أبجر مالول //
عندما أعلن الدكتور هيثم مناع قبل أكثر من خمسة أعوام عن ولادة تيار فكري سياسي مدني باسم “قمح” (قيم، مواطنة، حقوق)، جاءت أولى الانتقادات الموجهة لبيان التأسيس من اليسار الماركسي-اللينيني أو ما تبقى منه ونذكر من ذلك مثالا: “يخلط هيثم مناع بين المدرستين المثالية والمادية، ويضع في صف واحد موضوع القيم والايتيكا éthiques مع البنية الأساسية للنظام السياسي الحديث (المواطنة)، وحقوق الإنسان التي يقحمها في مشروع سياسي.. متناسيا أن الأخلاق هي انعكاس لبنيات تحتية اقتصادية اجتماعية، وليست قيما منفصلة عن الطبقات والزمان والمكان، وأن الدول تبنى على مصالح من تمثل، وليست جمعيات خيرية. أما حقوق الإنسان فلا تتعدى منبرا من المنابر المسموح لها بالتواجد في ديمقراطيات شكلية تجميلية لعولمة متوحشة مهمتها تجميل صورة ما هو قائم بإعطاء صورة وهمية عن حقوق لا يحترمها أحد”. تجنب مناع الإجابة يومها وأصدر أكثر من دراسة في الضرورة الوجودية لاعتبار القيم أساسا لإصلاح العلاقة بين المهتمين بالشأن العام ومجتمعاتهم، بدأها بكتاب “النهاية والبداية” في 1917 ثم “سفر التسامح”. في 2019.
في الأعوام الأربعة الماضية، تابع مناع عمله التنقيبي في مسيرة الحقوق الإنسانية والمواطنة، وقد بدأ ذلك بإصدار طبعة ثانية مزيدة لموسوعة “الإمعان في حقوق الإنسان”، وعدة محاضرات في المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان عن المواطنة في التاريخ والفلسفة والقانون. وقد طلبت منه شخصيا أكثر من مرة جمع هذه المحاضرات في كتاب عن دولة المواطنة، لأهمية هذا الموضوع في حقبة يجري فيها اغتيال هذا المفهوم من إيديولوجيات ظلامية تعيد تصنيف الناس على أساس الانتماء الديني أو المذهبي أو الإثني، في زمن تهاوت فيه الإيديولوجيات الدينية وتجاوزت البشرية فيها “المشاريع القومية”.. التي لم تنتج تجاربها العملية سوى التمييز عن الآخر، المقبول بقدر ما يتنكر لهويته الفرعية المختلفة عن “قومية الأغلبية”، مع ما ترتب على ذلك من انغلاق شوفيني داخلي رد فعلي على سلطات تعتبر نفسها الممثل للأمة والقوم. وتفتت في البنيات المجتمعية.
كان الحراك الشعبي السلمي المدني أبلغ تعبير عن ذلك، عندما ردد المتظاهرون في درعا: مسيحي ومسلم إيد وحده، عربي وكردي إيد وحده، واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد.
قام العالم ولم يقعد أمام هذا المارد الجديد المطالب بالكرامة والحرية ودولة المواطنة. وانبعثت طفيليات العهد القديم، بعضها يتحدث عن دولة خلافة على النهج الراشدي وآخر يتحدث عن أمة كردية واحدة يشكّل الشمال السوري فيها “غرب كردستان” أو “روج آفا” وثالث عن مزيج “سني” يرفع المظلومية عن “أهل السنة” إلخ. وتهاوت هذه المشاريع الواحدة تلو الأخرى. فلا يمكن للترقيع والمظلومية أن تبني المستقبل، كذلك لا يمكن تمزيق المجتمع السوري الذي تكون عبر آلاف السنين أكثر مما هو ممزق.
أصبحت الهوية الوطنية الجامعة بعد كل ما أصاب السوريين من دمار وتهجير واعتقال وتشريد، الرابطة الأقوى لجمع السوريين على مشروع مشترك للتغيير الجذري وبناء سوريا جديدة. وأضحت دولة المواطنة شرطا أساسيا لاستمرار سوريا أرضا موحدة وشعبا واحدا. وعندما نتحدث عن بناء المواطنة، فهذا المشروع يتجاوز الحدود، فأوجاع العراقيين أظهرت بوضوح فشل أية محاصصة طائفية أو إثنية، والمثل اللبناني المحتضر ينجب اليوم أصواتا تعتبر المواطنة مشروع الشراكة الوحيدة الممكنة لإنقاذ لبنان، كذلك الحال في كل البلدان التي تمر في طور التمزق اليوم نتيجة الظلم والقهر والتمييز. ولعل في هذا ما يعطي كتاب “بناء المواطنة” الذي صدر في منتصف شهر (تموز/يوليو 2021) عن بيسان للنشر والتوزيع في بيروت راهنيته وأهمية توقيته.
يبدأ مناع كتابه بالعودة بعيدا إلى الوراء، في محاولة لتتبع فكرة التفريد ثم مفهوم الشخص منذ ما قبل التأريخ الميلادي:
“في البدء كانت الجماعة، وعلينا انتظار نشوء المدن للخروج من نواظم وأعراف الجماعات الأولية، أو للحديث عن إنتاج الإنسان وإنتاج وسائل الحياة، مع ما رافق ذلك من تنوع في مسيرة البشر سواء في استقلالية الأسرة الأبوية، التمايز على أساس الاختلاف البيولوجي، طبيعة تقسيم العمل الأولي بين الجنسين، تقسيم العمل الاجتماعي وطبيعة العمل نفسه. درجة التخصص وملكية أو حيازة الأشياء والخبرات والأحياء، تنامي أشكال المقايضة والنقد وحركتهما ونشوء دولة-المدينة.
بشكل عام، كانت أشكال التمفصل شرقي المتوسط بين سلطة المال وسلطة “الرحم” وعلاقة كل منهما بالدولة قائمة على استمرار جماعات القربى وليس على حسابها. ورغم عملية التفريد التلقائية التي رافقت الرأسمال التجاري والربوي ودولة- المدينة، اعتبر “الفرد” مجرد وحدة عددية تبنيها العلاقات الاجتماعية وتعكس صراعاتها” (ص 5-6).
منتقلا إلى المعاصرة، يتحدث الكاتب عن استمرارية هذه النظرة السلبية في العديد من الإيديولوجيات المعاصرة:
“لم يكن اعتبار الإنسان مجرّد فرد فقط، من ركائز تنظيم الجماعات العضوية والفكر السياسي الاستبدادي في كل زمان ومكان، بل نجد امتدادات له في مختلف الإيديولوجيات الشمولية كالماركسيّة اللينينية والفوضوية الكوميونيتارية والإيديولوجيات الإسلامية والنازية إلخ. حيث ارتبط مفهوم الفرد بالأمة أو القوم أو الطبقة أو الطائفة الناجية في غياب له كذات مستقلة حرة في ذاتها ومن أجل ذاتها. ورأت فيه، هذه المدارس، خليّة تابعة لنسيج يَسهُل الاستغناء عنها ويمكن التضحية بها، حيث قيمة الفرد بما يقدّمه من طاعة ومن خدمات لإيديولوجيا الجماعة ومصالح الجماعة ومشاريع الجماعة . (ص 7)
وصولا إلى الانطلاقة الجديدة :
“علينا انتظار عصر التنوير لتثبيت مرتكزات تجاوز هذا المفهوم، عبر التأريخ لنهاية عصر الإنسان “القاصر” مع ولادة مفهوم “الحق الطبيعي” الذي انتزع بخبث فكري محض، الفرد من الأسياج الثقافية والعرفية والإيديولوجية التي تعطي الجماعة حق الوصاية على الفرد، والتميّز بين الأفراد على أساس جماعاتهم العضوية”: الإنسان إنسان بالولادة، لا بصلة الرحم ولا بالعمادة، ولكل شخص حقوق أساسية طبيعية لا تختلف بين فرد وآخر.(ص8)
لا يمكن أن نعيش التنوير والتغيير دون ما يسميه عمانوئيل كانت: نهاية عصر الإنسان القاصر.
كانت الدول الغربية أول من قاوم عالمية الحقوق الإنسانية والمواطنة، ولعل السياسات الاستعمارية- الاستيطانية القائمة على “التفوق الحضاري” من أهم أسباب حالة السبات التي أصابت هذه الحركة التاريخية للمواطن الجديد، وعلينا انتظار فظائع الحرب العالمية الثانية، ليتوصل العالم إلى أول إعلان عالمي لحقوق الإنسان: “حدّد هذا الإعلان، خلافا للثورة الفرنسية، بأن موضوعه الشخص: أكان ذكرا أم أنثى طفلا أم كهلا أبيضا أم أسودا، هنديا أم أمريكيا، غنيّا أم فقيرا …إلخ ، ولو أن هذا الإعلان لا يتعدى البعد الأخلاقي غير الملزم، إلا أنه شكل سلاحا لكل المدارس والقوى السياسية والمدنية والفكرية الديمقراطية في معركتها لبناء مواطنة جديدة، ترفض التضحية بالقيم الإنسانية الكبرى باسم المصالح القومية العليا والمصلحة العليا للدولة، ديمقراطية كانت، شمولية أم تسلطية”. (ص 10)
مستطردا: لم يعد بالإمكان بناء المواطنة في الوعي الجمعي اليوم، باعتبارها ابنة صعود البرجوازية في أوربة، أو نتاجا ضروريا لإعلان الاستقلال الأمريكي.. يمكن للباحث أن يجد أكثر من ثمانين تعريفا لها، يسارا ويمينا، في قرن انقضى أو قرن قادم، فمنذ انتقل الفكر البشري من الحديث عن الفرد للحديث عن الشخص، ومن الحق الطبيعي إلى الحقوق المدنية، ومن وطنية الحقوق إلى عالميتها. بدأت حقبة جديدة لمفاهيم المواطنة، حقبة انقطاعات واستمرارية، بالضرورة، مع مفهومها اليوناني القديم والأوربي الحديث. فقد فجرت العقود الأخيرة، أنهارا من منابع فكرية مختلفة النظريات والعقائد والبعد الحضاري، كما أنها صنعت في مخبر الدولة والمجتمع تعبيرات مختلفة بين بلد وآخر، وتجربة وأخرى. ومن حسن الحظ، أن هذه الأشكال على اختلافها فشلت في تحويل موضوع “المواطنة” إلى صيغة جامدة، إيديولوجية أو “دوغما”.. (ص 11).
في انتقاله للتشريح العياني لهذه النقلات التاريخية، يخصص مناع فصلا كاملا لتحليل الأسباب التي أدت لاغتصاب وتشويه مفهوم المواطنة في المنطقة العربية والمشرق طيلة قرن كامل (القرن العشرين) فيما يسميه “دولة” انسياب الظلم والقهر. هذا الفصل المخصص لنقد الدولة العربية بعد الاستعمارية، التي اغتالت حقوق المواطنة باسم الدفاع عن الوطن وأممت مفهوم السيادة على حساب أي شكل من أشكال سيادة الشعب، ونصبت الدولة الأمنية وصيا على الأمن القومي عبر رباعية اغتيال العقد الاجتماعي الضروري بين الحاكم والمحكوم والظالم والمظلوم، عبر شرعنة إزمان الحالة الاستثنائية وحالة الطوارئ، ومصادرة السلطتين التشريعية والقضائية، وإلغاء حيادية الدولة بأدلجتها، وجعل الفساد منظومة أخطبوطية تغلغلت في جملة العلاقات بين الناس. ومع طغيان هامش مصادرة السلطات والثروات والحريات تمت عملية التحطيم المنهجي للتعبيرات السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع فيما أحدث فراغا هائلا يتجاوز بكثير قضايا الصراع العربي الإسرائيلي ومفهوم المقاومة. تفرغت كل شعارات الوطنية من معناها ومبناها عند جيل كامل من الضحايا. ولم تعد هذه “الكائنات”، المسموح لها بالبقاء من قامعيها، تعطي الأولوية للمشروع الوطني التحرري أو بناء الديمقراطية على المدى القريب على الأقل. بعد انتشار نقص المناعة الذاتية للمجتمعات التي صار بإمكانها البحث عن أي مخلص ولو كان وهما أو شيطانا.
نجم عن ذلك كله “ضمان” موت السياسة في الثقافة العربية وفي الفضاء الإجتماعي العربي. وهو موت يجد تعبيراته الجلية كذلك، إن في ثقافة النخبة وما تتكشف عنه من وهن واضح في موضوعها المركزي وهو السياسة، أو من ضعف الطلب السياسي على الديمقراطية اليوم”.
ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى موضوع السيادة المركزي في نشأة الدولة-الأمة الحديثة، في فصل بعنوان (السيادة: من ويستفاليا إلى دمشق) يستعرض فيه الإنقلاب الفكري السياسي العالمي الذي حدث بعد اتفاقية ويستفاليا (15 مايو/أيار 1648 و24 أكتوبر/تشرين الأول1648)
يستعرض مناع جملة الإنجازات والارتكاسات التي عاشتها الدول الغربية في مسيرة بناء الدولة-الأمة وحقوق المواطنة ملخصا عرضه بالقول:
تواكبت فكرة الحقوق الطبيعية مع سقوط الملكيات المطلقة وولادة الدولة- الأمة، التي هي، باقتباس وصف إدغار موران، “مخلوق وخالق أوربة الحديثة. الأمر الذي خلق تداخلا مفهوميا وتباينا قانونيا في العلاقة بين حقوق الأشخاص وحقوق المواطنين. باعتبار الأخيرة المجسد العملي لمفاهيم سيادة الشعب والأمة في الدولة الحديثة وعقدها الاجتماعي. نتيجة لذلك، أصبحت المواطنة في القرون الثلاثة الماضية، ميزان الحرارة لسلامة الجسم المجتمعي، الميزان الذي يعبر عن مدى احترام الدولة لحقوق الإنسان في فضاء إقليمها وسلطاتها. في صراعات فكرية ومجتمعية نقلت بادئ الأمر النقاش من حقل حقوق الأشخاص، التي تثبت منها في الوعي الجماعي على الأقل، الحق في سلامة النفس والجسد، والحرية والمساواة والملكية والمقاومة، إلى حقل المواطنة، أي التعبيرات المختلفة للترجمة العملية لهذه الحقوق في تنظيم العلاقة بين الدولة والأشخاص: حماية حرية الشخص المتمتع بالسيادة على ذاته وعلى حقوقه المدنية (الحق في الحياة وسلامة الأشخاص، الملكية والحريات الشخصية)، المساواة أمام القانون، الاستقلالية الذاتية لكل شخص، والفصل بين المجال العام (علاقات الأشخاص بالدولة في المجتمع السياسي وطبيعة الدولة) وبين المجال الخاص (علاقات الأفراد بعضهم ببعض في العائلة والقرابة وانتماءات الأفراد قبل المدنية: الدين، الطائفة، القوم…)، وعلى حماية حقوقه السياسية (الحق في الانتخاب والترشيح والتنظيم والتعبير). أي تأصيل الحقوق والحريات الأساسية للمواطنة في الفضاءات الأربعة: الفضاء الخاص، الفضاء المدني، السلطة السياسية وفضاء بناء الحريات.
وكما بدأ الكتاب بشعر بدر شاكر السياب الذي يعتبر الإنسان لغز وغاية الوجود، يستمر في استعراض الحالة الإنسانية في المنطقة عبر تشريح وتفكيك أطروحات التغيير من فوق ومن الخارج التي تصاعدت مع احتلال العراق وجرى التطبيع معها منذ تدخل الناتو في ليبيا والكوارث التي نجمت عن تطبيقات “القابلية الجديدة للاستعمار” التي فتتت الدول والمجتمعات. دون أن يغفل تحليل ظاهرة “الجهاد” وتأثيراتها المدمرة على النسيج المجتمعي والفكر الحر، والتي قدمت للدكتاتوريات خير مبرر لزيادة القمع والإسراف في العنف المناهض لمجتمعاتها.
يتناول الكاتب بعد ذلك موضوع الهوية والحقوق الثقافية وإشكالياته المختلفة وموضوعة العقد الاجتماعي والمواطنة والجنسية في مجتمعاتنا. وكيف تحولت مواضيع مؤسسة للفكر السياسي الحديث إلى استعمالات سطحية ومبسطة غالبا ما تفقدها معناها عند العامة والخاصة.
ينهي مناع كتابه بدراسة مستفيضة عما يسميه “الثالوث المدنس”، والذي يعني فيه (العنف، الطاعون المذهبي والحقد السياسي) وكيف نجح هذا الثالوث في ضرب أكبر حراك مدني في المنطقة، وتصدر المشهد ليكون شريكا للأنظمة الدكاتورية في اغتيال مشروع المواطنة.
– هيثم مناع، بناء المواطنة، بيروت، دار بيسان للنشر والتوزيع (216 صفحة)، 2021 .
أبجر مالول من اللجنة الاستشارية للمعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان ومن مؤسسي تيار قمح ومسؤوله العام في الولايات المتحدة الأمريكية
نشرت في موقع رأي اليوم