لم يكن يتوقع أحد، أن يأتي وقت من الدهر على سورية تصاب فيه بهذا الحجم من الإنهيار والدمار.. لكن الواقع المأساوي أكبر مما يتحمله إنسان..
هذه الكوارث التي لحقت بسورية لخّصها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في الذكرى العاشرة لاندلاع الحرب بقوله الأربعاء 10 مارس/آذار 2021 : “إن سورية لا تزال كابوسا حيا حيث يواجه حوالي 60 بالمائة من أبنائها خطر الجوع”.
وأوضح غوتيريش، أنه “من المستحيل أن ندرك بشكل كامل حجم الدمار في سوريا، لكن شعبها يعاني من بعض أسوأ الجرائم التي عرفها العالم هذا القرن.. حجم الفظائع يصيب الضمير بالصدمة”.
بعد عشر سنوات من الحرب، أحرقت الأخضر واليابس، وقتلت مئات الآلاف وشردت قرابة نصف الشعب السوري الذي خرج بعفوية مطالبا بحريته وحقوقه، يقف العالم مذهولا أمام حجم الدمار الذي أصاب الاقتصاد السوري في كل قطاعاته ومجالاته، إلى درجة أن الحديث عن إعادة الإعمار يتطلّب مئات المليارات من الدولارات.
ويرى مراقبون أن دعوات النظام الحالي الذي يقوده بشار الأسد إلى الانطلاق في إعادة الإعمار لإصلاح ما خلّفته الحرب المدمّرة بمباركة إيرانية روسية يأتي كمكافأة للدولتين لوقوفهما معه..
بمرور عشر سنوات كاملة من الانتفاضة ضد الحكم الذي يوصف بـ الاستبدادي، يجد المواطن السوري نفسه جائعا نازحا لاجئا.. يا لها من مفارقة في بلد كان ينتج 80 بالمائة من أمنه الغذائي!
يتّهم محللون اقتصاديون نظام الأسد بخلق قوانين عمّقت التوجّه الليبرالي الجديد لمقاربته الاقتصادية التي طبّقها منذ ما قبل الحرب، ما أنتج وضعا خطيرا من تكديس الثروة في أيدي قلة من الانتهازيين والمتاجرين بقوت الشعب وعمق أزمة المواطن وهي من بين الأسباب التي أدت إلى الانتفاضة في شهر آذار عام 2011.
ويتّهم سياسيون سوريون، كان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد أجرى معهم لقاءات حصرية، (قسم الحوارات واللقاءات) النظام بتفقير الشعب وبخلق أزمة اقتصادية لتركيع السوريين.
ولا يغيب على أي متابع للوضع السوري، أن تكاليف إصلاح الأضرار الاقتصادية الهائلة سيكون بقدر ذلك الدمار.
ووفقا لمنظمة الأمم المتحدة، سجّل إجمالي الخسائر المالية التي مُني بها الاقتصاد السوري بعد ثماني سنوات من الحرب نحو 442 مليار دولار، وأشار ذات المصدر، إلى تكبّد قطاع النفط وحده نحو 91.5 مليار دولار، فضلا عن القطاعات الأخرى التي طالها الضرر والفساد.
لقد ورث الاقتصاد السوري جملة من التوجهات والخيارات أدّت إلى احتكار الدولة لأغلب القطاعات الحساسة التي نخرها الفساد طيلة عقود ما خلق وضعا اجتماعيا معيشيا صعبا، لتأتي أحداث 2011 لتعمق الأزمة بشكل غير متوقّع من خلال الدمار الذي لحق بالمدن، حيث توقفت عجلة الإنتاج بصفة شبه كلية واضطر مئات الآلاف إلى مغادرة مواقع الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي نتيجة أعمال القصف من قبل قوات النظام ليتقد الوضع أكثر مع عسكرة الثورة ودخول الجماعات المتطرفة إلى مناطق عديدة بالبلاد.
خسائر اقتصادية ضخمة
لنستعرض بعض الاحصائيات الأممية :
* 80 ألف برميل نفط من إجمالي 89 ألفا تمّ إنتاجها يومياً عام 2020، استخرجت من مناطق خارجة عن سيطرة دمشق، مقابل إنتاج يومي بلغ 400 برميل قبل اندلاع النزاع.
*98 في المائة قيمة تدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار في السوق السوداء خلال العقد الأخير.
*عشرون دولارا هو متوسط الراتب الشهري للموظفين في القطاع العام في مناطق سيطرة الحكومة السورية مطلع العام 2021، وفق سعر الصرف في السوق السوداء.
*خمسون دولارا متوسط راتب الموظفين في القطاع الخاص.
*136 دولاراً كلفة السلة الغذائية الأساسية لأسرة مكوّنة من خمسة أفراد لمدة شهر، وفق سعر الصرف في السوق السوداء.
*33 *ضعفا هي نسبة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في أنحاء البلاد، مقارنة بمتوسط خمس سنوات قبل الحرب، وفق برنامج الأغذية العالمي.
60 *ضعفاً ارتفاع ثمن كيس الخبز ذي النوعية الجيدة في مناطق الحكومة منذ اندلاع النزاع.
300 *ليرة سورية ثمن البيضة الواحدة حالياً في مناطق سيطرة الحكومة مقابل ثلاث ليرات عام 2011.
مرتكزات الاقتصاد السوري
يصف المختصون في الاقتصاد الوضع في سورية بالسيّء جداً مهما سعت عدة أطراف إلى لملمة الخراب والدفع بالنظام وحلفائه والمعارضة إلى إيلاء مأساة الشعب السوري المعيشية الأولوية، والتنازل المتبادل لإرساء سياسة اقتصادية جديدة ووضع مقاربة من شأنها أن تصلح ما خُرّب وأفسد طيلة عقد من الفوضى، في أكبر حروب القرن 21، عقب انتفاضة شعبية مسالمة استغلتها أطراف داخلية وخارجية لإثارة الفوضى والبلبلة وخلق صراع قوي لم ينته إلى اليوم برغم كل الجهود الأممية والمؤتمرات والقرارات التي لم يلتزم بها أي طرف من الأطراف المتحاربة.
ارتفعت صرخات التحذير من كارثة انسانية غير مسبوقة حيث أصبح 12 مليون سوري في حاجة ماسّة إلى توفير المساعدات فيما فرّ 5 ملايين مواطن إلى دول مجاورة إضافة إلى مئات الآلاف النازحين في المخيمات.
وفي نفس السياق ذكرت الأمم المتحدة أن معدل الفقر في البلاد ارتفع بأكثر من 90%، في حين أكد مراقبون أن أكبر أزمة يواجهها الاقتصاد تتمثّل في معالجة التفاوت الصارخ في توزيع الثروات والمداخيل.
الصناعة.
لقد أدّت الحرب إلى تدمير أغلب ركائز الاقتصاد السوري ومقوماته، حيث تمّ نهب مئات المصانع في حلب وغيرها مما أثّر سلبا على الاقتصاد المدني في سورية.
كما لحق الضرر بالصناعات الصغرى والمتوسطة، ما أدى إلى توقّف أغلبها عن العمل وهجرها أصحابها وعمالها نتيجة الحرب ما أحدث عجزا بالسوق الداخلية وسبّب معاناة كبيرة في المعيشة التي أضحت متدنية وشبه منعدمة لملايين الناس.
توقّف الإنتاج الصناعي حرم البلاد من مصادر دخل كبيرة، يرى محللون أن سياسات النظام تعمدت أيضا معاقبة خصومه ومعارضيه وتدمير أي مصدر إنتاج قد يقع تحت أيديهم.
لقد تعددت مظاهر الدمار الذي أصاب الإقتصاد بعد أن كانت سورية الأولى عربيا في إنتاج القمح، والثانية عالمياً في إنتاج القطن، وأحد أهم مراكز صناعة المنسوجات، فضلا عن قطاع صناعة الأدوية الذي كان يغطي 90% من الحاجة المحليّة، ويتم التصدير من هذه الأدوية إلى أكثر من 30 دولة بجودة عالمية، بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية.
وتضيف الأمم المتحدة أن تكلفة الحرب الاقتصادية في سورية بلغت تريليون و200 مليار دولار أمريكي.
ومن جانب آخر، تضرّر القطاع الزراعي في سورية طيلة عقد من الحرب نتيجة العمليات المسلحة سواء من قبل النظام أو الجماعات المسلحة ما دفع بعشرات الآلاف من المزارعين إلى الهجرة وترك أراضيهم.
وبسبب النقص والغلاء في أسعار الأسمدة والمبيدات، ارتفعت تكاليف الإنتاج الزراعي وأصبح من الصعب تغطية تكاليف هذا الإنتاج ولهذا السبب أيضا توقف الكثير من الفلاحين عن الزراعة.
كما أن الانقطاع المتكرر للتيّار الكهربائي حال دون استخراج المياه الجوفية حيث يستخدم المزارعون المضخات التي تعمل غالبا بواسطة التيار الكهربائي والوقود الأمر الذي أدى إلى تعرض المزروعات للعطش والجفاف.
وكان لتوقّف السياحة كذلك أثر مباشر في تعميق الأزمة الاقتصادية التي طالت الخدمات على اختلافها إلى جانب عشرات الآلاف من منتجي الصناعات التقليدية التي اندثر بعضها وتشرف أخرى على الانهيار.
ومن جانب آخر تتغاضى الدول عن تمركز القوات الأمريكية في مناطق شرقي سورية، والتي تسيطر على ما فيها من ثروة نفطية، وقد أكدت تقارير أممية أن ربع الثروة النفطية تقوم تلك القوات بنهبها.
ألقت الحرب إذن بثقلها على سورية بما ألحقته من أضرار هائلة بالبنى التحتية واستنزاف الاقتصاد وقطاعاته المنهكة، إضافة إلى دمار كبير لم يميز بين منزل ومرفق عام أو خاص أو منشأة طبية أو تعليمية.
ولا تزال العزلة التي يعيشها الاقتصاد السوري مستمرة جراء العقوبات المفروضة عليه، وآخرها “قانون قيصر” الذي يحظر التعامل مع سورية في أغلب المجالات، ما سبب نقصاً في كل الإمدادات، فضلا عن المحروقات والنفط والغاز، كما تتضمَّن العقوبات حظر التعامل مع المصرف السوري المركزي والمصارف التجارية، ولوائح طويلة من العقوبات على شركات وأشخا، في حين أكد خبراء أمميون أن أسلوب العقوبات الذي فرض على عديد البلدان أصاب الشعوب بالدرجة الأولى قبل الحكام.
وفي هذا المقام، شددت خبيرة حقوق الإنسان، التابعة للأمم المتحدة، ألينا دوهان، على ضرورة “رفع العقوبات الأحادية الجانب” باعتبار أن الشعب هو المتضرر الأول.
وأوضحت أن العقوبات تنتهك حقوق الإنسان، لافتة إلى أن “الصراع والعنف كان لهما بالفعل تأثير وخيم على قدرة الشعب السوري على إعمال حقوقه الأساسية، حيث ألحق أضراراً بالغة بالمنازل والوحدات الطبية والمدارس والمرافق الأخرى”.
وأكدت أن العقوبات ألحقت الأذى بالسكان السوريين، وأدت إلى تفاقم الأزمة الإنسانية القائمة.
انهيار الليرة السورية
ووفق إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان، تواصل الليرة السورية تسجيل انخفاضًا خطيرا وحادا في قيمتها أمام العملات الأجنبية، حيث بلغ سعر صرف الدولار في دمشق 4000 مبيع و 3950 شراء، واليورو 4833 مبيع و 4768 شراء، وبلغ سعر صرف الليرة التركية في إدلب وريف حلب 540 مبيع، و 529 شراء، وبلغ سعر غرام الذهب عيار 21 في دمشق 194000 ليرة سورية.. يأتي ذلك في ظل تعالي الأصوات ضمن مناطق النظام لإيجاد حلول للفقر المدقع الذي تعيشه المحافظات السورية.
اتهامات أممية
وتتّهم الأمم المتحدة النظام بخلق سياسة وهيكلية قانونية تسمح له بتحويل المساعدات الإنسانية لتمويل ما يرتكبه من فظائع وجرائم، ولمعاقبة من يعتبرهم معارضين له، ولمكافأة المؤيدين بتلك المساعدات وخاصة حلفاءه المعروفين، وقد اتُّهمت “الحكومة بتقييد وصول المنظمات الإغاثية إلى المجتمعات الضعيفة، حيث أعطت موافقات انتقائية على مشاريع إغاثية، وفرضت شروطاً عليها لتشارك فاعلين محليين مرتبطين بالأفرع الأمنية التي تقوم بارتكاب انتهاكات”.
لقد قضت الحرب المدمرة وسياسة الأرض المحروقة التي اتبعها النظام وحلفاؤه على أحلام شعب انتفض سليما مطالبا بالحرية والعيش الكريم ، ليجد نفسه أمام أهوال أكبر حروب القرن 21 .
لا يزال مسلسل المأساة في سورية مستمرا مع استمرار الحرب وتعنت الأطراف المتصارعة، وصم الآذان عن أنات الأبرياء ومعاناتهم في شعب لا يستحق هذا المصير وهو الذي كان عبر تاريخه رائدا ومبدعا بإسهاماته الحضارية في المسيرة الإنسانية.
فمتى يسمو الجميع عن كل المنحدرات لأجل سورية العظيمة المحررة الموحدة؟
(تحرير: المرصد السوري لحقوق الإنسان)