جدا لنبصر مخرجا لأطفالنا يبصرون به تعبير الأمل. وليس هذا طوباوية حالمة، بل ضرورة وجودية لبقائنا. نحن بحاجة إلى العمل معًا كمجتمعات لتغيير نمط التفكير والممارسة القائم، إن حرصنا فعلا، على بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
هذا الكتاب الرائع بحاجة للعديد من الصفنات