منذ فجر التّاريخ ساهم الإنسان السّوري في المشاركة وإثراء الحضارة الإنسانيّة، أما اليوم فتشهد سوريا مخاضاً عسيراً تكاثرت حوله التّدخّلات ونظريّات الولادة الجديدة، وبات لزاماً على السّوريين على اختلاف تطلّعاتهم الانصهار في بوتقة وكيان واحد، ليمكّنهم من متابعة دورهم الحضاري الذي يليق بماضيهم العريق وينسجم مع متطلّبات الحياة الحديثة، ويتغلّب على كلّ الصّعوبات المستجدّة.
في هذا السّياق، وعلى اعتبار أنّ مشاركة المرأة قوّة مدنيّة مؤثّرة في معظم دول العالم وقوّة سياسيّة متمايزة في العديد من الدّول، لا بدّ للمرأة السوريّة بعد كلّ ما بذلته قبل وخلال سنوات النّزاع المسلّح من وقفة صادقة مع الذّات والتّجرد من أيّة مشتتات، والنّظر عن قرب لإدراك واقعها وتلمّس مكانها ومحيطها من جهة، ومن جهة ثانيّة لا بدّ لها من إدراك واجبها وحقّها على صعيد المسؤوليّة الوطنيّة، و ذلك بمشاركة الرّجل قياديّاً بفعالية في خلق وابتكار وتوظيف الأدوات المناسبة للانتقال اللائق لوطنها نحو الواقع الجديد والمستقبل الّذي سيبنى عليه.
ولا بدّ من مواجهةٍ أمام مرآة حقيقية، والذّهاب نحو اندماج كامل لكافّة الجّهود مما سيضاعف بالضّرورة القوّة المجتمعيّة السوريّة أمام المحيط الدولي، ويساهم في نحت وصياغة ملامحها النهائيّة.
إنّ السّعي لتأكيد توازن القرار الوطني وقوّته يكمن في مشاركة فاعلة للمرأة، وإذ نحن أمام “ظاهرة” تستحق التوقّف والدّراسة بعمق للوصول لأصل العوائق التي تجعل النّساء السّوريّات في منطقة الظّل، وتفرض عليهّن السلبيّة في التعاطي بالشأن العام نتيجة تمريرهّن المتغيرات عبر حلقات متّصلة من الفلاتر المعقّدة قبل إبداء أيّ استجابة، فلا بد لنا أيضاً من البحث الحثيث عن الأدوات المناسبة لتذليل هذه العوائق لإتاحة الفرصة أمام المرأة للمشاركة بفاعلية والمساهمة في تعديل كفّة الميزان.
وأمام ما يمكن اعتباره مهمّة حرجة على مستوى المسؤولّية الوطنيّة للرجل والمرأة على حدّ سواء في إدراك ومواجهة واقع أثر المرأة المجتمعي شبه المنعدم، فإنّه يمكننا القول بثقة تامّة أنّ ضعف المشاركة النسائيّة بالشّأن العام يؤذي بشكل كبير جهود الخلاص من الأزمة السوريّة الخانقة، كما يشوّه صورة المستقبل اللائق بالوطن. وفي نفس الوقت أمام التّصدّي لهذه المهمّة لا يمكن إنكار حقيقة إرادة أغلبية السوريات تسليمهن القيادة بكلّ مفاتيحها للرجل. فعلى الرّغم من إيجاد المرأة ذاتها على المستوى التّعليمي والثّقافي والمكانة والاستقلال المادّي إلّا أنّها تتنازل طواعيّةً عن دورها في صنع القرار للرجل، مؤمنةً بتفوّقه سائرة خلفه للتكيّف مع المنظومات الفكريّة السّائدة المستمرّة التي تقلل من أهميّة الدّور القيادي الفاعل للمرأة، والتي ساهم الّرجل بدوره في تعزيز قدرات هذه المنظومات لتطويع وقولبة وتكريس العمل النسائّي بجعله صوتاً داعماً له أو واجهة صورّية أو لتحقيق مكسب انتخابيّ أو لملء شاغر. ولعل أهمّ ما يلفت الانتباه في هذا الجانب هو قناعة الرجل والمرأة الرّاسخة بدونية تأثيرها كفرد من افراد المجتمع، وضعف نتاجها على صعيد الشّأن العام، وقبولها فكرة التّبعّية المفروضة عليها برحابة صدر واهتمام فائقين على أنّها، على سبيل المثال، من أساسيّات استمرار النجاح الأسرّي ونيل لقب “أم فلان” بجدارة، وذلك لحسن إدارتها في الاقتصاد المنزلي والعلاقات الأسرية فيما بين أفراد الأسرة، وفيما بين الأسرة ومحيطها المتنوّع من حولها.
إنّ محاولات وصول المنظّمات الكبيرة للنساء السوريات، والأخذ بعين الاعتبار ما خصّصه المجتمع الدّولي على مدار الأعوام السّابقة من إنفاق لمئات ملايين الدولارات تمثّلت في عقد مؤتمرات نسائيّة لناشطات، وإطلاق مبادرات للمرأة، وتشكيل مجلس استشاري نسائي لتقديم المشورة للمبعوث الأممي للملف السوري، ودعم تأسيس منظّمات مدنيّة محليّة، وتخصيص منح دراسيّة لتأهيل كوادر نسائيّة، وإجراء ورش عمل عديدة سنوّياً للتّوعية بقرار مجلس الأمن 1325 الصّادر في عام 2000 و اتفاقيّة سيداو 1979 و مؤتمر بكين 1995 , والتي تدعو جميعها لضرورة وأهميّة إشراك المرأة في عمليّات صنع القرار، رغم كل ما ذكر لم يحدث أيّ تغيير ملحوظ في الخط البياني للمشاركة النسائيّة في صناعة القرار السياسي.
نحتاج اليوم إلى قوة ناعمة شجاعة في ظلّ الواقع الصادم للسلبيّة النسائيّة السوريّة، مع الاعتراف ببطء أثر أعمال التّوعية، ومحدودية وصول المعرفة والصّعوبة الفائقة في تقبلها وتداولها من جهة المرأة ومحيطها الذي تنتمي إليه، حيث يجب أن تخضع هذه المعرفة لكافّة فلاتر المعيقات على المستوى الذّاتي وعلى مستوى الفضاءات المتعددة حول المرأة، فلا يصحّ على الإطلاق الاستسلام للأمر الواقع وقبوله بحجّة ابتعاد النّساء عن الشأن العام بناءً على رغبتهّن واختيارهن، لأنّ ما يترتب على ذلك يشكل اعتلال بنيويّ بالرّؤى والخطط الوطنيّة والناتج العام، و عليه سيتحمّل الجميع مسؤوليّته وتبعاته بالإضافة إلى كونه تجاوزاً لواقع إقصاء المرأة وتهميشها.
من الأهمّية بمكان فهم هذا الواقع بدقّة وتمعّن، وإجراء دراسات ميدانيّة وإحصائيّات دقيقة تفيد في تشخيص العلّة، وتحديد العلاجات النهائيّة الملائمة من خلال اتّخاذ قرارات جريئة تتبناها الشّخصيّات القياديّة المؤثّرة مناطقيّاً وحكوميّاً وفكريّاً ضمن سياسة وطنيّة محددة بدءاً من العقد الاجتماعي، بالإضافة إلى تسخير الرّجل -بوصفه الشّريك الأقوى- لأدوات آنيّة مقننة ضامنة لدور نسائّي فاعل بنسب حقيقيّة، كما يمكن العمل على إتاحة الفرص و بشكل آمن للمشاركة الكترونياً عبر برامج الفيديو كونفراس، و ذلك للنّساء اللواتي لا يردن مواجهة المجتمع والتعرّض للأذى بشكل مباشر مثلما حدث مع الكاتبة والناشطة السياسيّة الفرنسيّة ماري غوزي (أوليمب دي غوج)، حين طالبت بالمساواة. ما تحتاجه المرأة قبل كلّ شيء هو حمايتها وصون إرادتها حين تتخذ قرارها بالمشاركة، وتأمين الإطار المناسب لنشاطها لتتمكن من المساهمة في بناء وطنها بما يلبّي متطلباتها وحقوقها.
هل المرأة قادرة فعليّاً على المشاركة المؤثّرة في عملية النّهوض بالمسؤوليّة الوطنيّة ليقدّم لها الرّجل الدعم الكافي للخروج من القوقعة الآمنة إلى تحديّات الشأن العام؟!
نعم بالتّأكيد وهذا ما أثبتته تجارب الشّعوب عبر التّاريخ الإنساني، وقد فعلت المرأة ذلك في ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانيّة بدءأً بإزالة ركام الحرب وصولاً إلى أعلى المناصب السياسيّة. وفي تونس وخلال السّنوات القليلة الفائتة وبعد مشاركتها القوية بصنع الحدث في ساحات التظاهر والاعتصام وصلت نسبة مشاركة المرأة ما يزيد عن 30% في الحياة البرلمانيّة، وهناك العديد من الأمثلة في دول العالم. وبالقياس على ذلك فإن المرأة السورية كانت ولا تزال شريكاً كاملاً في صياغة المشهد العام ولكنها مغيّبة عن الشراكة في مراكز صنع القرار.
باختصار شديد “يد واحدة لا تصفّق”، والإرادات الشخصية وجهود التّنوير والتّوعية على المستوى الفردي أو فرق العمل الصغيرة المبعثرة لن تثمر ما لم تتحد ضمن برامج مرعيّة ذلت استراتيجية متكاملة في مواجهة العقليّة الذّكوريّة وتسلّط المجتمع المعادي لكلّ ما يخالف أعرافه غاضّاً النّظر عن صلاحية وعدالة هذه الأعراف..
هدى المصري.