أبوها أدرى بمصلحتها!

أبوها أدرى بمصلحتها!

ككل يوم، محاولاً الهرب من سجن هاتفي المحمول وإعلاناته والتطبيقات الموجودة عليه والتي أصبحت ككتاب منزل على من استطاع الوصول إلى الكهرباء ودفع ثمن هاتف ذكي يمكنه تحمل هذه البرمجيات والوسائط، فتحت عيني وفشلت! نظرت إلى ساعة هاتفي الرقمية رغماً عن أن ساعتي اليدوية بعيدة عدة سنتمترات إلى يمين الهاتف، أميل بفشلي إلى استسهالي ربما … أو بالأحرى شبه إدماني على ضوء الشاشة المزعج للأعين فلا أستطيع أن أنهض إلا بتكشيره أظهر بها عجوزاً عاجزاً مريض وهش ومن ثم أضع وسادة فوق الأخرى وأستلقي مجددا لأزحلق شاشة هاتفي باسترخاء!

ظهر في أحد الرسائل الواردة “نهلة ماتت” وما أكثر الموت! فليرحمها الله.

لأتابع بالتعرف على نهلة الصغيرة المكبلة، صغيرة الحجم كقط مدلل في منزل أحد الأثرياء ومكبلة الرقبة كأسد هائج في مزرعة ذلك الثري. نهلة وكما روي عنها أنها سجنت في قفص أمام أعين قاطني كفر سجنة فهل هي صدفة أن كان لنهلة نصيب من اسم القرية؟

ارتعشت واغرورقت عيناي بالدمع الغاضب الثائر والذي انطفاً بضغط زر “المنزل” للخروج من المنفردة الخضراء منقاد مسلوب الإرادة إلى المنفردة الزرقاء لأرى المنشورات والتحليلات هنا وهناك من وراء تلك الشاشات، من المعبرين عن سخطهم للغاضبين والشاتمين والهاربين من المسؤولية وغيرهم.  شُحذت همتي مجدداً واشطت غضباً وقمت لأصرخ! إلا أنني ضغطت على زر “المنزل” وانطفأ كل ما بداخلي من غضب لأعود إلى استرخائي..

اهتز هاتفي من جديد وتلألأت شاشته كأعين طفل صغير يبحث عن حضن والده، “خسى” كما نقول باللهجة المحلية، ففتحت الرسالة وإذ بي أقود نفسي إلى الزنزانة الخضراء من جديد لأرى صورة نهلة بأعين متسعة وكأني أراها لأول مرة فتتجمد أنفاسي في مجاريهاً، شهيقاً زفيراً شهيقاً زفيراً لا جدوى، فلم أعد أستطيع الشعور بذرة أوكسجين واحدة تروي دمي فهل وافتني المنية؟

لكن لازلت أفكر بصوت عالِ فما الذي وافاني؟

 أجيبكم وأجيب نفسي! وافتني إنسانيتي، فهل من معتبر!

مشاهدتي للصورة ذكرتني بصورة العام (أفضل صورة) 1994 العام الذي ولدت فيه وتفقّد العالم إنسانيته بعد مشاهدة صورة كيفن كارتر والتي كانت بعنوان “النسر والطفلة الصغيرة” والتي التقطها قبل بسنة أي عام 1993. التقط كيفن هذه الصورة وغيرها متمماً لعمله وموثقاً لتعاطف وحش قطع عهداً بألا يؤذي طفلة صغيرة على قيد الحياة، وفي ذات الوقت موثقاً لتخلي إنسان عن إنسانيته مقابل صورة!

اتباع الأوامر من دون تفكير أو شعور بالعاطفة ظهر أولاً بمحاكمات نورمبيرغ حين استخدم الجنود النازيون دفاع “كنا نتبع الأوامر فحسب” وبعد ذلك ظهر بنتائج تجربة ميلغرام الشهيرة حين وجد أن أناس عاديين يمكن أن يتسببوا بأذى شديد باتباعهم للأوامر ففي اتباعهم يخلون مسؤوليتهم الأخلاقية وترتاح ضمائرهم كما ارتاح ضمير ملتقط صورة نهلة بعد نشرها وإخلاء مسؤوليته!

هل يعقل أن يرى إنسان طفلة صغيرة عاجزة مكبلة يعزو تكبيلها إلى أن لها ولي أمر مسؤول عنها!

هل فعلاً أصبح اتخاذ الصورة ونقل الجريمة إلى وسائل التواصل الاجتماعي أصبح إخلاء للمسؤولية؟

هل مهمة الإعلامي نقل ما يجري و”فخار يكسر بعضه”؟! أو أنه كما يقول الجميع لأن “أبوها أدرى بمصلحتها”؟

نصت اتفاقية حقوق الطفل على أن “للطفل حقا أصيلا في الحياة” وأن “تكفل الدول الأطراف إلى أقصى حد ممكن بقاء الطفل ونموه” غير حقوق التعليم والهوية وغيرها من الحقوق الأساسية التي لم تنل منها نهلة إلا ما يبقيها مترنحة كمخمورِ مدمنِ  ضل طريقه وفقد اسمه وهويته وذاكرته، لم تنل نهلة إلا ما يبقي على أملها الطفولي بالحرية من قيود الظلام الدامس الذي أعمى أعين وقلوب كل من حولها من أقربهم إلى أبعدهم.

ترتجف أناملي وتأبى عن إنهاء الكتابة، لكن لم يبقى بحوزتي إلّا صرخة استنجاد ومناجاة لكل ضمير حي، أرجوكم أن تحملوا أنفسكم ذنب نهلة وذنب ضحايا العنف وذنب ضحايا الصقيع وملايين السوريين في الشتات، فكفى ما آست قلوبنا وكفانا انتظاراً لتحرك دولي لأننا لسنا ذوي قيمة بالنسبة لأي متدخل في بلادنا فلا يهمهم إلا مصالحهم، فلن يغير حالنا إلا تعاوننا وتقاربنا وتوحدنا وكما يقول المثل بالعامية “ما بحك جلدك غير ضفرك” وكما قال أبو القاسم الشابي

“إذا الشّعبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ                          فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ ولا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي                       وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر”

ممدوح القدسي

Scroll to Top