ابتسامة سلمية فرنسية بين مظاهرات المناخ وانتفاضة حي الجراح

ابتسامة سلمية فرنسية
بين مظاهرات المناخ وانتفاضة حي الجراح

في بداية الأسبوع المنصرم، اتصلت بي صديقة فرنسية، وأخبرتني عن النية للتظاهر من أجل المناخ فبعد حصولها على جميع الموافقات المطلوبة بدأت والمنظمون بالحشد وإرسال الدعوات. لم أتردد ثانية وأجبتها بفرنسيتي الركيكة “وي وي” واتفقنا على أن يأتوا ليقلّوني من مكان إقامتي البعيد لأساعد وأشارك في ذات الوقت.

في اليوم الموعود، وأثناء خروجنا كنا نتبادل الحديث، رن هاتفي فأجبت وبدأت بالترحيب والسلامات الحارّة، تفاجأَت صديقتي وسألتني إن كنت أحدث أحد آخر، اعتذرت عن الخطأ وتلعثمت محاولاً تغيير الحديث، لكنها قاطعتني قائلة: على كل حال أنا لم أفهم شيء، فشرحت لها أنني كنت ألقي التحية فقط لتضحك ضحكة خجولة وتقول حين أرد على هاتفي أقول “ألو” فقط، ثم تابعت حديثها وأخبرتني بتفاصيل المظاهرة التي ستبدأ ظهر اليوم.

في ميدان التظاهر أوكلت إليّ مهام بسيطة على قدر استيعابي للغة جديدة أثقلت نعومتها تلافيف ذهني وأكلت الآلاف من خلاياه العصبية، أتاحت لي هذه المهام فرصة المشاهدة وأعطتني الوقت لأحلل ما أرى. أول ما رأته عيني هو رجال الشرطة بسياراتهم وعجلاتهم النارية في المقدمة وتلحق بهم الجموع الغفيرة والتي يُسمع وقعها على بُعد كيلو مترات من الطريق. اللافت بالنظر ابتسامة المتظاهرين واحتفالهم ورقصهم على أنغام الموسيقى خلال تأديتهم لواجبهم الأخلاقي تجاه أنفسهم وأطفالهم والبشرية أجمع كونهم يتظاهرون من أجل المناخ.

رؤيتي لهذه الأوجه البشوشة ذكرتني بصورة كل ناشط فلسطيني يبتسم للكاميرا لحظة اعتقاله غير آبه لأي مصير قد يلقاه، وبدأت أفكر بمعنى هذه الإيماءة بالوجه والتي نسميها ابتسامة وما هي دلالاتها.

تذكرت بعدها أن الابتسامة في أوطاننا ابتسامة مُرّة لا تسبب إلا تجاعيد الوجه وخطوط العمر تحت الأعين ولا تحمل في طياتها إلا تنهدات لو خرجت لزلزلت جبال راسية منذ ملايين السنين، تلك هي الابتسامة نفسها التي نراها اليوم مرسومة على وجه كل مناصر للقضية الفلسطينية وقضية كل بلد عربي أنهكه الاستبداد وامتص دمه.

مشيت وراء الجموع حتى انتهى بنا المطاف في حديقة فُتحت خصيصاً للمتظاهرين للاستماع إلى كلمات المنظمين الذين اعتلوا المنصة بأوجه مبتهجة شغوفة لرؤية المناصرين، بدأوا بالتعريف بأنفسهم وبالجمعيات المشاركة ومن ثم انتقلوا للتعريف بهذا الحراك وأسموه حراك سلمي إذ أنهم رفعوا شعار “Non à la violence” “اللاعنف”. استوقفتني هذه الكلمات وحملتني بالذاكرة إلى بداية الحراك في سورية حين كنا نخرج من المدرسة الثانوية ونقول “سلمية، سلمية” ليقابلنا قطيع من الثيران الهائجة في محيط ابتسامات خائفة من مصير مجهول أو تحطيم رزق، أو رصاصة طائشة قد تستقر في صدر أحدنا، مقابَلين بالقمع والضرب ومجبرين على الركض بوجوه نُقشت عليها ابتساماتُ خائفٍ ومصدومٍ وربما فرحٍ بالنجاة من هلاكٍ محتوم.

هنالك شيء مريب بالبسمة، لا أستطيع أن أفهمه!

بذات الوقت تواردت الأخبار على هاتفي عن الاحتجاجات التي تخرج من حي الجراح في فلسطين، الاحتجاجات الـ “سلمية” أو اللاعنفية التي يقوم بها سكان الحي مواجهين فيها قطعان مدججة بكل أدوات القمع تقوم بضربهم وتفرقتهم وكأنهم مجموعة من الخِرفانٍ. لكن لا، إنهم ثوّار أبرياء قهرهم الظلم واغتصب أرضهم واحتلّ قدسهم ومزّق فِلذّات أكبادهم فثاروا بعد أن فقدوا الأمل بإيجاد من ينجدهم لا يحملون بأيديهم إلا أرواحهم التي تمثل جُلًّ ما يملكون يقدموها بسخاء فداءً لأرضهم وعرضهم.

ومع كل خبر وارد لم تكن حيلتي إلا تحريك عضلات وجنتي راسماً للحظات معدودة ابتسامة الخيبة في ظل مشهد حضاري حماسي لقضية مناخ يحمي فيها الشرطي والمحتج كلٌ الآخر، وفي ظل حسرة على دمٍ آمل أنا ألا يذهب سداً.

تداخلت الأحداث والأخبار وبت أسمع دويّ من حولي كهلوسات أوقفت الزمن وقيدت جسدي عابرةً به حدود المكان إلى عالمٍ عجزت فيه عن تشكيل أصغر صورة لما أسمعه من صراخ، صراخ الشعب الذي يفطر أقسى القلوب في دفاعه عن قضيته.

مرّت برهة من الزمن أحسست بها أن دهراً انطوى وأن عمراً انقضى، استفقت بعدها من جديد على منظر تبعثر الجموع بعثرةَ فيروسات خارجة من رئة أنهكتها الكورونا، منطلقاً مع المتظاهرين مبتسماً وإياهم ابتسامة سلمية فرنسية أغرقتني في بحر مخيلتي فما تعلمته اليوم عنها أنها تملك مفهوم مختلف بحسب الزمان والمكان والظروف المحيطة.

تمنياتي بالحرية والخلاص للشعب الفلسطيني وكل شعب مضطهد حول العالم.

ممدوح القدسي

Scroll to Top