هدى المصري //
مرت عشر سنوات من النزاع الداخلي السوري والتدخل الدولي العميق به، وباتت القضايا الاجتماعية أكثر تعقيداً، وأسوار شائكة تحول بين التطبيق العملي لحقوق الإنسان المقرة دولياً وبين الصور النمطية السائدة لمجتمع تقيده عادات وأعراف تمييزية ذات سطوة لا متناهية. وأمام هذا الواقع تنطلق مجدداً التساؤلات حول ظاهرة ضآلة دور المرأة، وحول قيود المجتمع السوري لها على كافة المستويات وفي كافة المجالات. وتبرز أمامنا بوضوح مع هذه التساؤلات إشكالية ازداوجية القبول والتعايش خارج الديار (في دول الحضارة والتطور) مع كل ما يُرفض بإصرار وتعنت (المساواة) داخل حدودها.
من حق الدولة السورية ان يشارك جميع الأفراد حاضراً ومستقبلاً بإيجاد الحلول ومن ثم بإعادة الإعمار ولن يتم ذلك دون مشاركة نسائية مصانة هي بالأساس ركن من أركان النهوض بالمجتمعات والتقدم الحضاري المستدام، هذا التقدم لا يتحقق إلا بإعطاء الحقوق الكاملة المتساوية للأفراد دون أي انتقاص ودون أي تمييز بما في ذلك التمييز على أساس الجنس، وإحدى الفرص الحقيقية المتاحة لسوريا لاستثمار كافة الجهود الوطنية وضمان مشاركة كاملة في البناء وتكوين المستقبل تكمن في التطبيق الكامل قدر الإمكان لاتفاقية سيداو..
ماهي الاتفاقية الدولية “الشئكة” سيداو وماهو موقف الدول منها؟
هي “اتفاقية من أجل القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (Convention on Elimination Of All Forms Of Discrimination Against Women) صدرت في 18 كانون الأول 1979 وتسمى اختصاراً سيداو CEDAW ، وقد جاءت بعد جهود أممية كبيرة نظراً لما تم رصده عالمياً من عمق التمييز والعزلة والقيود المفروضة على المرأة على أساس الجنس لا غير، وقد صادقت عليها 189 دولة، منها سوريا، مع وضع عدد من هذه الدول جملة من التحفظات والاعتراضات تصل إلى 50 تحفظ واعتراض..
تتألف الاتفاقية من ديباجة و ثلاثين مادة مقسمة على ستة أجزاء، وهي توصي باتخاذ تدابير خاصة مؤقتة للتعجيل بتحقيق المساواة بين الجنسين وباتخاذ خطوات بهدف تعديل الأنماط الاجتماعية والثقافية المؤدية إلى إدامة التمييز ضد المرأة، كما تطالب الاتفاقية بإلغاء كافة العقود والصكوك الأخرى التي تقيد الأهلية القانونية للمرأة، وتجرّم العنف ضدها، وتمنحها ذات الحقوق الممنوحة للرجل من حيث الرعاية الوالدية ومنح الجنسية للأبناء وحرية التنقل، ومن حيث التساوي الفعلي على المستويات القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ..
تمثل هذه الاتفاقية المدخل الدولي والإطار القانوني العملي إلى تحقيق المساواة بين الجنسين وتعرضت مسألة المصادقة الحكومية عليها في الكثير من الدول وخاصةً الأنظمة الأبوية للعديد من التحفظات وواجهت الكثير من الانتقادات مما جعل المصادقة عليها في عدة بلدان لا يتعدى الحبر على الورق ومما يثبت بالدليل القاطع واقع التمييز العنصري ضد النساء في دول عدة منها من تدّعي العَلمانية.. ويمكننا القول أن مواد الاتفاقية التي تم التحفظ عليها في أغلب الدول المتحفظة تبطل مفعول الاتفاقية وتفرغها من محتواها الفعلي وتمنع تحقيق أي فائدة للنساء أو إحراز أي تقدم في مجال إشراك المرأة في بناء الحياة الوطنية إلى جانب الرجل. ومن تلك الدول سوريا، رغم وجود عدد من مواد الاتفاقية في الدستور السوري!
ما هو واقع الاتفاقية في سوريا حكومياً و مدنياً على امتداد 42 عاماً في ظل نظام الحكم الواحد:
وقّعت الحكومة السورية على الاتفاقية لدى صدورها وهو ما يعتبر اعترافاً رسمياً بها مع بقائه إجراء غير ملزم بأي تغييرات على المستوى الوطني ثم صادقت عليها لإثبات علمانية نظام الحكم وتحت الضغوط الدولية في العام 2002 مع التحفظ على مواد وفقرات مثل رقم 2 و 9 و 15(الفقرة 4) و 16 و 29 ، بمجمل 15 تحفّظ يبطل جملة وتفصيلاً المفعول الحقوقي الرفيع للاتفاقية، وقد أكدت الحكومة السورية مجدداً على تحفظاتها “كإرادة وطنية” دون أي تغيير بالاستناد إلى قرار أصدره مجلس الشعب وبالإجماع وبوجود 31 امرأة أعضاء في المجلس بعد عقده لجلسة خاصة في العام 2008 مختزلاً أي معنى حقيقي للديمقراطية.
التحفظات السورية حرفياً كما وردت في وثائق الأمم المتحدة:
“تبدي الحكومة السورية تحفظات بشأن المادة 2، والفقرة 2 من المادة 9 بشأن منح جنسية المرأة لأطفالها والفقرة 4 من المادة 15، المتعلقة بحرية التنقل والسكن، والفقرات 1 (ج) و(د) و(و) و(ز) من المادة 16، المتعلقة بالمساواة في الحقوق والمسؤوليات أثناء الزواج وعند فسخه فيما يخص الولاية والنسب والنفقة والتبني، والفقرة 2 من المادة 16، المتعلقة بالأثر القانوني لخطوبة الطفل أو زواجه لتعارضها مع أحكام الشريعة الإسلامية، والفقرة 1 من المادة 29، المتعلقة بالتحكيم بين الدول في حال حصول نزاع بينها.
إن انضمام الجمهورية العربية السورية إلى هذه الاتفاقية لا يعني بأي حال من الأحوال الاعتراف باسرائيل ولا يؤدي إلى الدخول معها في أي معاملات مما تنظمه أحكام هذه الاتفاقية.”
باستثناء الجملة الأخيرة مما ورد، كان من شأن هذه التحفظات في سوريا تثبيت التمييز و الإقصاء وتأكيد القيود الفكرية التي يفرضها المجتمع الذكوري بسلطة الحاكم عند محاولات التعامل مع سيداو من قبيل (الحلال/الحرام ، الصواب/الخطيئة، الإيمان/الكفر، الثواب/العقاب، المُحرم/الأجنبي..) وغير ذلك من الئنائيات القطبية الحدية من أجل الحفاظ على الصورة النمطية المرسومة اجتماعياً بأمر ونهي الأعراف والتقاليد والأديان، وبمساعدة العمل الحكومي الدائم والحثيث على تكريس هذه الصورة من خلال مطابقتها واستصدارها تشريعياً باسم المطلب الشعبي في التعامل مع المرأة، وبالتالي رفض النداءات الإنسانية لرفع التمييز المرصود والمظالم الناجمة عن الاعتماد على النقل وتجاهل فرصة إشراك خلاصة الجهود الفكرية الإنسانية والإجماع الدولي من أجل التغيير نحو الأفضل مع الحفاظ على الخصوصيات المجتمعية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، لاتزال المرأة السورية إلى يومنا هذا تحرم قانونياً من رعاية الأبناء في حال زواجها بعد الطلاق أو الترمل، ولا تقبل شهادتها الفردية بدعوى نقص الأهلية العقلية على تذكّر الوقائع والأحداث، وهي غير قادرة على الاحتفاظ بمنزل الزوجية لرعاية الأبناء في حال طلاقها التعسفي أو الخلع، وتمنح كمطلقة أو معالة نفقة زهيدة لا تكفيها شر السؤال وحسب المادة 151 من قانون الأحوال الشخصية السوري تُحرم من هذه النفقة في حال تمردت “بغير حق” (من قبيل اختيار مكان إقامة لا يوافق عليه مانح النفقة)، وغير ذلك من حالات الانتقاص المخزية والمعيبة بحق مواطن كامل الأهلية في أي دولة تحترم مواطنيها وحقوقهم وتحفظ كراماتهم.
هل تتعارض سيداو وغيرها من الاتفاقيات الحقوقية الإنسانية مع الأعراف والأديان؟
موضوعياً، يمكن للعقد الاجتماعي الملتزم بالمواثيق والاتفاقيات الدولية ضمان الخصوصيات المجتمعية على صعيد النهج الثقافي والتربوي والطقوس والعادات والدعوة الدينية وتشكيل الأحزاب السياسية والتيارات المدنية وغير ذلك شرط عدم حدوث تمييز أو انتهاكات لحقوق وحريات الأفراد. وبالتالي إتاحة فرصة تحقيق المساواة والعدالة في إطار المواطنة الكاملة مع الحفاظ على الخصوصيات المجتمعية بأرقى النماذج الإنسانية المتحضرة. ولن يعجز العقل السوري المحافظ بطبيعته عن إيجاد أدبيات تربوية وأخلاقية حضارية ملائمة ترتقي ببناء شخصية المرأة وبالعلاقات الناظمة للتعامل بين الأفراد في ظل قانون يحمي الجميع بالتساوي وينصف الفئات المستضعفة‘ مع الحفاظ على المجتمع من الضياع أوفقدانه الخصوصية، هذا المجتمع المصاب بالإرهاق مادياً ومعنوياً حتى الموت بسبب الحرب الدامية واستنزاف الموارد وسبل العيش وصراع الثنائيات القطبية الحدية المكرسة كلياً لخدمة النفوذ والسلطات الراهنة..
وخلاصة القول، التحكم الذكوري بالمرأة بسلطة القانون وبحجة حمايتها وحماية الأسرة ليس إلا إعاقة تحرم المجتمع من مساهمة نصف ثروته البشرية في عمليات البناء والتنمية المستدامة، ولعل تعاون الرجل لإعطاء المرأة حريتها و تعليمها وتدريبها على تحمل المسؤولية كفيل بجعلها قادرة على مواجهة مختلف أشكال الأذى التي يتحجج بها المجتمع الأبوي ويستخدمها كذريعة لاستمرار فرض الوصاية على نصف المجتمع فيما يقوم هذا المجتمع يومياً بممارساته القمعية لتنشئة امرأة ضعيفة متبلدة انفعالية هشة خائفة تخشى المواجهة وتكتفي بالاختباء.. ويكفي لكل منتقص من إمكانيات النساء السوريات وأهليتهن الفكرية أنه ابن امرأة أو شقيق أو زوج أو أب لامرأة دون أن ينتقص ذلك شيء من قيمته الإنسانية.
إن سوريا اليوم في إطار الأزمة المعقدة المتعددة الجوانب المترامية الأطراف أحوج ما يكون للتمسك بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان وكافة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة بحرفيتها قدر الإمكان وفي مقدمتها سيداو لتكون جميعها مع الجهود الوطنية ذات التوجه الديمقراطي إطاراً متكاملاً مقبولاً يضمن مصالح الغالبية السورية العظمى المتأذية على مر العقود والسنوات.
هدى المصري
مراجع للاطلاع:
نص اتفاقية سيداو
https://www.un.org/womenwatch/daw/cedaw/text/0360793A.pdf
التحفظات على الاتفاقية: