عندما نقول نحو فهم أفضل، هذا يتطلب منا أن نخرج من حالة التعامل مع الأوضاع اليوم كما هي، إلى مراجعة جملة العوامل التي أفرزتها. بهذا المعنى، وكون معظم من كان طرفا أو شارك فيما حدث مازال على قيد الحياة، فإن عليه امتلاك الجرأة على الخوض فيما أسماه الصديق الراحل ميشيل سورا: القيام بالتحليل السوسيولوجي-السياسي على الساخنpolitico-sociologique à chaud . مع ما يحمل ذلك من آمال وآلام وطموحات وإحباطات ولكن أيضا من مخاطر. لأن التاريخ المعاش هنا، يصبح حالة تأمل في الزمن الذي ما زلنا نعيش فيه: هذا كمناضل سلمي في أول ثورة سلمية تخرج من المحيط والريف في تاريخ سوريا، وذاك كشخص مسؤول في نقل الحركة الثورية السلمية إلى حراك مسلح أو في حمل السلاح، جوقة الدبلوماسيين وأجهزتهم الأمنية، الذين كُلفوا بالملف السوري في بلدهم، وآخر كصحفي شارك في نشر الفيك–نيوز كما شارك في الترويج لأكاذيب أو وقائع ما زلنا ندفع ثمنها، ورابع كشخص حكم عليه باللجوء أو النزوح أو الهرب لأن الأوضاع وصلت إلى حد يفوق قدرته العقلية والنفسية على التحمل وأحيانا القدرة على البقاء على قيد الحياة…
انبثقت الحركات الشعبية التلقائية في البلدان العربية من رحم الأزمات المستعصية لأنظمة سياسية تحوّلت إلى نعش بدون جنازة منذ سنوات. وإن كانت المعارضة السياسية لهذه النظم، ديمقراطية كانت أو إسلامية، قد عرفت مواجهة شرسة وغير متكافئة مع السلطات التسلّطية في بلدانها منذ عقود، إلاّ أن المكانة الجيوسياسية والنفطية للعالم العربي قدمت موضوعة التغيير في المنطقة كقضية دولية بامتياز، خاصّة وأن التصوّر الاستعماري لهذا الجزء من العالم، لا يعتبره فقط من عناصر تغيير موازين القوى الدولية، وإنّما أيضاً من أركان منظومة الهيمنة التي باشر رسم معالمها بعد سقوط جدران برلين.
ولسوء حظ شعوبنا، وضعت كارثة 11 سبتمبر 2001 هذه البلدان في قلب المفرزات البائسة لما سماه بوش-شيني “الحرب على الإرهاب”، بحيث تداخل في الاستراتيجيات الأمريكية لمستقبل هذه البلدان أسوأ السيناريوهات وأكثر الفرضيات تناقضا: التدخل العسكري المباشر، عولمة حالة الطوارئ، أطروحات الفوضى الخلاقة[1]، والضغط على الحكومات العربية من أجل “إصلاحات ديمقراطية” كما جرى في مؤتمر القمة العربية في تونس (كذا!Sic). وما زلت أذكر ذاك الشاب الذي تقدم مني ليلا في نواكشوط، وكنت مع منصف المرزوقي في دورة لتدريب الشبيبة على حقوق الإنسان، فتح معطفه، وكان على التيشيرت الذي يلبسه صورة ابن لادن وقال: “لا تضيعوا وقتكم الجهاد هو الحل!”.
رغم كل هذه الأجواء الموبوءة، كانت عملية بناء المقاومة المدنية السلمية تحفر في الصخر، وكان في سوريا عدد هام من المثقفين ورجال الدين والشباب الجامعي الذي يقرأ “قاموس اللا عنف” لجان ماري مولر ويترجم جين شارب ويكتب في “مقاربات” حول المقاومة المدنية. واستعيد مقطعا من مقالة نشرتها في آب/أغسطس 2011: “الشباب الذين صرخوا “سلمية” في درعا جنوبي سورية رفضوا أية صيغة عنيفة بما في ذلك عنف الكلمات. الذين كتبوا على جدران العمري “لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك”، الذين قالوا في درعا وداريا “سلمية سلمية لو قتلوا كل يوم مية”، الذين هتفوا في دوما ”إن لجأت للسلاح فلديهم الكثير منه“. هم الذين أطلقوا شرارة التغيير.
كان رد السلطات السورية على حراك المجتمع هذا بما أسماه محمد ناصيف منذ نهاية شهر آذار/مارس 2011: “ليس لدينا سوى الحل الأمني العسكري للرد على هذه المؤامرة”… الإعلام السوري أطلق على هؤلاء الشبيبة ما لا يعرفون هم أنفسهم معناه: جماعات جند الإسلام، ماسونية، عملاء الناتو إلخ. وفي وقت وصل فيه عدد ضحايا القمع السلطوي إلى خمسة آلاف قتيل من المدنيين العزل، وآلاف المعتقلين من المتظاهرين السلميين، صدر مرسوم عفو رئاسي بتاريخ 31/ 5/ 2011 عن قرابة 1500 سجين من سجن صيدنايا، قرابة 1400 منهم، حسب الشرعي في جبهة النصرة وهتش، الدكتور مظهر الويس، ممن شارك “في الثورة المسلحة في 5/7/2008 في سجن صيدنايا”. من رفاق السجن نجد: حسان عبود، الملقّب بأبي عبد الله الحموي، الذي شكل لاحقًا “حركة أحرار الشام الإسلامية” ونُصب عليها أميرًا، زهران علوش قائد “لواء الإسلام” الذي بويع فيما بعد كقائد لـ”جيش الإسلام”، أحمد الشيخ المكنى بأبي عيسى، الذي شكل بعد خروجه “لواء صقور الإسلام” ونصب قائدًا عليه. أبو مالك التلي (جمال حسين زيدية) مسؤول جبهة النصرة في القلمون وأبو عبد الله الشامي (عبد الرحيم عطون) الذي تبوء مواقع قيادية عدة في النصرة ومفرزاتها إلخ. ناهيكم عن الأردني والفلسطيني والسعودي واللبناني[2]… وقت الإفراج عن هؤلاء كان الشهيد معن العودات وعشرات المناضلين السلميين تحت التعذيب في أقبية المخابرات الجوية…
في شهر حزيران/يونيو 2011، أعلن في تسجيل مصور نقلته الجزيرة، عن أول تشكيل مسلح باسم “كتائب أحرار الشام”، من عدد من الخارجين من السجن ومن التحق بهم ممن قاتل في العراق. تذكروا رد حسان عبود على تيسير علوني في مقابلة للجزيرة: “نحن أخي كنا أسبق وجودا من الجيش الحر… لماذا ننضم إليه؟ من واجب الفصائل أن تنضم إلينا”[3] فهو يعرف بدقة حقيقة ما يجري في الميدان. حتى تنظيم “نصرة أهل الشام”، بتكليف من البغدادي، جاء بعد ولادة “الأحرار”، لكن المصيبة أن عدوى التسليح والتطييف والقابلية لتدخل الناتو كانت قد أصابت الإخوان وبعض الضباط المنشقين ومعارضي الفنادق وعشّاق الأنموذج الليبي. ولم يفهم هؤلاء العباقرة أن النزاع المسلح وحده، يسمح للنظام مع هؤلاء المسلحين بإجهاض ثورة شعب.
في مقالة نُشرت في 8 آب/أغسطس 2011 باسم مستعار بعنوان: على موقع الإخوان المسلمين وموقع إسلام أون لاين القرضاوي بعنوان: “حلول عصر الصلح الآمن الإسلامي – الغربي” شنّ هجوم على اللاءات الثلاثة واستبدال صريح بنعم. ولأول مرة في مقابلة تلفزيونية على البي بي سي في أيلول/سبتمبر 2011، رد عليّ زهير سالم المتحدث باسم الإخوان المسلمين: اللاءات الثلاث (لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الخارجي) ليست مقدسة، الثورة السورية تجاوزتها منذ زمن[4]. عندما حذرت مع الفقيد لؤي حسين ومنى غانم الاتحاد الأوربي من التساهل في سفر المقاتلين الأجانب إلى سوريا كان جوابهم: لا تبالغوا لأن هذا يخدم النظام… لم نتفاجأ بعد إحصاء تقريبي موثق، من وصول أكثر من 120 ألف مقاتل أجنبي إلى سوريا في العقد الثاني من هذا القرن (قتل منهم 63360)[5]. كما لم نتفاجأ بأن تسيطر داعش على ما يفوق الأراضي السورية في سوريا والعراق.
من ما قبل الإسلام إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي كل نزاع مسلح، يوجد الهواة ويوجد المحترفون، فأين الغرابة في قيام “دولة خلافة” من الرقة إلى الموصل، وأكثر من 180 ضابطا من الجيش العراقي السابق في أركان حربها، أو دخول “جيش الفتح” تحت قيادة النصرة إلى مدينة إدلب، مع “المهاجرين والأنصار”!! ووضع علم “الحزب الإسلامي التركستاني” الأسود فوق صليب كنائسها؟ أو سيطرة وحدات الشعب الأوجلانية على شرقي الفرات، (وحزب العمال الكردستاني يخوض حربا مع الجيش التركي منذ أكثر من أربعين عاما وقد وصل الأراضي السورية عتاة قنديل من المقاتلين الذين أمضى بعضهم 15 عاما في السجون التركية[6])…
أصابت الإخوان والجهاديون نشوة الانتصار، حتى قال أحد الشنقيطيين من الدوحة: “لقد أردناه ربيعا مخمليا، وأراده الله مفاصلة جهادية، والذي أراد الله خير“[7]…
في محور ما سمي “أصدقاء الشعب السوري”، وضعت كل الطاقات المالية والعسكرية في غرفتي عمليات: MOM و MOC في فندق نجوم خمسة في عمان وتركيا، بإشراف ضباط غير سوريين، هم أصحاب القرار ليس فقط في توزيع السلاح والعطايا، بل وقف العمليات العسكرية أو تصعيدها. ورغم الجهود “الكبيرة” لتقليل عدد الفصائل والميليشيات من أجل إدارة أفضل للقتال، لم يقل عدد هذه الفصائل عن الألف إلى حين بدأت هزائمها البينية أو تلك مع “العدو الصائل” سورياً كان أم غير سوري[8].
تفتقت “العبقرية الإخوانو-جهادية” في لحظات النشوة بعد عامين في ستاد القاهرة 15 يونيو/حزيران 2013، حضر الرئيس المصري محمد مرسي بنفسه، لإعلان نتائج أول اجتماع موسع بين “علماء” سلفيين و”علماء” الإخوان المسلمين وقياديين من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، تقرر فيه، بصوت واحد، إعلان الجهاد في سوريا. ولإعلان نتائج هذا الاجتماع، اتفق المجتمعون على الشيخ المصري محمد حسان لإعلان قرار المؤتمرين:
“احتضنت أرض مصر الطاهرة مؤتمرا حضر فيه ما يقرب من 500 عالم، ينتسبون إلى أكثر من 70 هيئة ومنظمة ورابطة. وقد أفتى هؤلاء العلماء واتفقوا على أن الجهاد واجب بالنفس والمال والسلاح، كلّ على حسب استطاعته. فجهاد الدفع الآن عن الدم والأعراض واجب عيني على الشعب السوري، وواجب كفائي على المسلمين في أرجاء الأرض. هذا ما ندين به لرب السماء والأرض. وهنا أناشدكم، يا سيادة الرئيس، لن تفعل توصيات هذا المؤتمر، ولا قراراته إلا من خلال سيادتكم… أناشدكم أن تفعّلوا هذه القرارات”[9].
كان هذا الإعلان هو الأخير بحضور الرئيس مرسي، كذلك آخر ما شهده قادة داعش وأحرار الشام وغرباء النصرة …
جرى الحجر على الضباط السوريين الذين رفضوا إطلاق النار على أهلهم في مخيمات ومراقبة، إلا من بايع وتبع هذه الدولة أو تلك، وجرت تصفية أمثال “أبو فرات” برصاصة جهادية حينا أو برصاص النظام أحيانا أخرى، وجرى قتل واختطاف رزان زيتون ورفاقها، عبد العزيز الخير وإياس عياش وماهر الطحان، ورجاء الناصر وعدنان وهبة وآلاف المناضلين والمناضلات من أجل سوريا ديمقراطية ودولة مدنية.
لأن هذه هي الوقائع المؤلمة الأبرز، التي أوصلتنا لأسوأ ما عاشته سوريا من ما قبل السيد المسيح إلى اليوم، نعيش ذكرى 18 آذار/مارس 2011 وقد أصبح لسان حال قطاعات واسعة من السوريين والسوريات: كلكم سبب في البلاء الذي نعيش، من القصر الجمهوري إلى قصور لصوص المعارضة وسماسرتها.
لم يعد اليوم لمفهوم دولة ذات سيادة من معنى أو مبنى، كذلك مفهوم الشعب السوري ووحدة الأراضي السورية: يوجد اليوم سلطة دكتاتورية في دمشق محمية من قاعدة حميميم الروسية وما يسمى اختصارا الميليشيات الإيرانية، وسلطة أمر واقع شرقي الفرات بحماية أمريكية، وحكومة إنقاذ للجولاني في مدينة إدلب، وبضعة قرى وبلدات لما يسمى الحكومة المؤقتة و”جيش وطني” بالمعنى التركي للكلمة بقيادة أبو عمشة وأمثاله.
بقيت دولة واحدة في العالم اليوم، تتعامل مع الاعتلاف السوري كممثل شرعي وحيد للشعب والثورة، ففرنسا وبريطانيا مهتمة أكثر بمصير أبناء رعايا (ها) في سجن غويران ومجمع الهول، أو لنقل أكبر منتجع من نمط غوانتانامو في هذا القرن… القوات الأمريكية تحمي حراس السجون من الماركسيين الستالينيين الإيكولوجيين النسويين اللا سلطويين إلخ شرقي الفرات[10]، بوصفهم حراس سجون وآبار نفط ومسيري مناطق ذات أغلبية عربية شرقي الفرات. هذا الأمريكي نفسه، هو من ثبّت غياب مسد وقسد، عن أية مفاوضات سياسية منذ مؤتمر الرياض إلى اليوم، وهم أنفسهم من قبل بذلك!!
فاق عدد اللاجئين والنازحين السوريين ثلث عدد السكان، نسبة البطالة في سوريا اليوم أعلى منها في قطاع غزة، مرتب المواطن السوري في مناطق النظام يكفيه طعام ثلاثة أيام في الشهر، أما السلة الغذائية والمساعدات الدوائية في المخيمات فتخضع للقرارات البيروقراطية الأوربية والأممية[11] التي صار همهما الأوحد اليوم: الحرب الأوكرانية. البنيات التحتية الحيوية تدمرت قبل الزلزال، وقمة ما قَبِل به الأمريكي والأوربي ليساعد السوريون السوريين في الداخل، هو ترميم بعض المدارس وأماكن العبادة والمشافي.[12] وما زالت حكومة بشار الأسد تمثّل سوريا في الأمم المتحدة.
من زلزلة الأرض إلى زلزلة العقول!!
في السادس من فبراير/شباط 2023، وقع أكبر زلزال طبيعي في شرقي المتوسط منذ قرابة قرن. وقد أصابت الكارثة ستة محافظات سورية تتقاسم النفوذ فيها السلطات السورية و”حكومة” إنقاذ النصرة و”الحكومة المؤقتة”. ولأن في كل محنة فتنة واختبار، تكشّف للعالم، أو استعيد بعض الذاكرة، لما حصل في هذه المحافظات في السنوات الماضية: ضحايا من مخرجات اتفاق المدن الأربع[13]، والبعض، ممن جاء بالباصات الخضر من ريف دمشق ودرعا، وآخر جاء من حمص وحلب، أو نزح من جنوبي إدلب وشمال حماه (يفوق عددهم المليون شخص)، وعشرات الآلاف ممن هجروا من عفرين عند احتلالها من القوات التركية إلخ. ورغم أن الاستجابة العربية والدولية للضحايا السوريين كانت أقل منها لإخوتنا في الإنسانية من تركيا، فقد بعثت هذه “المساعدات” تجار الحروب وسماسرة الحج وجوازات السفر والمساعدات الإنسانية والسلاح والمخدرات من جحورهم، ليتصدروا الساحة من جديد، بوصفهم الوكلاء الجدد لإغاثة الضحايا وبناء البيوت وتقرير طبيعة الخارطة البشرية في الشمال الغربي مع إطلاق الحكومة التركية لمشروع العودة “الطوعية” للاجئين السوريين. وكأن غضب الطبيعة لا يكفي، وعلى أكثر من خمسة ملايين سوري دفع ثمن سياسات عصابات تسمي نفسها حكومات.
بشاعة المشهد هذه، لا يجب أن تغيّب مظاهر التضامن النبيلة من أبناء الشعب السوري الجريح وفي كل المحافظات. فهاهي فزعة أهل حوران يقدم فيها أبناء الجنوب من لقمتهم الشحيحة ما يستطيعون لمساعدة أهل الشمال، ها هي محافظات الرقة ودير الزور وأبناء دمشق يستنفرون بالقليل مما يملكون لنجدة لإخوانهم، ها هم اللاجئون إلى أوربة ينظمون حملات التضامن مع الضحايا. هؤلاء الذين تأصل شعار شبيبة درعا في رؤوسهم: الشعب السوري واحد”، هم الذين يذكرون أصحاب الذاكرة القصيرة، بأن محاور وأحلاف دول العالم لن تنجح في قتل إرادة شعب.
الحق في الأمل!
لم يعد الحل بيد الأمم المتحدة التي تستجدي بقاء اسمها في الملف (الاسم والرائحة ولا العدم)، وقد تقلص “أصدقاء الشعب السوري” من عشرات مؤتمر تونس إلى 12 ثم إلى سداسية ثم إلى رباعية تطالب باستمرار العقوبات على سوريا ومنع التواصل مع سلطة دمشق حتى.. “يعود إلى مباحثات جنيف والدستورية” (أو هكذا يصرحون). ثلاثي الأستانة هو الفاعل الأول في الملف السوري… وتوافقات هذا الثلاثي هي من يحكم في الميدان اليوم، بما في ذلك جعله رباعيا في الاجتماعات القادمة.
لا أقول هذا لزرع اليأس في النفوس، لأن من دافع عن دولة المواطنة والسيادة والديمقراطية[14] بالوسائل السلمية أصيب بجروح بليغة ولكنه لم يمت، ولم ولن يستسلم، أما في ميدان القتال فهناك من انهزم أو اقتيد إلى الهزيمة بقرار ممن سلّحه ومولّه أصلا. ولم يعد بحاجة له، إلا كمرتزق في معارك أخرى، ليبيا، أذربيجان، وأخيرا وليس آخرا، أوكرانيا.
لقد نجح أصحاب عقيدة التدخل الخارجي والعنف والمذهبية، في مختلف الجبهات، في اغتيال ثورة شعب، ولكنهم أيضا حفروا مقبرتهم بأيديهم وأيدي أسيادهم، وتتطلب استعادة ثقة الشعب بالمقاومة المدنية اليوم، تحديد التخوم بين معارضات التبعية، والمدافعين عن سيادة الوطن وكرامة المواطن، بين الظلامية المذهبية وثقافة التنوير والتغيير، وتأصيل القطيعة مع سلطة الاستبداد والفساد، في أصلها المزروع منذ أكثر من نصف قرن، إلى فروعها المسخ في شبه سلطات وشبه مؤسسات لا تختلف عنها إلا بالاسم وظاهر الرسم.
جنيف، 18/03/2023
الدكتور هيثم مناع
[1] للتوسع في هذا الموضوع، أنظر: الولايات المتحدة الأمريكية وحقوق الإنسان، عدة طبعات عن دار الأهالي ومركز الراية الفكرية والمؤسسة العربية الأوربية وطبعات حرة في دمشق وبيروت والخرطوم وجدة والمغرب وأربيل.
[2] لمن يود الاستفاضة في هذا الموضوع: هيثم مناع، خلافة داعش، صدر عن بيسان 2015 وأيضا في طبعات عديدة حرة لكن أمينة في جنيف، بيروت، دبي، باريس ولم تسمح السلطات التركية بصدور الطبعة التركية. وكتاب: جبهة النصرة: من فقه الجهاد إلى جهاد الغلبة، 2017، بيسان بيروت.
[3] حسان عبود، ساسلة رموز المعارضة المسلحة، الجزيرة، 11/06/2013. من المؤكد لنا اليوم أن اغتيال الحموي وقيادته، لم يكن ببراعة المخابرات السورية أو الإيرانية أو فاغنر الروسية، وفهمكم كفاية.
[4] أصبح هذا النقد لمنهج اللاعنف “حضاريا” بالنسبة لدعوات التكفير والتخوين والقتل الذي تبعته، أبو فراس السوري المتحدث باسم جبهة النصرة أباح دم هيثم مناع “الشيوعي الشيعي”، وفي خطبة له بعنوان: دين السلمية شرك وكفر، يكفّر أبو محمد العدناني المتحدث باسم داعش كل من يحمل “الدعوة السلمية دون قتال لأنهم يضربون بكتاب الله وسنة نبيه” وبالطبع نال كاتب هذه الأسطر حقه من التكفير وحكمه في الإسلام القتل. كذلك كتب لي أحد قدماء “الطليعة المقاتلة” والذي ساعدته في الحصور على اللجوء السياسي قبل ثلاثين عاما في أوربة: أطلب من الله أن أشهد اليوم الذي نقيم عليك حكم الإعدام في ساحة المرجة… أما تكفير العرعور فيثير الاشمئزاز والشفقة: “مناع لا يؤمن بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر”..
[5] المرصد السوري لحقوق الإنسان، 12 عاما ، آذار/مارس 2018، ص 32.
[6] صرحت هدية يوسف، الرئيسة المشتركة للمجلس التأسيسي لفيدرالية شمال سوريا: “: “ثورة 19 تموز هي نتيجة 40 سنة من النضال والكفاح لحركة التحرر الكردستانية بقيادة قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان”. من المعروف أن خبات ديريك وإلهام أحمد وألدار خليل وريدور خليل وبولات جان ومظلوم عبدي وبهروز إردال (الذي تولى قيادة قوات الدفاع الشعبي الكردستاني لعموم كردستان HPG بين 2004 و 2009 في قنديل)، ، كذلك حسين شاويش أمضى في السجون التركية 15 عاما بعد اعتقاله في عملية عسكرية لحزب العمال الكردستاني إلخ. جميعهم أتوا من قنديل لتسلم مواقع القرار في شمال شرقي الفرات وعفرين. معروف أن الإعلان الرسمي عن ولادة “وحدات حماية الشعب YPG يعتبر في الأدبيات الأبوجية يوم انطلاقة ثورة روج آفا (19 تموز/يوليو 2012). من مهازل الأيام، أن برنار هنري ليفي الذي طُرد من كل الديمقراطيين السوريين ولم يجالسه إلا الإخواني ملهم الدروبي وأشكاله، عاد “ظافرا” في مروحية أمريكية ليأخذ الصور مع بعض عتاة قنديل ويصرح من شرقي الفرات: “مظلوم عبدي جنرال أسطوري” ؟
[7] الجزيرة نت، 17/05/2014، من الربيع المخملي إلى المفاصلة الجهادية”. لا أدري وقد انقطع الوحي منذ وفاة النبي محمد وفق كل الفرق والمذاهب الإسلامية، كيف وصل هذا القرار الإلهي إلى الدوحة ؟ اللهم إلا إذا استوحى الشنقيطي الفكرة من رواية عمر بن بكر التميمي الخارجي الذي قال: أردتُ عمربن العاص وأراد الله خارجة، وما أراد الله خير…
[8] حتى مؤتمر الرياض في نوفمبر 2017، نجد على موقع “حركة أحرار الشام” اسما موحدا للجيش السوري وكل من وقف معه من فصائل هزارية وعراقية ولبنانية… وحتى من الحزب القومي الاجتماعي السوري ، اسما موحدا: الميليشيات الشيعية.
[9] أنظر هيثم مناع، تهاوي الإسلام السياسي، هاشيت أنطوان، بيروت، 2021، صفحة 89 وما بعدها.
[10] لفهم أفضل للتجربة الأوجلانية في سوريا أنظر: هيثم مناع، الأوجلانية، البناء الإيديولوجي والممارسة، دار الفارابي، بيروت، 2017.
[11] بكل مكر وخبث، يخبرنا الدبلوماسيون الغربيون بأن العقوبات على سورية هي استجابة لمطالب “سوريون ضد الأسد” وأن قانون الكونغرس المسمى قيصر هو باسم منشق سوري وضغوط من “المواطنين الأمريكيين من أصل سوري”… كلنا يعلم أن سياسة العقوبات على سوريا بدأت منذ كان بشار الأسد في سن المراهقة. وأن المواطن السوري هو الذي يدفع الثمن الأكبر وأن منطق العقوبات لم يسقط نظاما سياسيا يوما.
[12] طلب مني أبناء قريتي مؤخرا فتح مدرسة ثانوية لأن الأوضاع الأمنية لا تسمح دائما بالذهاب إلى مدينة درعا، طلبت من رجل أعمال وطني مساعدتهم، وكونه يعيش في بلد تحت عين مجهر العقوبات، تحدث في الموضوع مع دبلوماسي أمريكي في الأمر. كان الجواب: بناء مدرسة جديدة مشمول بمفهوم إعادة البناء وهذا ممنوع، ألم يقل جيمس بيكر يوما: “سنعيد العراق إلى العصر الحجري؟”
[13] اتفاق المدن الأربع “كفريا – الفوعة والزبداني – مضايا”: إشارة للاتفاق الذي تم التوصل إليه في نيسان/أبريل 2017 بعد مفاوضات مباشرة في العاصمة القطرية الدوحة بين ممثلين عن إيران وآخرين عن “هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام” إضافة إلى فصائل أخرى، حيث ينص الاتفاق في بنده الرئيسي، على إخلاء مدينتي الفوعة وكفريا “الشيعيتين” من سكانهما، مقابل خروج المسلحين وعوائلهم “السنة” من مدينتي الزبداني ومضايا إلى الشمال السوري. أنظر: الجزيرة. نت: استعدادات لتنفيذ اتفاق المدن الأربع في سوريا، 12/04/2017.
[14] قبل ستة أعوام سألني صديق دمشقي كان في تيارنا الديمقراطي: أنت مين وراك؟ استغربت السؤال من ابن عائلة وطنية عريقة، لكنني مع ذلك أجبته. لا أحد، مثل ما بقول المواطن السوري البسيط: ما إلنا غيرك يا الله، قدم لنا الآباء الاستقلال الأول، ولن نقبل بالتضحية به وقطاع من الليبراليين والإسلامويين صار شعاره: فليأت الشيطان، أي أنه لم يعد مهتما بما نسميه الاستقلال الثاني: الديمقراطية. كم سُعدت بمبادرة عدد هام من نخبة ضباط الجيش السوري التي رفضت إطلاق النار على أهلها، ورفضت أن تكون أداة لهذه الدولة أو تلك، لعقد “مؤتمر وطني سوري لاستعادة السيادة والقرار”… عقد هذا المؤتمر رغم كل حملات التشويش والتشويه من معارضات التبع من موسكو إلى واشنطن…
لأن في المجتمع السوري من ما زال يؤمن بدولة مواطنة موحدة وسيدة، يبقى حقنا في الأمل قويا.