أعطت سلطات الاحتلال في العراق الحصانة لكافة (المرتزقة) المتعاقدين مع شركات الحماية الأمنية العاملين لحساب قوات متعددة الجنسيات، وذلك في القرار الصادر عن سلطة الائتلاف رقم (17) الذي أصدره الحاكم المدني السفير بول بريمر في حزيران/يونيو 2004 قبل نقل السيادة للعراقيين في 28/6/2004، حيث لا يتمّ إخضاعهم لأيّة ملاحقات قضائية بشأن تصرفاتهم. وعلى الرغم من أنّ جنوداً نظاميين مثلوا أمام محاكم عسكرية أمريكية أو بريطانية لمقاضاتهم بشأن الجرائم التي ارتكبوها في العراق، فمن المؤكد عدم خضوع أحد من المرتزقة لأيّ شكل من أشكال الملاحقات القضائيّة. رغم أن عددهم أصبح في أقل من عامين بعشرات الآلاف وشملت شركات الأمن العاملة قائمة كبيرة نذكر على سبيل المثال لا الحصر: دايني كروب، كيلوج براون ورت، آرنيس للخدمات الأمنية، ساندلاين انترناشيونال، بلاك ووتر، فينيل كورب، كوستر باتلز للخدمات الأمنية، كلوبال ريسكس استراتيجز، آرمور كروب، انترناشيونال لعمليات الأمن الدفاعي والتدريب، ستيل ماونديش، ايجيز ديفنس سيرفيسيز، إيرفيز، كونترول ريكس كروب.
اخترع وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد (حسبما أوردت صحيفة Le Temps السويسرية)، مفهوم الـ OUT-sourcing المقصود به عمليا “التجنيد من خارج صفوف الجيش”، كما ظهر مصطلح “الميليشيات الصديقة” التي طالب نائب وزير الدفاع الأمريكي بول فولفوفيتز في العاشر من أغسطس 2004 الكونغرس بتخصيص ميزانية لفائدتها بحوالي 500 مليون دولار، من أجل محاربة “الإرهاب والثورات” على حد قوله. ولم يتأخر رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير عن دخول معركة المصطلحات مطالبا بخصخصة ما يمكن في الحرب في العراق تحديدا للخسائر في صفوف الجيش.
في المثل العراقي يصعب التمييز بين القوات الأمريكيّة النظامية وبين المرتزقة من ناحية التسلّح، فهذه الشركات تمتلك أسطولاً من طائرات الهليكوبتر كما تقول صحيفة نيويورك تايمز في 20/4/2004، وتعقد التحالفات مع بعض العشائر المحلية (تشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من عشرين ألف مرتزق في العراق عام 2004 إلى مئة وعشرين ألف عام 2006)، وتضيف الصحيفة إلى ( أنّ وجودهم الآن أصبح واضحاً في العراق حيث يتجولون في عربات مدرعة، وكثير منهم مدجج بأسلحة قتال بالغة التقدّم، وقد شكلت بعض شركات الحماية الأمنية قوات للرد السريع، بل ووحدات مخابرات خاصّة بها تصدر يومياً تقاريرها الاستخبارية التي تعتمد فيها على خريطة تواجدها في المناطق الساخنة). وهذه في حقيقتها مهام تناط بالجيوش النظامية وليس بشركات الحماية الأمنية وعناصرها المرتزقة، مما يزيل الحدود بين ما هو مدني وما هو حربي في عمل هذه الشركات. رغم كل هذه الإنتهاكات، والتنصب فوق القانون الدولي الإنساني وفوق أوليات الحقوق الإنسانية، فشلت الإدارة الأمريكية في مشروع احتلال العراق رغم كلفة تقدرها وزراة الخزانة الأمريكية بتليريوني دولار. ولكنها نجحت في عولمة التطبيع مع انتهاك القانون الدولي الإنساني وحولت ظاهرة المرتزقة الجدد إلى ظاهرة عولمية تعج بها دول أوربة الشرقية وروسيا وأخيرا وليس آخرا إيران وتركيا.
لن نتوقف أكثر عند ظاهرة “المرتزقة الجدد” التي شكلت انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني وسابقة هزّت قواعد احترام اتفاقيات جنيف الأربع. ولكننا من خلال هذا العرض أردنا توضيح دور الإدارة الأمريكية في ظل سنوات الرئيس جورج بوش الإبن في وضع اللبنات الصلبة لتجاوز فكرة الحقوق والقانون والأعراف الأولية الضامنة لكرامة الإنسان في أوضاع النزاع المسلح. وكون المغلوب مولعا بالغالب، كانت الميليشيات الشيعية العراقية أول من قلد هذه الأساليب سواء في تشكيلاتها أو في ممارساتها. وكذلك فعلت طلائع تنظيم التوحيد والجهاد تحت راية “Caïd” هرب من الملاحقات القضائية في الأردن إلى أفغانستان ليعود إلى العراق “أميرا” للجهاد ضد الاحتلال والرافضة. وبالطبع، فإن أجهزة صدام العسكرية والأمنية التي تم حلها، لم تكن بحاجة إلى هذه المدرسة من أجل جلب مقاتلين من كل حدب وصوب، ولكن هذه المرة باسم الجهاد العالمي وعودة الخلافة الراشدة والالتحاق السريع بالحور العين في جوار رب العالمين.
بنفس الآليات ولكن بيافطات مختلفة ومساعدة عدة أجهزة مخابرات إقليمية، تم تجنيد آلاف الشبان العرب والمسلمين من سورية وفلسطين ولبنان ودول الخليج والمغرب الكبير إلخ. للالتحاق بالمقاومة في العراق. ومع ازدياد خطر الظاهرة، تعاونت الحكومة العراقية والإدارة الأمريكية وأطراف عربية في تشكيل “الصحوات” مجموعات عسكرية من العشائر العراقية لمواجهة ما سمي بالدولة الإسلامية في العراق. وقد كان لهذه الصحوات مع انسحاب القوات الأمريكية والبريطانية دورا في تراجع هذه الظاهرة بشكل كبير. إلا أن الحكومة العراقية التي دخلت في منطق المحاصصة المذهبية وطيفت قوات الأمن والجيش، ورفضت دمج مقاتلي الصحوات في القوات المسلحة والأمنية تركت الأرض خصبة لمعاودة العرض والمرض. ومع بداية تسلح الحركة الاحتجاجية في سورية وإفراج النظام السوري في شهر مايو 2011 عن قيادات الجهاديين والقاعدة وعودة نشاطهم في الأراضي السورية، عادت ظاهرة المقاتلين الأجانب إلى السطح. واستنفرت المنابر في عدة بلدان تدعو إلى الجهاد في سورية باعتباره كما يقول مفتي قطر يوسف القرضاوي “فرض عين على كل قادر”. توحدت البروباغندا الإخوانية مع البروباغندا السلفية الجهادية في تعبئة الشبيبة للتوجه إلى سورية لإنقاذ “أطفال سورية المسلمين من القتل والنساء الطاهرات من الإغتصاب”. وصارت قنوات مثل الجزيرة وصفا ووصال تخوض الحرب الجهادية بشكل مفضوح. وليس سرا تورط عدد من الدول مباشرة في تمويل وتسليح ومساعدة الجموع المتوجهة للإنضمام إلى داعش وجبهة النصرة وجيش المهاجرين والأنصار وأحرار الشام إلخ. لقد عبر الحدود التركية السورية 120 ألف مقاتل من أكثر من سبعين دولة، وكان جهاز المخابرات التركي MIT بقيادة حقان فيدان يشرف مباشرة على عمليات النقل والتواصل والتنسيق مع الجماعات المتطرفة، بعد أن طالب البرلمان التركي والحكومة بإعطائه صلاحية التواصل مع كل المجموعات المسلحة بما فيها تلك التي تصنفها تركيا إرهابية.
كل أساليب الإدارة الأمريكية في استحضار مقاتلين تحت الطلب تكررت في ثوب جهادي ديني هذه المرة. وجرى استعمالها من “العثمانية الجديدة” و “وولاية الحرس”. فقد صارت الجماعات الإرهابية تدفع للمقاتل أحيانا ثلاثة أو أربعة أضعاف ما يدفع لمقاتل الجيش الحر أو الجندي السوري. وكانت غرفة العمليات في تركيا تقدم القسم الأكبر من مساعداتها للفصائل الأكثر تطرفا وتأثرا بالخطاب المذهبي تحت ذريعة أنها الأكثر كفاءة في القتال. ولعبت حكومة أردوغان وبعدها أوغلو دورا كبيرا في تنظيم وتدريب وتسهيل مرور المقاتلين إلى سورية والعراق. وحصلت من قطر على مئات ملايين الدولارات لمساعدة هذه الجماعات من أجل زعزعة وإسقاط نظامي الحكم في سورية والعراق. وبعد سقوط “خلافة داعش”، بدأ الإستثمار في الجماعات الإسلامية المتطرفة في المشروع التركي للتغيير الديمغرافي على الحدود السورية-التركية وبدأ ذلك باحتلال عفرين وتهجير سكانها واستبدالهم بالقادمين من وسط سوريا والغوطة والقلمون، ثم بدأ مشروع “المنطقة الآمنة” شرقي الفرات. ولم تتوان السلطات التركية في وضح النهار عن إرسال أكثر من خمسة آلاف مرتزق من هؤلاء السوريين والأجانب المتواجدين في مناطق السيطرة التركية إلى ليبيا وأذربيجان.
اعتبر نظام الحكم في إيران، أن هناك حربا شاملة لقصقصة نفوذه الإقليمي وضرب حليفيه في سورية والعراق. لهذا خاض هجوما مضادا بالوسائل نفسها: تجنيد من يستطيع من اللاجئين والمعدمين الشيعة للدفاع عن نظامي الحكم في سورية والعراق. كلفت الأجهزة الإيرانية الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس بمهمة التجنيد والتدريب والنقل إلى مناطق الصراع. وهكذا بدأت بالظهور إعلانات في عدة بلدان مثل أفغانستان وباكستان وإيران للتطوع للقتال في سورية والعراق لمواجهة الجماعات التكفيرية. وكما تدفع جبهة النصرة وداعش لمقاتليها، هناك مخصصات مالية مغرية لكل من يأتي للقتال دفاعا عن “العتبات المقدسة”.
جاوز عدد القتلى في الصراع الدائر في البلدين المليون ضحية وجاوزت الخسائر 400 مليار دولار. أكثر من 16 مليون إنسان بين نازح ولاجئ. تحالف دولي واسع ضد الإرهاب، قرارات لمجلس الأمن ووجود عسكري أمريكي وروسي… ومع ذلك وفي وضح النهار، نشهد تواطؤا مفضوحا من عدة أجهزة مخابرات إقليمية ودولية في موضوع المرتزقة الجدد.. أما الإنسان وحقوقه، فلا أحد يتطرق لهذا الموضوع.
خرجت ظاهرة المقاتلين بلا حدود وقيود عن السيطرة. ولا شك بأن الاستمرار في توظيف هذه الجماعة أو تلك، وهذا المذهب أو ذاك، وهذا الشباب الضائع في عالم لم يعطه أفقا للحياة الكريمة سيجعل من الصراعات الدائرة صراعات قاتلة للإنسان والحضارة والحقوق والقيم. وأية جريمة، أن يحدث كل هذا تحت سمع وبصر البشرية في عالم الصورة المباشرة وثورة التواصل والمعلومات، ولا نسمع بمحاسبة أو ردع، أو ضغط على الأطراف التي تشارك في هذه الصراعات المدمرة للبشر والشجر والحجر؟
القرار 2254 والتنظيمات الإرهابية
بعد قرارات عدة حول التنظيمات الجهادية المصنفة إرهابية، جاء في ديباجة القرار 2254 أول قرار لمجلس الأمن في القضية السورية توضيحا واضحا لدور هذه الجماعات بالنص: “إذ يعرب عن أشد القلق إزاء استمرار معاناة الشعب السوري، وتدهور الحالة الإنسانية الأليمة، واستمرار الصراع الدائر والعنف الوحشي المتواصل الذي يتسم به، والأثر السلبي للإرهاب والأيديولوجية المتطرفة العنيفة في دعم الإرهاب، وما تخلفه الأزمة من أثر مزعزع للاستقرار في المنطقة وخارجها، بما يشمل الزيادة المترتبة على ذلك في أعداد الإرهابيين الذين يجتذبهم القتال في سورية، والدمار المادي الذي لحق بالبلد، وتزايد النزعة الطائفية، وإذ يؤكد أن الحالة ستستمر في التدهور في ظل غياب الحل السياسي”.
وقد خصص القرار مطالبة واضحة للدول بالتعاون مع الأمم المتحدة لمناهضة هذه الظاهرة لأثرها السلبي العميق على السكان ووحدة البلاد واستمرار العنف الوحشي، طالب القرار بشكل واضح في الفقرة الثامنة:
– يكرر دعوته الواردة في القرار 2249 (2015) والموجهة إلى الدول الأعضاء لمنع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها على وجه التحديد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (المعروف أيضا باسم داعش) وجبهة النصرة، وسائر الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات المرتبطين بتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة الإسلامية، وغيرها من الجماعات الإرهابية، على النحو الذي يعينه مجلس الأمن، وعلى نحو ما قد يتفق عليه لاحقا الفريق الدولي لدعم سورية ويحدده مجلس الأمن، وفقا لبيان الفريق الصادر في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، والقضاء على الملاذ الآمن الذي أقامته تلك الجماعات على أجزاء كبيرة من سورية، ويلاحظ أن وقف إطلاق النار المذكور أعلاه لن يطبق على الأعمال الهجومية أو الدفاعية التي تنفذ ضد هؤلاء الأفراد والجماعات والمؤسسات والكيانات، على النحو المنصوص عليه في بيان الفريق الدولي لدعم سورية الصادر في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015؛
ورغم وضوح هذه الفقرة، وعدم وجود أي خلاف في تفسيرها، فإن هناك دول إقليمية تتواطأ مع هذه الجماعات وتتعامل معها تحت الطاولة وقوفها. وحتى اليوم، ثمة مناطق تسيطر عليها على الأراضي السورية ويزيد عدد المقاتلين من هيئة تحرير الشام وداعش وحراس الدين بأكثر من ثلاثين ألف مقاتل. ورغم أن قرار مجلس الأمن لا يتناول كل المجموعات المسلحة غير النظامية فمن الجدير بالذكر أن أكثر من مركز بحث أوربي يقدر عدد أفراد الميليشيات الموالية لإيران من غير السوريين والعاملة تحت أمرة الحرس الثوري لقرابة 20 ألف مقاتل.
خاص بموقع مؤتمر المعارضة السورية من أجل الحل السياسي (مؤتمر القاهرة)