سورية ليست ملكا لبيت ولا إرثا لأحد، بل هي ملك أبنائها وإرث شهدائها، وعلى جماجم ضحاياها وجهود وجهاد رجالها، وآلام أطفالها ونسائها، أقامت صرح استقلالها ودعائم سيادتها”
شكري القوتلي 1947
انتهت ولاية رئاسة الجمهورية لشكري القوتلي القوتلي في عام 1947 ولكن عددا هاما من الشخصيات الوطنية أصر على بقائه في الحكم، بالرغم من تعارض ذلك مع المادة 68 من الدستور السوري، التي حددت ولاية رئيس الجمهورية بأربع سنوات فقط، غير قابلة للتمديد. وقد تزعم مقترح تعديل الدستور لطفي الحجار وفخري البارودي وصبري العسلي وجميل مردم بك باعتبارهم قادة الحزب الوطني الذي تشكل بعد الجلاء. وعارضهم في ذلك نواب حزب الشعب من حلب (ناظم القدسي ورشدي الكيخيا) والحزب العربي الاشتراكي (برئاسة أكرم الحوراني) ورئيس المجلس النيابي سعد الله الجابري ورئيس الحكومة الأسبق خالد العظم وكان مرشحا من عدة أطراف لهذا المنصب. استطاع نواب الحزب الوطني تعديل الدستور لصالح شكري القوتلي، لتتم إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، تنتهي عام 1951. وقد حصل الرئيس شكري القوتلي على 123 من أصل 125 صوتاً داخل المجلس النيابي.
في نوفمبر 1947، صدر القرار الأممي بتقسيم فلسطين. وأصبحت فلسطين القضية الأولى في الشارع السوري. وقف مندوب سوريا في الأمم المتحدة فارس الخوري في وجه قرار التقسيم واندلعت المظاهرات في كافة المدن السورية. وفتحت دمشق أبواب التطوع في فلسطين بأمر من شكري القوتلي وقررت الحكومة السورية تمويل 25% من نفقات جيش الإنقاذ بقيادة الضابط فوزي القاوقجي لمحاربة العصابات الصهيونية.
وعند إعلان بن غوريون ولادة دولة إسرائيل دخل الجيش السوري بقوة قتالية قوامها 3000 شخص. لكن البريطانيين كانوا قد قدموا للميليشيات الصهيونية المسلحة ما يسمح لها بتفوق عسكري، ناهيكم عن تخاذل عدد من الدول العربية.
في صباح 30 آذار/مارس 1949، طوقت وحدة من الجيش منزل رئيس الجمهورية، واعتقلت شكري القوتلي ورئيس وزرائه خالد العظم، بأمر من قائد الجيش حسني الزعيم. نقلت قيادة الانقلاب الرئيس القوتلي إلى سجن المزة العسكري ثم نُقل إلى مستشفى الشهيد يوسف العظمة بسبب تدهور حالته الصحية، وأعلنت حال الطوارئ في البلاد وتسلمت قيادة الجيش الحكم في البلاد، واتهم حسني الزعيم القوتلي “بالتخلي عن الجيش وعدم تسليحه بشكل جيد قُبيل حرب فلسطين وسرقة أموال الدولة وهدر مصالح الأمة“. تدخلت عدة دول للحؤول دون إعدام القوتلي في محاكمة عسكرية، خاصة وأن التهم المنسوبة للقوتلي لا أساس لها من الصحة، فقد كان يدفع ما عنده للثوار ومعروف بنزاهته ونظافته وكان أول حاكم عربي رفض قرار تقسيم فلسطين، فوافق الإنقلابيون على نفيه مقابل استقالته. فنشر فارس الخوري نص استقالة الرئيس موجها إلى الشعب. وجاء فيه: “أتقدم إلى الشعب السوري الكريم باستقالتي من رئاسة الجمهورية السورية، راجياً له العز والمجد”. أُطلق سراح القوتلي في منتصف نيسان/أبريل، وصودرت أملاكه وأملاك ابنه، وسُمح له مغادرة البلاد إلى منفى اختياري فتوجه مع أفراد أسرته بداية إلى سويسرا ثم إلى مصر. وبعد سنوات عدة، تبين أن انقلاب حسني الزعيم تم بتخطيط وتمويل من وكالة الاستخبارات الأمريكية وكان هدفه التخلص من شكري القوتلي شخصياً لأنه رفض توقيع اتفاقية مرور نفط شركة التابلاين الأمريكية عبر الأراضي السورية، كما رفض توقيع اتفاقية هدنة مع إسرائيل. وقد جاء هذا الاعتراف على لسان ضابط الاستخبارات الأميركية المقيم يومها في دمشق مايلز كوبلاند في كتابه الشهير “لعبة الأمم” الذي صدر في سنة 1970، بعد ثلاثة أعوام من وفاة القوتلي.
أمضى شكري القوتلي فترة الاتقلابات العسكرية المتتابعة (حسني الزعيم من آذار لآب 1949) واللواء سامي الحناوي (آب إلى كانون الأول 1949) والزعيم فوزي سلو(1951-1953) وأخيرا العقيد أديب الشيشكلي (1953-1954) حيث بسقوط الشيشكلي أعيد العمل بالدستور وعاد الرئيس هاشم الأتاسي للسلطة بعد أن غادرها طوعا في 1951. وصل القوتلي لمطار دمشق في في 7 آب/أغسطس 1954 وأعلن عن ترشحه لرئاسة الجمهورية بعد مهاية ولاية هاشم الأتاسي.
خلال سنوات المنفى، كَتب القوتلي مُقدمة كتاب عن نضال سورية الوطني ضد فرنسا
في الانتخابات الرئاسية التي تمت تحت قبة المجلس، فاز شكري القوتلي بالرئاسة الأولى، عبر نيله 91 صوتاً من أصل 142 صوتاً داخل المجلس النيابي، مقابل 42 صوتاً لصالح خالد العظم. وفي 5 أيلول 1955، ألقى شكري القوتلي القسم الرئاسي، للمرة الثانية في حياته، وبدأ العمل في ولايته الدستورية الثانية والأخيرة.
اختار الرئيس القوتلي المحامي سعيد الغزي ليكون رئيساً لحكومته الأولى، قبل تولي صديقه المحامي صبري العسلي لهذا المنصب عام 1956، وذهبت رئاسة المجلس النيابي للدكتور ناظم القدسي عن حزب الشعب ثم لأكرم الحوراني عن حزب البعث العربي الاشتراكي. وفي حكومة العسلي، عُيّن صلاح الدين البيطار أحد مؤسسي حزب البعث وزيراً للخارجية، وكان مُقربا من الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وخالد العظم وزيرا للدفاع. وجرى التوافق على اللواء عفيف البرزة المحسوب على الحزب الشيوعي السوري رئيسا للأركان.
يروي خالد العظم في مذكراته النقاشات التي جرت من أجل بناء جيش وطني سوري قادر على مواجهة الخطر الإسرائيلي. وكيف كانت ميوله وميول الرئيس القوتلي إلى الخروج من سقف الاستعمار القديم (فرنسا وبريطانيا) في قضية التسليح العسكري. كان موقف وزير الخارجية صلاح الدين البيطار ضرورة التوجه إلى يوغسلافيا للتسلح باعتبارها من أقطاب دول عدم الإنحياز، في حين لم يكن عند القوتلي والعظم أي حرج في بناء علاقات دبلوماسية وتعاون عسكري مع مختلف الأطراف خارج حلف الناتو. الأمر الذي حسمه الرئيس بتبادل العلاقات الدبلوماسية مع رومانيا وتشيكوسلوفاكيا والصين الشعبية إضافة إلى العلاقات القائمة مع الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا. وهكذا توجه وفد حكومي عالي المستوى لتوقيع صفقة أسلحة ضخمة وبأسعار مخفضة مع تشيكوسلوفاكيا في يناير 1956؛ تبعتها في أكتوبر اتفاقية ثانية حول تبادل القطن والمنسوجات وزيت الزيتون مع بولندا، ثم تبادل العلاقات الدبلوماسية مع الصين رومانيا. الأمر الذي جعل وسائل الإعلام البريطانية والفرنسية تتحدث عن حكومة “اليسار” في دمشق، وأطلق العديد منها اسم “المليونير الأحمر” على وزير الدفاع خالد العظم، و”البرجوازي اليساري” على شكري القوتلي.
اليوم، وبعد 65 عاما، يبصر المؤرخون بعد نظر الحكم الوطني في هذه السنوات الذهبية الأربع من تاريخ سوريا. فقد اعتبرت الحكومة السورية بناء اقتصاد وطني قوي ومستقل أساسا للتنمية والبناء، وسعت من أجل بناء جيش وطني قادر على مقاومة المخاطر الخارجية بعد فترة اضطرابات الانقلابات العسكرية، وعملت المستطاع لتعزيز ديمقراطية تعددية كانت الأحزاب السياسية على اختلافها تشارك فيها، وأفسحت المجال للعمل النقابي بشكل لا سابق له حيث تعددت وازدهرت النقابات المهنية، كذلك حرصت الحكومة على حماية حرية الرأي والتعبير ووصل عدد الصحف والمجلات إلى أربعمئة عشية إعلان الوحدة المصرية-السورية.
وقف شكري القوتلي بحزم ضد حلف بغداد والتحالف التركي – الملكي العراقي، وطالب بقيام اتفاقات تقرب بين ثلاثة أقطاب عربية (مصر والسعودية وسوريا). وأثناء العدوان الثلاثي على مصر، سافر شكري القوتلي إلى موسكو لطلب مساعدة الاتحاد السوفييتي لمصر والرئيس جمال عبد الناصر لمواجهة العدوان الثلاثي. وقال جملته الشهيرة للرئيس نيكيتا خروتشوف والتي نشرتها صحيفة البرافدا وقتئذ: “أرسلوا الجيش الأحمر إلى مصر” لمواجهة العدوان الاستعماري الثلاثي.
قامت الحكومة السورية بقطع علاقتها مع كلّ من فرنسا وبريطانيا وجرى نسف أنابيب النفط البريطانية المارة عبر الأراضي السورية، دعماً لمصر.. وقد وقّعت دمشق في عهد القوتلي سلسة من الاتفاقيات مع الاتحاد السوفييتي، أبرمها وزير الدفاع خالد العظم، مُنحت سورية من خلالها سلاحاً روسيا بقيمة 570$ مليون دولار، يتم تسديد قيمتها بالتقسيط عبر عائدات القمح السورية، على مدى 12 سنة.
في 12 آب 1957، تم الكشف عن مؤامرة أميركية لقلب نظام الحكم في سوريا ووُجهت أصابع الاتهام إلى الملحق العسكري الأميركي روبيرت مالوي والسكرتير الثاني هاوارد ستون والسفير جيمس موس، الذين طُردوا فوراً من دمشق، فردت الإدارة الأمريكية بالمثل وقامت بطرد الدكتور فريد زين الدين، السفير السوري من واشنطن. وقد جاء الضوء الأخضر للانقلاب على القوتلي مجدداً من الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور الذي اتهم نظيره السوري بالعمل لاصطفاف سوريا مع الاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة.
على صعيد السياسة العسكرية، فإنّ 68% من الموازنة السورية لعام 1955 كانت مخصصة للجيش، وفي 20 أكتوبر 1955 حقق القوتلي أحد مشاريعه القديمة بتوقيع مواثيق الدفاع المشترك بين الدول العربية لصد العدوان والتدخل الخارجي. أشهر القوتلي اتفاقًا للدفاع المشترك مع لبنان. في 6 مارس 1956، عقد القوتلي مع الملك حسين والملك سعود بن عبد العزيز وجمال عبد الناصر قمة في عمان، تبعتها قمة أخرى بين القوتلي والملك حسين في 11 نيسان 1956، نجح القوتلي فيها بتحييد الأردن عن حلف بغداد.
كان من نتائج العدوان الثلاثي على مصر وأزمة تأميم قناة السويس خلال فترة 1956 – 1957، نتائج بالغة الأثر على سوريا، فأعلنت حال الطوارئ بموجب اتفاقية الدفاع المشترك، وتصاعدت شعبية عبد الناصر، وهُوجمت المصالح العراقية في العهد الملكي قبل ثورة 1958. وساءت العلاقات مع لبنان في ظل حكم كميل شمعون. إلا أن إعلان حالة الطوارئ لم يرافقه فرض رقابة على الإعلام أو يستتبع أية اعتقالات تعسفية وانحسرت تطبيقاته فيما يمس الأمن الوطني السوري.
في 13 آب 1957، رفضت الحكومة السورية عرضًا أمريكيًا بتقديم 400 مليون دولار، أي أربعة أضعاف حجم موازنة الدولة السورية، مقابل السلام مع إسرائيل وكسر الحلف مع عبد الناصر، كما أعلنت إذاعة دمشق في الوقت ذاته إحباط مؤامرة إمريكية للانقلاب على حكم القوتلي وأرسلت مصر قوات إلى سورية وإلى ميناء اللاذقية في 11 أيلول بعد توتر العلاقات بين سوريا وتركيا، التي هددت بغزو سوريا وضم مدينة حلب، متهمة نظام القوتلي بتهديد الأمن القومي التركي من خلال تحالفه مع الاتحاد السوفييتي.
وفي يوم 11 كانون الثاني 1958، توجه وفد من الضباط السوريين إلى مصر يقودهم رئيس أركان الجيش اللواء عفيف البرزة والملحق العسكري المصري عبد المحسن أبو النور، للمطالبة بتوحيد سوريا ومصر برئاسة جمال عبد الناصر. وحسب مذكرات القوتلي والعظم، لم يقم أحد منهم بإبلاغ الرئيس القوتلي أو وزير الدفاع خالد العظم. تأخر الرئيس المصري في مقابلتهم، لأنه كان منشغلاً في استقبال رئيس إندونيسيا أحمد سوكارنو. وحسب عبد الله الخاني، سأل الرئيس عبد الناصر الوفد عن موقف الرئيس شكري القوتلي من هذه الوحدة، مؤكداّ أنه وحدَه دون سواه مخوّل بالتفاوض باسم الشعب السوري والدولة السورية. وما جرى هو أن الرئيس السوري قرر دعم جهود هؤلاء الضباط، ، فأرسل وزير الخارجية صلاح الدين البيطار لإعطائهم شرعية سياسية وفاوض رسمياً على الوحدة باسم رئيس الجمهورية. اشترط عبد الناصر أن تكون الوحدة اندماجية لا فيدرالية، وأن تكون عاصمتها القاهرة ، وأصر على شرط أخير، أن يتم حلّ جميع الأحزاب السورية، جرت مناقشات واسعة حول الشرط الأخير خاصة وأن التجربة السياسية السورية كانت مفتاح المشاركة العامة في بناء الدولة وتقرير السياسات وأن الحريات الأساسية هي التي أعطت سوريا مكانا كبيرا في الإقليم بل والعالم. لم يقبل الرئيس عبد الناصر باستمرار الحياة الحزبية التعددية لأن استمرارها يشكل خطر قيام أغلبية تطالب بالإنفصال وبالتالي إعاقة مسار توحيد الدولتين. ووافق صلاح الدين البيطار على ذلك وتبعه عدد من الشخصيات الوطنية والأحزاب السورية، في حين رفض الحزب الشيوعي السوري والبارتي الديمقراطي الكردي قرار حل الأحزاب، كذلك قسم من حزب البعث رفض حل الحزب واستمر في العمل السري.
في شباط 1956 سافر القوتلي إلى مصر للتوقيع على ميثاق الوحدة السورية المصرية بعد أخذ موافقة مجلس النواب، وتنازل طوعياً عن رئاسة الجمهورية العربية المتحدة لصالح الرئيس عبد الناصر، الذي كرّمه بلقب “المواطن العربي الأول”.
قضى شكري القوتلي سنوات التقاعد متنقلاً بين دمشق والقاهرة وجنيف، ولكن بقيت مواقفه وأخباره تتصدر الصفحات الأولى من الجرائد السورية، مما أزعج عبد الناصر والمشير عامر وجرى استدعاء وزير الثقافة والإرشاد القومي رياض المالكي، الذي أصدر أمراً إدارياً بأن “الأضواء يجب أن لا تُسلط بعد اليوم إلا على شخص سيادة رئيس الجمهورية، دون غيره من الشخصيات. وقد ازدادت الهوة بين القوتلي وعبد الناصر عندما منع الأخير عزف النشيد الوطني السوري حماة الديار ومنع إقامة الاحتفالات بعيد الجلاء السوري يوم 17 نيسان. وانفجر الخلاف بينهما عند إصدار عبد الناصر قرارات التأميم في تموز 1961، التي اعترض عليها شكري القوتلي بشدة قائلاً: “أخاف على الوحدة التي صنعناها معاً يا أبا خالد، أخاف عليها من هذه القرارات الارتجالية وغير المدروسة”. وقد سافر الرئيس القوتلي إلى القاهرة بطلب من غرفة تجارة دمشق في محاولة لإقناع عبد الناصر بالعدول عن التأميم، ولكن الرئيس المصري رفض المشورة. كان هناك قناعة عند التيار الوطني السوري من رجال الأعمال والصناعيين بأن الرأسمالية الوطنية لن تقوم بدورها عبر التأميم غير المدروس والارتجالي. وأن الأفضل أن يكون هناك تعاون وتكامل بين قطاع الدولة والقطاع الخاص. وأن تشجيع المبادرات الخاصة سيصب حكما في تقوية وتعزيز اقتصاد دولة الوحدة. في حين كان هناك اتجاه يسعى لقطاع عام على طريقة دول أوربة الشرقية والإشراف التام للدولة على كل قطاعات الاقتصاد. وعندما يقرأ المرء هذه النقاشات المبكرة التي سبقت سقوط جدار برلين بثلاثين عاما، يدرك حجم النضج وبعد النظر عند رجالات الاستقلال والخمسينيات والرأسمالية الوطنية السورية، وكيف أدت العقلية البيروقراطية إلى بناء دياسبورا رجال أعمال سوريين في لبنان وأوربا والبرازيل ودول الخليج كان المكان الطبيعي والحيوي لها في اللاذقية وحمص وحلب ودمشق..
من سويسرا، حيث كان للعلاج، تابع شكري القوتلي وقوع ما يسمى اليوم “انقلاب الإنفصال عن مصر” يوم 28 أيلول 1961، وأعطى التلفزيون السوري بعد أسابيع لشكري القوتلي خطابه السياسي الأخير. وفي هذا الخطاب تحدث عن الأخطاء والتجاوزات التي دفعت الضباط السوريين لإعلان نهاية الوحدة. وقد رفض الرئيس القوتلي طلب المقدم عبد الكريم النحلاوي العودة لرئاسة الجمهورية، وظلّ متمسكاً باعتزاله الشأن العام. وقد جاء في كلمته المتلفزة: “لقد كان في أساس الأخطاء كلها قاعدة واحدة: تأمين الأقلية وتخوين الأكثرية، وتسليط هيئات مصطنعة وأفراد على تنفيذ اشتراكية تعاونية لا يؤمنون بها، ولا يعملون من أجلها، ولا يفهمون أي مبدأ من مبادئ العدالة والتعاون، وكان كل مدار الثقة بهم أنهم حاقدون يكرهون الناس، ويتطيرون من وجوه الخير.” أكمل القوتلي كلامه بالقول: “إننا لا نستورد المبادئ ولا نتسعير العقائد” مضيفاً أن الوحدة “لا تعني عملية ضم، والنظام الرئاسي لا يعني انعزال الراعي عن الرعية.”
وقد تطرق إلى انعدام الديمقراطية في عهد الوحدة وقال: “ولطالما شكا النواب المعينون لمجلس الأمة من عدم جدوى وجودهم تحت قبة المجلس، لأن ليس لهم من وظائف التمثيل النيابي سوى إقرار المشاريع التي كتبها موظفو الدولة والتصويت عليها برفع الأيادي الصامتة.” ختم بمباركة انقلاب الانفصال وقال: “كلمتي الأخيرة إليكم أنكم أنتم وحدكم مسؤولون عن تقرير المستقبل، وأن القيادات في صفوفكم عناوين زائلة، وتبقون أنتم الشعب سطور البقاء والخلود. ولقد استطعت على خدمة نضالكم وجهادكم، مواطناً عادياً وجندياً مكافحاً، أكثر مما أُتيح لي أن أتوفر لهذه الخدمة الشريفة، رئيساً وحاكماً ومسؤولاً. وأن أعظم ما أطمح إليه عامل في الحقل العام، عانق القضية المقدسة منذ مطلع هذا القرن: فتى وشاباً وشيخاً أن يستحق استمرار الرضا عنه في صفوف المواطنين العاديين، مواطناً صالحاً وجندياً أميناً.”
وهكذا حصلت قطيعة كاملة من يومها بين شكري القوتلي وجمال عبد الناصر استمرت حتى حرب حزيران 1967.
وفي يوم 30 حزيران 1967، توفي شكري القوتلي في بيروت عن عمر ناهز 75 عاماً، وكان ذلك في أثر تعرضه لذبحة قلبية عند سماعه نبأ سقوط هضبة الجولان في يد القوات الإسرائيلية. وقد تدخل الملك فيصل بن عبد العزيز للسماح بعودة جثمانه لدمشق. وخرجت جنازة شعبية مهيبة له لم تشهد مثلها مدينة دمشق من قبل، صاح خلالها المشيعون: “لا إله إلا الله وشكري بك حبيب الله. الله يرحم شكري بك، الله يرحم سوريا.. ووُوري الثرى في مدافن الأسرة في مقبرة الباب الصغير بدمشق.
ذكرى ومراجع حول الفقيد الكبير شكري القوتلي
صدر كتاب عن حياته وجهاده في مصر عام 1959، حمل عنوان “شكري القوتلي: تاريخ أمة في حياة رجل” للصحفي السوري عبد االطيف اليونس، وتلاه كتاب ثانٍ في بيروت سنة 2003، للقاضي عبد الله الخاني، أمين عام الرئاسة السورية في عهد القوتلي، حمل عنوان “جهاد شكري القوتلي“. ووضع الكاتب السوري سامي مروان مبيض كتاباً ثالثاً باللغة الإنجليزية عن حياة شكري القوتلي بعنوان “جورج واشنطن سوريا” (بيروت 2005). وقد ظهرت شخصية شكري القوتلي ظهرت في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية السورية والعربية، منها مسلسل “هجرة القلوب إلى القلوب” للمخرج هيثم حقي، ومسلسل “نزار قباني”، وفيلم “الليل” لمحمد ملص.
أهم الاستشهادات بأقوال شكري القوتلي من كتاب شكري القوتلي يخاطب أمته، مختارات منخطبه وبياناته، تقديم هالة شكري القوتلي، الطبعة الثانية، 2001.
اعتمدت في هذه السيرة المختصرة، على المراجع المذكورة أعلاه، والموسوعة البريطانية والألمانية (لودفيك مونسينجر) وكتابات معهد الاستشراق في موسكو والويكبيديا الحرة، مع التدقيق بالاستشهادات والمواقف في أرشيف الصحافة السورية ومذكرات شخصيات وطنية أخرى منها خالد العظم وأكرم الحوراني…
أسامة الرفاعي
باحث في المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان