سنوات عشر أيتها الحرية

هيثم مناع

رغم كل الغيوم السوداء التي تغطي نور الشمس، يحافظ المرء على حقه في الأمل بتشاؤل يجمع بين سواد الوقائع ورغبة الخلاص. فمن مهد الحضارات والرسالات ستتجلى نهاية عالم لم يعد يستحق البقاء. لأنه بانغماسه في عبادة أشباه الرجال وسجن وقتل خيرة أبنائه، وظلمات تقديس التوحش وأسطرة الوضاعة وتأليه الموت واغتيال الحياة، اختار عن سابق إصرار وتصميم أحمق، سبل الفناء على مقومات البقاء.

سنوات عشر، ذبحت فيها الكلمات على قربان أسلحة القتل الأشد فتكا، واستبيحت فيها المفاهيم الأكثر مدنية في مسرح “ثورة الاتصالات”، سنوات اغتيل فيها أعظم حراك شبابي سلمي في تاريخ المنطقة، وتنصبت أسماء سماسرة إقليميين[1] وأشباه دبلوماسيين غربيين[2]، وكلاء رسميين عن أول شعب حقق الاستقلال السياسي وجلاء القوات المستعمرة في العالم العربي. ولجأت فيه الأجهزة الأمنية لأبشع وسائل القمع لأبناء بلدها.. سنوات نُصّب فيها “سارق الماعز” قائدا عاما لجبهة “المقاومة والممانعة”[3]  والرفيق السابق ميخائيل[4] شيخا للعشائر السورية الموالية والمعارضة..

سنوات عشر، أصبح “الاستقواء بالخارج فيها “العقيدة” الوحيدة التي تجمع القامع والمقموع، وبلاد الشام أرض الجهاد لكل “المؤمنين” في الأرض (إيغور وهازار ومشارقة ومغاربة سواء بسواء)..

سنوات عشر، عشنا فيها الإزدراء العلني لعقل الإنسان واحتقار ذكائه وتدنيس وعيه، في أرض صارت البضاعة الأهم في معارك “الصغار” و”الكبار”…

تسطحت الشعارات والمسارات، وصار عمى الرؤية سنة القوم، هدم خيرات البلاد وموارد عيش العباد هو السياسة الوحيدة التي يتفق عليها حملة السلاح على اختلاف الجبهات .. وسواء كان القتل بالبراميل أو بمدفع جهنم أو عبر هدم المحطة الحرارية في زيزون وقطع أشجار الزيتون لدواع “استراتيجية” في عفرين واتفاقيات الترحيل والتهجير لدواع أمنية من بلودان إلى عين عيسى.. فإن للضرورة العسكرية أحكامها، وإن كنتم لا تفقهون في ذلك، فالتزموا الصمت واتركوا أبو طمشة وأبو عمشة يشرحان لكم ذلك.. ، فكما للتشبيح السلطوي “رجال”، للبلطجة “رجال”… وأحكام.

 حجب الطريق وهدم خيرات البلاد على جثث العباد يسمى اليوم في قاموس أئمة الموت “أنشودة الإنبعاث”. جَعلُ الوقائع أكاذيب والعوالم الافتراضية حقائق والتطبيع مع اغتيال الكرامة الإنسانية اليومي: منهج حكم وحسن إدارة للصراعات وموازين قواها.

في سنوات عشر، ترسخت حقبة تكريم الارتزاق وازدراء القيم وتحطيم عناصر السيادة، شراء قدماء المناضلين في أسواق النخاسة وتحويل الشبيبة إلى جموع تبحث عن حقها في الحياة في زوارق الموت وبورصة الارتزاق. حقبة إعادة إنتاج الفساد والاستبداد على أيدي من غيّر سيده وحمل أمراض من أذلّه سُنّة جديدة – قديمة تعلو. زمن اكتشاف الفوارق الميكروسكوبية بين المذاهب وإحياء الأحقاد الدنيئة وبناء عصبيات تُعّلم الإجرام والقتل وتصدّر حثالاتها إلى جبهات “جهاد” يحرق الأخضر واليابس صار حاضرا في أعماق النسيج المجتمعي.

ما هي التسمية اللائقة بتقديس التوحش وأسطرة الدناءة وتأليه الموت والمُوات؟  في القرون الوسطى اعتبرت الظواهر المدمرة من علامات يوم القيامة، في عصرنا لا يمكن أن نطلق على ما نرى من حولنا سوى عبارة “زمن القمامة”.

لقد أوصلتنا سلطات التسلط والطغيان إلى الطريق المسدود الذي اقتادت نفسها والبلاد إليه. فقد تعفنت تجمعاتها المصلحية واحتضر “مثقفها” وتقرّحت رموزها وانحسر إعلامها بتمجيد أمير هنا أو جملكي هناك. في تقرير التنمية العربية، الذي اعتبره أشباه الكتبة ورقة اعتماد للغرب، أطلقنا صرخة محذرة من الخراب الآتي. اليوم لم يعد الحديث عن هذا الخراب نبوءة عدد من المثقفين والمفكرين، فنحن في قلب هذا الخراب.

إن كانت السياسة تتبسط في وازع وناظم ورادع، فقد اضمحل الوازع الكامن وراء السلطات القائمة والمشاريع القادمة، سواء تحدثنا في الإيديولوجية أو القيم أو احترام الإنسان. وقد تهّزل الناظم باستمرارية استبداد القرون الوسطى مدعما بإدمان حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية وقواعد مناهضة الإرهاب ومنتجات هذا الإرهاب نفسه.

لقد فشل النظام السياسي في القيام بأي من وظيفتي الدولة الحديثة حتى بشكل نسبي:

  • تأمين التوزيع المتكافئ للحظوظ والفرص والحد الأدنى من الحقوق الوضعية.
  • وتوفير الحريات الأساسية الضرورية للانتساب للعصر.

إن كانت الحداثة السياسية قد قامت، كما يلخص محمد حافظ يعقوب، على مفهوم السيادة (وهو مبدأ الدولة الحديثة) ومفهوم الشعب كمصدر للشرعية. فنحن وإن كنا على الصعيد العالمي نناقش ما بعد الحداثة السياسية، في منطقتنا  نجتر ما قبلها. وما زلنا في نطاق السلطة بالمعنى اللغوي شبه البدائي: أي القدرة والاستطاعة لجماعة من البشر على الاحتفاظ بما صادرت وغنمت بالعهر والقهر.

لم تلد السيادة ديمقراطية، لكنها كانت ابنة عملية تاريخية توجه مصائرها نحو الإرادة العامة للناس، لتصبح في مفهومها الأرقى: سيرورة تسلم الناس مقادير حياتهم بأنفسهم. ورغم أن هذه المفاهيم أخذت أبعادا غنية في الأزمنة المعاصرة، إلا أن جذورها مغروسة في الثقافات البشرية الكبرى وليس الغربية منها وحسب. فولاية الأمة سبقت ولاية الفقيه عند الشيعة الأوائل، واختصر النجدات من الخوارج الإمامة  “بتعاطي الناس الحق فيما بينهم”.  إلا أن إعطاء سمة مقدسة للخلافة الراشدية وبعد الراشدية، قد منح الاستبداد غطاءا لا يستحقه. ولم تجر حتى اليوم عملية غسل الدم الضرورية مع فكرة الخليفة المخلّص.

خلال حقبة مضت، تكفل الاستبداد السلطوي بسحق الشخصية القضائية وقتل الشخصية الأخلاقية وإلغاء الخصوصية النوعية للكائن البشري. ومع التحطيم المنهجي للقدرات الذاتية للمجتمعات، تحولت المنطقة إلى البطن الرخو في حقبة عولمة حالة الطوارئ، والمختبر الأسهل لاستكمال بناء مراكز القوى الجديدة على الصعيد العالمي بعد حرب باردة كان ضعفاء الجنوب مادتها، وحقبةٌ أحادية القطب، كانت منطقتنا مختبّر عملياتها ومهد انحسارها بآن.

اصطف أصحاب القلم والخطبة مداحة نواحة في طوابير مصادر رزقهم بالمعنى المباشر للكلمة، وأصبح السؤال لكل قلم حر أو سياسي سيادي القرار: “على من تعتمد” و “مين وراك”؟

 رُفع الغطاء عن كل أصوات الاحتجاج والنقد الحرة. ورغم مقتل الرقابة التقليدية في الفضائيات العابرة للحدود والشبكة العنكبوتية التي غزت البيوت والمقاهي، ما زال الإغتيال الفكري والسياسي والجسدي يُمارس بأبشع صوره وأشكاله.

عندما تتحول أهم المنابر الإعلامية إلى ماخور لسياسات الدول، ويتحول الدم السوري إلى سلعة من سلع صراعات النفوذ، ويدخل من يعتبر نفسه الممثل الشرعي الوحيد للشعب والثورة في متاهات السياسات الخارجية خادما بين الخدم، وتصلك أخبار الموت المجاني كل صباح ومساء، هل ثمة بلاغة تفوق الصمت في حفلات ضجيج عاهر بلا طحين.

في حقبة أصبحت العبادة فيها شرطا من شروط الظهور العام، يُمنع بناء أماكن للعبادة لمجرد كون طريقها إلى الله يختلف تفسيرا عن مذهب الحاكم بأمره، يمر تفجير معابد الآخر كخبر صحفي عاجل،  وتقطع الرؤوس في الساحات العامة في أكبر مسلخ لقتل البشر في القرن الواحد والعشرين أسماه عبد الرحمن منيف يوما شرقي المتوسط.

الصورة الرمزية للطوفان ترتدي حجاب النفاق والتجهيل المعمم والارتزاق، كل شئ على ما يرام.. هذا يتمدد، وذاك يتنهد، والموت يرقص في حلبة الأحياء عملاقا في زمن الأقزام.

إنها نهاية عالم

القديم مات منه ما مات والباقي يحتضر

والجديد لم يولد بعد

فهل نشهد مخاضات الولادة؟

[1]  من حمد بن جاسم إلى بندر بن سلطان وصولا إلى حقان فيدان..

[2]  من طراز روبرت فورد الذي انتقل من تسليح الكونترا إلى العراق وسوريا، أو  لوران فابوس وموظفيه

[3]  الاسم الشعبي في طهران لقاسم سليماني.

[4]  إشارة إلى ميخائيل بوغدانوف الملحق العسكري سابقا في السفارة السوفيتية في دمشق ونائب وزير الخارجية الروسية

Scroll to Top