أخطاء البداية التي قادت إلى الخطيئة الكارثية

   الدكتور حبيب حداد

أكثر من عشر سنوات انقضت حتى الآن على انطلاقة الانتفاضة الشعبية العفوية السلمية التي شملت معظم ارجاء سورية والتي نادت بوضع نهاية لنظام الاستبداد والتخلف والفساد . وإذا كانت الشعارات التي رفعتها هذه الانتفاضة في بدايتها لاتتجاوز مجموعة من المطالب الاصلاحية مثل القضاء على الفساد وصيانة الحريات العامة واحترام الحد الأدنى من حقوق المواطن الأساسية فقد اتضح منذ البداية ان بنية هذا النظام غير قابلة للإصلاح والتغيير عندما تصدى لمظاهرات ومطالب الحراك الشعبي بالحديد والنار أي بالأسلوب الامني العسكري المتوحش الخارج عن أي عرف مألوف أو أي قانون مشروع .

وكما تعلمنا دروس التاريخ القريب والبعيد فقد كان على تلك الانتفاضة كي تحقق أهدافها ان تواصل مسارها وأن تتحول إلى ثورة تحرر وطني ديمقراطي . لكن ،وكما اصبح معروفًا للقاصي والداني ، لم يكد ينقضي العام الأول حتى تم حرفها عن مسارها الصحيح وتشويه هويتها واغتيال اهدافها وتحولها إلى حرب أهلية مدمرة بكل أبعادها الطائفية والإثنية والجهوية والأجنبية وأصبح وطننا ساحة مستباحة لتصفية الحسابات والمصالح الدولية لمختلف الأطراف التي تدخلت وانغمست في أتون هذا الصراع المدمر .

هكذا وقبل نهاية العام الأول من عمر هذه الانتفاضة تفجر الإطار الوطني لحراك الشعب السوري وتشظى الى مئات التشكيلات في طول البلاد وعرضها و التي لا يجمعها أي جامع وأصبح استمرارها مرهونًا بارتباطاتها الإقليمية والدولية ومدى ما توفره لها تلك الجهات من دعم مالي ومختلف أنواع السلاح والتموين والتدريب .

ان الوضع الكارثي الذي تعيشه بلادنا اليوم ترجع مسؤوليته الى مجموعة من الأسباب التي قادت إلى هذا الواقع . اذ لا شك ان المجتمع الدولي يتحمل جزءا كبيرًا من هذه المسؤولية ، ولاشك أن نظام القرون الوسطى المتحكم بمصير بلادنا طوال خمسة عقود يتحمل المسؤولية الرئيسية في الوصول الى هذا الوضع . غير ان ما يترتب علينا نحن تشكيلات المعارضة السورية سواء في الخارج أم في الداخل ان نواجهه بكل صدق ووعي وموضوعية هو تقييم الدور السلبي او المتواطئ للعديد من أطراف تلك المعارضات التي دمرت امكانيات تحول هذه الانتفاضة إلى ثورة تحرر وطني مؤهلة لتحويل بلادنا إلى دولة ديمقراطية عصرية .

لقد أسلست معظم تشكيلات المعارضات الخارجية ، مثل  ما سمي  بالمجلس الوطني السوري والائتلاف ولجان التفاوض وغيرها ، قيادها إلى الجهات والأطراف الإقليمية والدولية وفرطت نتيجة تبعيتها لتلك الجهات بالقرار الوطني المستقل . والأمر العجيب ان تلك المعارضات لاتنفك عند الحديث عن الأسباب التي أوصلت بلادنا الى الحال التي هي عليها الآن عن تكرار ترديد تلك الأقوال الساذجة بان تلك الدول التي ارتبطت بها قد تخلت عن وعودها وفرطت بالعهود التي قطعتها لها بالتدخل العسكري المباشر وانهاء النظام الحالي وتسليمها السلطة كما جرى في ليبيا !!!.

ومنذ ثلاث سنوات على الأقل وجدنا بعض ناشطي هذه المعارضات الذين يتصدرون فضائيات الإعلام في البلدان الخليجية والتابعة لها يدعون إلى ضرورة القيام  بمراجعة شاملة لتحديد الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة المأساوية:

فالذين كانوا دعاة التدخل الدولي على المثال الليبي وفي مقدمتهم قوى الإسلام السياسي والمجموعات والزمر التي التحقت بها . وعلى امتداد تلك الفترة وحتى اليوم وجدنا بعضًا منهم يتحدث عن أجواء الفساد وارتباطات الولاء والتبعية والارتزاق التي هيمنت على المنظمات التي كانوا أعضاء فيها . وأعلن هؤلاء أنهم استوعبوا الآن دروس وتجارب تلك التشكيلات والخطايا التي اقترفتها وأنه ينبغي العودة إلى البدايات السليمة إلى ضرورة توحيد قوى العمل الوطني الديمقراطي في جسم جديد يجسد إرادة الشعب السوري في صيانة قراره الوطني المستقل وتصليب وحدته الوطنية وتحقيق أهدافه في الحرية والعدالة والديمقراطية .

خلال هذه الفترة رأينا بعض هؤلاء يدعون إلى القيام بمراجعة شاملة لتحديد الأسباب الحقيقية التي أدت الى الواقع الراهن الذي يعيشه شعبنا اليوم . فالذين كانوا فرسان عسكرة الحراك الشعبي بحجج واهية ، ودعاة التدخل الدولي على الطريقة الليبية أخذوا يقرون بخطورة هذا الخيار وما جر إليه من نتائج كارثية ، لأنه وضع الحراك الشعبي منذ البداية في ملعب النظام من جهة ، كما جعله من جهة اخرى اسير إرادة ومصالح الاطراف الإقليمية والدولية الممولة . والذين دافعوا منذ البداية وبحماس بالغ عن قوى ومنظمات الاٍرهاب مثل القاعدة وداعش وجبهة النصرة وغيرها …واعتبروها المكونات الأساسية في مسار الثورة التي كانوا يدعون إليها ، هؤلاء تنظيمات وأفرادًا وجدوا أنفسهم رهن ارتباطات مصلحية مستحكمة ، فلم يستطيعوا حتى وإن رغبوا الانفكاك من أسر هذه التبعية وانتهاج سبيل العمل الوطني المستقل .

صحيح ان ليس للثورات نموذج واحد او براديغم محدد السمات والمواصفات إذ ان كلا منها يتباين عن غيره في بعض الخصائص حسب بيئة المجتمع الذي تقوم فيه وحسب طبيعة العوامل الخارجية التي قد تفعل في مساراتها ومصائرها سلبًا او إيجابًا . لكن الثورات الشعبية التي ظفرت في تحقيق انتصارها وفي مختلف القارات كانت تستند على أسس واضحة لا بد من توفرها . فالثورة أية ثورة إنما ترمي إلى تغيير النظام القائم جذريًا ، النظام وليس السلطة ، وبناء مجتمع جديد يستجيب لإرادة الشعب الذي انتفض وثار من أجل مستقبل أفضل. تعلمنا دروس التاريخ القريب أنه لا يمكن لأي ثورة ان تضمن انتصارها لمجرد أنها تطرح قضايا عادلة وتتبنى أهدافًا مشروعة . بل لابد أن تتوفر لها الرؤية الإستراتيجية الواضحة وبرنامج العمل المناسب الذي الذي يعين المهام المرحلية والانتقالية في صيرورتها نحو تحقيق أهدافها. ومن الأهمية بمكان ان تنهج الأسلوب السياسي السلمي الذي انتهجته كل الدول التي انتقلت إلى الحياة الديمقراطية إبان الموجة الثالثة خلال الربع الأخير من القرن الماضي . وإلى جانب ذلك كله لا بد لأية ثورة ناجحة من قيادة واعية موحدة ومؤهلة. فإذا توفرت للثورة الشعبية هذه المقومات فان الأمر الطبيعي والمنتظر أن يكون لها خطاب وطني جامع يؤكد على تمتين وتصليب الوحدة الوطنية ويحرص على الدوام على صيانة مقومات الهوية الوطنية . فكيف كانت طبيعة خطاب ولغة تلك المعارضات التي تصدرت الواجهات طوال السنوات العشر الماضية وإلى اي حد أسهم هذا الخطاب في تأكيد وحدة الشعب السوري ومواجهة وترشيد العصبيات والهويات ما قبل الوطنية ؟

إن أهم الدروس التي يمكن استخلاصها من تجارب الثورات في عصرنا الراهن أنه ما من ثورة كتب لها النجاح إلا وكان اعتمادها على الذات أولًا قبل أي طرف آخر ، أي على شعبها اذ يكون على رأس اهتماماتها صيانة وحدته الوطنية وتعزيز قدراته وطاقاته الكفاحية . فالعامل الذاتي هو الذي يمكن مشروع أية ثورة من كسب التأييد والتعاطف الدوليين مع أهدافها التحررية والإنسانية سواءً على صعيد الرأي العام أو على الصعيد الرسمي .

اليوم وبعد انقضاء اكثر من عقد من الزمن على انطلاقة الانتفاضة الشعبية السلمية السورية ، وبعد الوصول الى هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه بلادنا اليوم ومواجهة التحديات الخطيرة التي باتت تهدد الكيان والمصير يجدر بنا ان لا ننسى مواقف وأطروحات أولئك الذين كانوا يتحدثون باسم قيادات وأطر ما سمي بالمجلس الوطني السوري والائتلاف والمنصات ولجان التفاوض . فهولاء لا ينفكون اليوم عن الحديث عن أخطاء وانحرافات سلوك الآخرين وعن الأعطاب التي نخرت بنيان تلك الهيئات على امتداد السنوات العشر الماضية . أما هم بالذات فلا يتحملون أية مسؤولية فيما وصلت إليه الأوضاع الان لأنهم كانوا طوال الوقت وما زالوا ينتهجون سواء السبيل ويتسلحون بالوعي العقلاني ويمتلكون الحكمة السديدة .

كلما عدنا إلى الوراء قليلا واستعرضنا بعضًا من مواقف تلك المعارضات فلا نعجب إن كانت النتائج والحصائل على ما هي عليه اليوم :

الم يؤكد إعلان تشكيل ما دعي بالائتلاف على ان لا تفاوض مع النظام القائم وأن السبيل الوحيد لتحقيق أهداف الثورة هو سبيل العسكرة والكفاح المسلح !! !

ألم يعلن احد شيوخ المعارضة والمسؤول عن الدائرة الحقوقية فيها بعد فترة وجيزة من تكوين الائتلاف ان انتصار الثورة بات يلوح في الأفق القريب وانه على استعداد تام لتحمل مهام رئاسة الدولة السورية في الفترة الإنتقالية وأن برنامجه لإدارة شؤون الدولة في هذه المرحلة تعيين الف ضابط والف قاض والف أستاذ جامعي !!!

ألم يجب احد أعضاء الائتلاف والمعتمد سفيرًا له في إحدى العواصم الأوربية على سؤال وجه اليه من إحدى الفضائيات عن موقف ائتلافه من جبهة النصرة والقاعدة وداعش وما ترتكبه من جرائم ضد الإنسانية في مدينة حلب وريفها ، بقوله انه يدرك الهدف من وراء طرح هذا السؤال الذي يرمي الى تقسيم قوى الثورة التي ينبغي الحرص كل الحرص على صيانة وحدتها !!!

ألم يخبرني أحد أعضاء الائتلاف بعد انقضاء ثلاث سنوات على وجوده فيه بانه لن تكون هناك ثورة وأن تنجح في تحقيق أهدافها إذا كان هناك برنامجان متناقضان يتصارعان لقيادتها كما كان الحال في المجلس الوطني وكما هو الحال الآن في الائتلاف: برنامج مهيمن يدعو إلى إقامة دولة مدنية على أساس الشريعة الإسلامية ، وبرنامج آخر مغلوب على أمره ينادي بتأسيس دولة مدنية ديمقراطية !!!

ألم تسهم أفعال تلك المعارضات بتدمير أسس الوحدة الوطنية وتسميم مقومات الهوية الوطنية السورية في بعديها العروبي والإنساني ، وذلك عندما نشطت في عقد مؤتمرات خاصة بالمكونات الدينية والطائفية والإثنية: فكان هناك مؤتمر للعلماء المسلمين ، ومؤتمر  للسوريين للمسيحيين ومؤتمر للعلويين ومؤتمر للدروز ومؤتمر للمسيحيين العرب ومؤتمر للسريان ومؤتمرات للسوريين الأكراد والتركمان…وغيرهم وغيرهم !!!

كيف نقيم مواقف تلك المعارضات التي تخلت عن الالتزام بابسط المواقف المبدئية تجاه قضايا الامة المركزية التي تميز بها تاريخ سورية منذ استقلالها وفي مقدمتها القضية الفلسطينية . تلك المعارضات التي لم تعد تميز بين العدو والصديق حتى ان بعضها راح ينادي بضرورة عقد مختلف أشكال التحالف مع العدو الصهيوني !!!

وكيف نقيم تشكيل تلك المعارضات العميلة للأطراف الأجنبية لما سمي بالحكومة المؤقتة وحكومة الانقاذ …والجيش الحر ومن ثم الجيش الوطني وكذلك ما سميت بالإدارة الذاتية وقواتها . وكلها أفعال وسياسات لا تقود الا إلى تدمير وحدة سورية ، الشعب والأرض والوطن ،وخدمة أغراض المخطط الصهيوني ومشروع الشرق الأوسط الجديد !!!

وأخيرًا وليس آخرًا كيف يمكننا تقييم نتائج المحاولات التي طرحت خلال السنوات الثلاث الأخيرة لمواجهة هذا الواقع المتشظي والمتصارع على صعيد العمل الوطني الديمقراطي السوري وتكرار فشل وإخفاق تلك المحاولات والتجارب التي لم تتمكن حتى الآن من ارساء قاعدة الانطلاق والبداية السليمة التي لا بد منها للنجاح في تحقيق هذه المهمة التاريخية والمصيرية الا وهي وحدة العمل الوطني الديمقراطي السوري .

البعض يرى ان مصير سورية اليوم لم يعد بأيدي أبنائها ، وأن الحل المرحلي لن يجد الطريق الا عبر التوافق الدولي . هذا الأمر صحيح في ضوء معطيات الواقع الراهن محليًا وإقليميًا ودوليًا ، . ولكن كيف يمكن لنا أن نتصور مشروعية أي حل لا يستجيب لإرادة الشعب السوري ويتجاهل التضحيات الجسام التي قدمها حتى الآن من أجل نيل حقوقه المشروعة بطي صفحة الارهاب والاستبداد والفساد ومواكبة مسيرة التحضر الانساني .

Scroll to Top