سورية: كيف تُفشل مؤتمرا قبل انعقاده؟

صالح سيطان النبواني //

في نهاية القرن العشرين، وصلت الأشكال التقليدية للتنظيم السياسي إلى حالة التكلس والإنغلاق، تجاوزها التاريخ وحاصرتها الجغرافيا. لكن النضال العفوي والهبات التلقائية كحركات المدن في الدار البيضاء وتونس والقاهرة أيضا كان يتناهى بعد أشهر إلى ذكرى، لغياب العقلانية السياسية والتنظيم. من هنا نجد مراجعات هامة لمفهوم “الحزب الثوري” إسلاميا كان أو قومياً أو ماركسيا لينينيا، وعملية بحث دؤوبة عن أشكال منظمة جديدة لمقاومة الدكتاتوريات.

في 2002 طرحت من المجلس الوطني للحريات المعارض فكرة مؤتمر وطني تونسي. وقد سارع منصف المرزوقي للدعوة إلى “المؤتمر من أجل الجمهورية”، هاجمته معظم الأحزاب التاريخية التونسية، فجمع عشرات المستقلين وأعلن عن حزب بهذا الاسم. مفوتا فرصة بناء جبهة واسعة للديمقراطيين على أسس جديدة تتناسب مع معطيات القرن الجديد. في سوريا تمكنت ظاهرة المنتديات من خلق حوار واسع من أجل التجديد السياسي والمدني. لم تتحمل السلطات الأمنية ربيع دمشق ووقعت اعتقالات شخصيات مفصلية في هذا الحراك قبل أحداث 11 سبتمبر المشؤومة بيومين. أعاد احتلال العراق النقاشات بين مختلف أطياف المعارضة السورية وتمكنت شخصيات وطنية هامة من إطلاق “إعلان دمشق”. شكلا تنظيميا جامعا جديدا. إلا أن هذه التجربة التي فتحت أبوابها للإسلام السياسي، تلقت من الإخوان المسلمين أول طعنة في الظهر عبر تحالفهم مع عبد الحليم خدام فيما سمي جبهة الخلاص. تفتت الإعلان تباعا وصار جسما بلا روح وصاحب حصة من حصص المجلس الوطني والائتلاف.. في الطرف الآخر، قامت أهم شخصيات إعلان دمشق من حسين العودات وعبد العزيز الخير وفايز ساره… بالدعوة لهيئة وطنية جامعة ونجحت في بناء هيئة التنسيق الوطنية في مؤتمر حلبون، ولو أنها اضطرت لهذا النجاح من تقديم تنازلات هامة للأحزاب السياسية المشاركة التي تسمي ممثليها ولها حصتها سلفا في أية هيئة قيادية، وانحصرت الانتخابات في المستقلين. ومع غياب أهم قياديي الهيئة، استقالة أو اعتقالا، تحولت هيئة التنسيق إلى طبعة جديدة غير منقحة من تجربة “التجمع الوطني الديمقراطي” التي تجاوزتها الأيام.

في كل مرة كانت تجري فيها محاولة عقد مؤتمر وطني سوري، كان هناك من يفعل قصارى جهده لإفشالها واحباطها. إما بعقد مؤتمرات صورية موازية تخلط الأمور على الناس (سواء على مستوى المحافظات بالداخل أو على مستوى سوريا) أو تنهي المؤتمر عند نجاح انعقاده بوفاة مبكرة. فلا جسم سياسي جامع ينبثق عنه، ولا متابعة لمخرجات، ومحاصرة ومطالبة بالانسحاب من دول متدخلة. أو أن تتم مأسسته بشكل مخالف تماما للأسس التي قام عليها. فجميعنا يعلم أن منتدى موسكو كان اجتماعين لأطراف معارضة مع أطراف موالية في موسكو. اليوم ما يسمى منصة موسكو هو عمليا حزب الإرادة الشعبية حصرا. فأين الباقين؟ كذلك لم تمتنع السلطات المصرية عن دعم عناصر هزيلة واعتبرتها ممثلة لمؤتمر القاهرة لم يكن لها أي دور في انعقاد ونجاح المؤتمر وميزتها الوحيدة الإنصياع للتعليمات المصرية. لم يبق من أول مكتب تنفيذي لهيئة التنسيق فيها سوى خُمس الأعضاء، أما تجربة الائتلاف، فتثير السخرية والرثاء، خاصة وأن أحد من راهن عليها من التيار الديمقراطي انتهى به الأمر للقول: “تركيا تقرر عنا.. وكنا ساذجين”.

بعد ثلاثة أسابيع، سيعقد “المؤتمر الوطني السوري لاستعادة السيادة والقرار”. بعد تحضيرات استمرت لأكثر من عامين. وبالإطلاع على ما وصلني من وثائق للمؤتمر، لاحظت أن لجنته التحضيرية قد انكوت و”توجعت” من تجارب السنوات العشر الماضية. فهي ترفض أي كوتا أو محاصصة لأي حزب أو تنظيم سياسي. وبنفس الوقت لا تمنع من يطلب الحضور من المشاركة ولو جاء عدد هام من كوادر تنظيم سياسي. وتترك للمؤتمرين الخمسمئة اختيار ممثليهم بالانتخاب، فمن لديه من الكفاءة والكرامة والسمعة ما يسمح له بالنجاح، سينال حقه، ولو كان هذا حال عدد من الأشخاص من حزب معين. لأنه مرشح كمواطن أو كمواطنة سورية في الاعتبار الأول. طبعا يصعب على من هو في مركزه الحزبي منذ سنوات دون انتخاب أن يضمن نجاحه، ولكن أليس هذا هو الاختبار الحقيقي لسيرة المشاركين النضالية خلال عشر سنوات؟ هذا المبدأ الذي أقره الداعون للمؤتمر الوطني هو ساعة الحقيقة لتقييم أداء الأشخاص. وكم نحن بأمس الحاجة له. لن يأتي فلان بطلب من سفارة محددة، ولن ينجح أحد إرضاء لدولة محددة.. إنه مؤتمر سوري بحت تمويله من المشاركين فيه، لا دولارات ولا خواجات ولا تلفونات كما كان شرط تيار قمح للمشاركة بمؤتمر الرياض الأول والثاني  .. السوريون المشاركون يختارون من يريدون في هذا التجمع الاستثنائي لتشكيل جسم سياسي وطني جامع، مستقل الإرادة والقرار. أي أن المؤتمر نقطة البداية وفاتحة صفحة جديدة في نضال الوطنيين الديمقراطيين السوريين.

وبدون هذا الجسم السياسي الذي سيحمل ما يقرره المؤتمر من وثائق ويعمل على تطبيقها وتحقيق حلم السوريين بالخلاص من الدوامة الذي وضعوا بها من قبل الجميع سواء النظام أو من تصدروا أو صدرتهم الدول لتمثيل المعارضة وهم حقيقة يمثلون مصالح تلك الدول ، سنحتاج لسنوات أخرى لتحقيق ذلك بما تحمله من دم وقتل وتهجير والكثير الكثير من الألم للسوريين الذين بقوا صامدين في الداخل وعلينا الاستفادة من التجارب السابقة فباعتقادي  لو تلك الأعوام التي مرت .

لذا أكتب هذه الكلمات، لمن سيحضر أو يغيب عن هذا المؤتمر: ستسمعون دعوات كثيرة لمؤتمرات في هذه الأيام. وسيتم التعتيم الإعلامي الكامل على مؤتمر جنيف الذي سيعقد في 21-22 آب، أو تقديمه بصورة مشوهة، وستخرج كل التهم الجاهزة من تبعيات الدول المتدخلة في الشأن السوري كل منها يقول بأن هذا المؤتمر ممول من دولة معادية له. فقد تعودت دول التدخل في سوريا على مبدأ من لا يعمل عندي ومعي فهو بالضرورة يعمل عند دولة معادية لي.. لقد وصلت سمعة عدد كبير من المعارضين إلى الحضيض، لأنهم باعوا قرارهم المستقل بأبخس الأثمان، لذا لن يسكتوا عن كل محاولة سورية تحمل كرامة استقلال القرار وكاريزما التضحية والعطاء من أجل سوريا والسوريين وتجميع الكفاءات الكبيرة من أجل خلاص الوطن.

يشكل هذا المؤتمر، الذي يلخص أهدافه بثلاث: السيادة، المواطنة والديمقراطية، الاختبار الأكبر للوطنيين السوريين، بأنهم رغم الحصار الإعلامي والخناق الأمني الذي يمنع التواصل بين السوريين في الدواخل والخارج، وكل مخاطر الاعتقال والملاحقة، لديهم القدرة على أن يجتمعوا، وأن يطلقوا العنان لصوت سوري حر مستقل، من أجل اسقاط نظام الاستبداد ومنظومة الفساد، التي لم تعد اليوم محصورة بالنظام، وإنما امتدت لكل “إمارات الأمر الواقع” التي تنافسه في قمع الحريات ونهب المواطنين في مناطق نفوذها.

  • عضو المكتب التنفيذي لهيئة التنسيق الوطنية سابقا، وقيادي تيار قمح في الجنوب السوري، عاد إلى سوريا- السويداء بعد آذار 2011 وما زال يناضل من أجل سوريا ديمقراطية حرة متحررة من التدخلات الأجنبية.

Scroll to Top