هيثم مناع
منتدى حوارات المؤتمر الوطني السوري لاستعادة السيادة والقرار أول أيار/مايو 2021
ارتبط مفهوم المواطنة في التاريخ العربي الإسلامي نظريا بالاعتقاد وعمليا بعدة عوامل منها تكوين السلطة والجيش. وقد بقي المفهوم التاريخي للمواطنة بهذا المعنى تفاوتيا سواء بين الأفراد الأحرار الذكور أو بين الأحرار والعبيد، المؤمنين وغير المؤمنين، النساء والرجال.. وبهذا تتشابه الحضارات الإغريقية والرومانية والصينية والعربية الإسلامية. بمعنى أنها تركت مفهوم المواطنة أسير الوضع العياني الملموس وأخضعت المفهوم للنسبية والهلامية بعيدا عن النصوص مقدسة كانت أو وضعية.
وبرأينا يعود ضعف مفهوم المواطنة في الكتابات الفقهية لأسباب ثقافية-تاريخية. ففي ثلاثية الخطاب السياسي الإسلامي أي السياسة الشرعية والفلسفة السياسية والآداب السلطانية، تغيب المواطنة بالمعنى المدني تعارضا (حال الكتابات الفقهية) أو تجاهلا (حال القراءات الفلسفية) وبكل الأحوال، ساد الاتجاه الاستبدادي الذي اعتبر الملك، وليس الإنسان، خليفة الله في بلاده، وفسّر تنظيم شؤون الحياة من الأعلى (أي اتساع صلاحيات الحاكم) لا من الأسفل (بمعنى مشاركة “الرعية-العامة” الفاعلة لا الطائعة). فالسلطان في إيجاز بليغ لابن عبد ربه، زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود. وهذا هو استنتاج ابن خلدون أيضا في الملك: “إنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية، ويجبي الأموال، ويبعث البعوث، ويحمي الثغور، ولا تكون فوق يده قوة قاهرة“. وقد تكفلت كتابات الآداب السلطانية بتدبير المقدس الذي يسمح بجعل النظام الملكي المطلق، المسمى في الأدبيات بالخلافة، نهاية التاريخ.
أعاد عصر التنوير الأوربي تعبير المواطنة للتداول، وبدأت عملية إعادة التفاعل مع التراثين اليوناني والروماني في إيطاليا مع ماكيافلي (1469-1527) Niccolo Machiavelli وفي إنجلترا مع جيمس هارينغتون James Harrington وجون ميلتون John Milton في منتصف القرن السابع عشر وقد تركا أثرهما في الثورة الأمريكية وبشكل خاص ما عرف بالهارينغتونية الجديدة. وقد جاءت العودة هذه لكلمة المواطنة كمعادل أساسي لمفاهيم جديدة مختلفة جذريا مثل الدولة-الأمة، البرجوازي المدني burgerliche، الوطنية والقومية الخ. أي جملة مفاهيم وضعية دهرية جمعت بين الضبابية والنسبية، تحت ظلال تعقيدات المعطيات المجتمعية الفعلية والثقافة السائدة،
في القرون الثلاثة الماضية، أصبحت المواطنة ميزان الحرارة لسلامة الجسم المجتمعي، الميزان الذي يعبر عن مدى احترام الدولة لحقوق الإنسان في فضاء إقليمها وسلطاتها. في صراعات فكرية ومجتمعية نقلت بادئ الأمر النقاش من حقل حقوق الأشخاص، التي تثبت منها في الوعي الجماعي على الأقل، الحق في سلامة النفس والجسد، والحرية والمساواة والملكية والمقاومة، إلى حقل المواطنة، أي التعبيرات المختلفة للترجمة العملية لهذه الحقوق في تنظيم العلاقة بين الدولة والأشخاص: حماية حرية الشخص المتمتع بالسيادة على ذاته وعلى حقوقه المدنية (الحق في الحياة وسلامة الأشخاص، الملكية والحريات الشخصية)، المساواة أمام القانون، الاستقلالية الذاتية لكل شخص، والفصل بين المجال العام (علاقات الأشخاص بالدولة في المجتمع السياسي وطبيعة الدولة) وبين المجال الخاص (علاقات الأفراد بعضهم ببعض في العائلة والقرابة وانتماءات الأفراد قبل المدنية: الدين، الطائفة، القوم…)، وعلى حماية حقوقه السياسية (الحق في الانتخاب والترشيح والتنظيم والتعبير). ما يطلق عليه الديمقراطيون التقدميون في فرنسا اسم الفضاءات الأربعة: الفضاء الخاص، الفضاء المدني، السلطة السياسية وفضاء بناء الحريات.
هذا التعريف “القانوني” للمواطنة لم يكن مجردا، بل خضع لسيرورة بناء الدولة الحديثة واختلف بين دولة وأخرى لدخول بعد ثقافي- سياسي هام يتعلق بمعنى المواطنة في وطن، وهوية الأفراد المطلوب منهم إظهار الولاء والانتماء للدولة-الأمة وفق الهوية المشتركة المعطاة لكل منهم.
لم تكن أفضل هذه التعبيرات في مستوى المنطلقات النظرية الأولى للتنوير، لاستمرار أشكالٍ لغياب المساواة والتفرقة بين حقوق البالغ وحقوق القاصر، حقوق الرجال وحقوق النساء، حقوق المواطن وحقوق الأجانب، حقوق المستعمِر وحقوق المستعمَر، حقوق الأبيض المتعلم دافع الضرائب إلخ…
مشكلة أخرى هامة وأساسية برزت خلال تنامي وتقدم مفهوم المواطنة عبر هذه السنوات، هو مفهوم الحقوق الثقافية والانتماءات الفرعية. وقد بقيت هذا الإشكالية حتى النصف الثاني من القرن العشرين حين طُرحت حقوق الإنسان بالمعنى العالمي لها مع نقاشات تثبيت مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عهد، أو ميثاق دولي يحمل طابع الإلزام بنسبة أو بأخرى. ولعل ذكاء السيدة إليانور روزفلت، مندوبة الولايات المتحدة في هذه النقاشات، قد لعب دورا كبيرا في إنقاذ هذه الجهود من الفشل. كانت روزفلت متأكدة من أن إدارتها الأمريكية لن تعترف على ما يسمى بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وأن دولا أوربية أخرى لن تدفع باتجاه أي تعريف متقدم للحقوق الثقافية. فاقترحت أن يكون هناك عهدين الأول للحقوق السياسية والمدنية، والثاني للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مع إمكانية أية دولة التصديق عليهما أو على أحدهما دون إكراه أو إلزام.
أعود لهذه الأحداث، لأنني كثيرا ما أسمع من جملة (الاعتراف “بالحقوق القومية” وفق المواثيق والعهود الدولية). ولأنصح أصحاب هذا الخطاب، بالتخلي عن هذه القصة لأن ما يسمونه مواثيق وعهود لا تقدم لهم اليوم في الحقيقة شيئا. وسيجدون في العقد الاجتماعي لدولة المواطنة المقترحة من “تيار قمح” الفكري السياسي المدني، مثلا، ضمانات متقدمة على تلك الموجودة في “المواثيق الدولية”.
نعود إلى مفهومنا للمواطنة، الذي يعتبره أكثر من باحث مفهوم قريب ومتفاعل مع أطروحات المواطنة النشطة. فأية مقارنة للنقاشات النظرية-السياسية بالوقائع تفتح الباب علينا جميعا، لطرح عدة أسئلة ذات انعكاسات مباشرة على “المواطنة”، الحقوق الإنسانية والطبيعة الديمقراطية للدولة مثل:
– كيف يمكن للتفريد المتصاعد لمفهوم المواطنة السياسي أن يأخذ بعين الاعتبار مفهوم الجماعة والمصالح العامة للجماعات والأفراد بما فيه حقوقهم الثقافية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية؟
– كيف يمكن لمفهوم المواطنة أن يخلق الانسجام السكاني لمجموع المقيمين في وحدة سياسية دون أن يلغي ذلك الطابع المتعدد الثقافات والمتعدد القوميات لهذه الوحدة؟ دون أن يكون ذلك في مواجهة مع، أول إلغاء من الجامع الوطني- المواطني المشترك لمختلف تعبيرات الانتماء الفرعية؟
– ما هو دور المواطنة في تحجيم فكرة الشخص بغض النظر عن الجنسية والجنس، خاصة وأن حقوق المواطنة تأخرت عمليا للنساء وناقصة للأجانب في القوانين الوطنية؟
– هل يمكن الحديث عن، أو الوصول إلى، مواطنة واحدة في عالم متفاوت القدرات والثروات وغير متكافئ؟
لقد حاولنا، في كل محاولات تثبيت أسس مشتركة لسوريا ديمقراطية ودولة مدنية جامعة، الإستفادة من تجارب الشعوب، من مرارة وعلقمية تجربتنا، والفكر النقدي العالمي في موضوع بناء المواطنة. وبشكل خاص تيارات المواطنة النشطة Active Citizenship التي تنظر لمفهوم المواطنة، ليس كقائمة حقوق وواجبات تحددها الدولة في علاقتها بمواطنيها أو حصر هذا المفهوم في الحقوق السياسية والمدنية.. ولكن كعملية متطورة، غير ثابتة تتحدد مخرجاتها بالتغيرات الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية والسياسية والبيئية التي تمر بها المجتمعات ويلعب فيها الأشخاص والجماعات دورا نشطا في تهذيب مؤسسات الدولة وممارساتها، من التمتع بحقوقهم، وأيضا تقديم واجباتهم تجاه الدولة والمجتمع. وبهذا المعنى، لا ترفض المواطنة “الوطنية” الهويات الفرعية بل تحتضنها في إطار المشترك الوطني الأول وضمان الحقوق الثقافية للجميع. الأمر الذي يسمح في الحالة السورية، وبعد تمزق النسيج المجتمعي وهدم البنيات التحتية وتعدد حملة السلاح، للعودة إلى دولة مؤسسات ديمقراطية موحدة لها جيش وطني واحد، ومؤسسات سيادية واحدة.