هيثم مناع
من مفارقات الدهر والفكر، أن كارل ماركس، أهم رموز الفكر النقدي في القرن التاسع عشر، كان المثقف الوحيد الذي استعمل كلمة الدكتاتورية بالمعنى الإيجابي، ورغم كل الشروحات الإصلية والفرعية، فقد تم توظيف هذا الاستعمال من قبل من اختزل دكتاتورية الطبقة بدكتاتورية الحزب، ودكتاتورية الحزب بتلك الممارسة من الأمين العام، وسيحتفظ التاريخ لروزا لوكسمبورغ بردها الصارم على البلاشفة الروس حول مفهومهم الضيق للحريات في الدولة الإشتراكية بالقول: “إن أطروحة الحرية فقط لأنصار الحكومة، فقط لأعضاء حزب واحد – مهما كان عددهم كبيرا – هي لا حرية البتة. فالحرية دوما وحصريا هي حرية الشخص الذي يفكر على نحو مختلف. ليس بسبب أية فكرة متعصبة عن “العدالة”، بل لأن كل ما هو تنويري، مفيد ومطهّر في الحرية السياسية يتوقف على هذه الخصائص الضرورية، ولأن تأثيرها يختفي عندما تتحول الحرية إلى امتياز خاص”..
ليست الدكتاتورية مرتبطة بزمان أو مكان، وهي ليست خاصة بشعب أو ثقافة، بل مثلها مثل التعذيب، معطى عالمي. وعالميتها ليست موضوع تشريف بقدر ما هي ندبة سرطانية في الوجود البشري. ورغم أشكال النضال الثورية والهادئة، الفكرية والعملية، للتخلص منها، مازالت تعشش في زوايا الوجود البشري من الخلية العائلية إلى الإمبراطورية الكونية. مثل جريمة القتل أو الاغتصاب أو جريمة الحرب، نبصر الممارسة الدكتاتورية في أي وقت وفي كل بقعة. ووسمها بالحديثة تمييزا لها عن تعبير الاستبداد الأكثر قدما، ليس مشكلة بنيوية فيها، وإنما وصمة عار على حداثةٍ لم تستطع تجسيد نفسها في التنوير والعدالة والحرية، ومزجت بين الاستعمار والهيمنة والتوسع والثقافة والأمن والدولة الحديثة. لم يجد محرر قاموس السياسة في العالم (أكسفورد) من ضرورة لتعريف كلمة الدكتاتورية وأرسل القارئ إلى تعبير الأتوريتارية. ولعل هذا ما دعا الموسوعة السياسية المختصرة للقول “لم تعد الدكتاتوريات موجودة اليوم، ما هو موجود أنظمة استثنائية تقول لنا بأنها موجودة للحظة من الزمن، في حين يلجأ البعض لمبدأ القيادة الجماعية للإدعاء بوجود ديمقراطية في الممارسة تنسجم مع احتياجات المجتمع الانتقالي” (بعد أربعين سنة حلت كلمة العدالة الانتقالية محل هذا المجتمع الانتقالي!)
بالنسبة للشاعر السريالي جورج حنين، “يتصور المستبد السياسة كشكل من أشكال العربدة، ويعتبرها الطاغية وسيلة دائمة لإعادة توزيع الشر، أما الدكتاتور فيعتبرها المخلوق التطبيقي لعالم غير قادر على البقاء معه”. إلا أن قراءة حنين التي تنطلق من سلطة الفرد ووحدانيته ووحدته، أي عزلته النفسية والوجودية والوجدانية، لم تعد تنسجم مع ابتكارات الدكتاتورية الحديثة التي تجاوزت تصورات الأدباء والشعراء بشكل استوجب إعادة النظر في التصور وفي المفهوم نفسه، خاصة مع الاجتياحات “الجديدة” له، من مشوهي “الجهاد” الشرقي والشعبوية المعولمة.
مهمة الفكر النقدي اليوم، تشريح وتفكيك الآليات غير الديمقراطية في تنظيم الحياة والمجتمع. وبهذا المعنى، خوض المبارزة الضرورية، مع كل الذين يغلفون الممارسات والتصورات التسلطية للحاضر والمستقبل، بثياب الدفاع عن “الحرية” أو أمن الناس أو وطنهم أو تحقيق الاستقرار..
لقد فتحت “الحرب على الإرهاب” شهية منتقديها في البحث عن الأصول التسلطية في الدولة الحديثة. وأذكر النقاش مع الصديق محمد حافظ يعقوب حول السبب في عدم وضع توماس هوبس في موسوعة “الإمعان في حقوق الإنسان”. فمن وجهة نظري لعبت الهوبسية دورا أساسيا في تسويغ مفهوم الأمن والدولة القوية على حساب مفهوم المواطنة في صلب الدولة الحديثة. وبفضل عولمة الحالة الاستثنائية بتسارع زمني فاق كل تصور، أصبح للمقارنة التي أجراها يوجين هابرماس بين مقاومة الدولة الظالمة والعصيان المدني في دولة قانون قوة حضور، بل صار من الضروري تفكيك جملة المفاهيم التي بلغت مداها الأعلى في قَسَمِ الطاعة غير المشروطة للقائد الأعلى في الحزب النازي وأشباهه، أو البيعة لمشعوذٍ برتبة جنرال. يبدو أن قدر البشرية في حذرها مع التقاليد التسلطية يتطلب أن نتذكر ما قاله كلاوس أرندت باعتباره مؤشر اليقظة الضروري للحفاظ على الحريات والحقوق أو تعزيزها: “على المرء أن يكون في كل وقت مواطنٌ ومتمرد!”.
ما هو المشترك بين مختلف التعبيرات الدكتاتورية؟ تغييب حقوق الأشخاص والجماعات المدنية واختصار المواطن في المسؤولية والواجب والطاعة. غياب حقوق الإنسان الأساسية الذي يجعل الفرد يتعلق بشكل مبالغ فيه بكل أشكال الروابط العضوية، ما أسمته حنا أرندت يوما “الميراث الوراثي” ونفضل تسميته بالعلاقات العضوية قبل المدنية مذهبية وطائفية وعشائرية ، وتعزيز الانطواء عن المشاركة العامة باعتبار غياب الدور مهمة رئيسية من مهمات أجهزة قمع الدكتاتورية.
العنف هو إله الدكتاتورية المعبود، ولكن وبعكس الآلهة الوثنية التي ترفض قبائل ما قبل التاريخ تقاسمها مع غيرها، تحرص الدكتاتوريات المعاصرة على تسريبه لضحاياها باعتباره الميدان الأمثل لأية مواجهة غير متكافئة مع المجتمع المقيد بأغلالها. وما لم تتوضح التخوم بين وسائل المقاومة المدنية و”جحشنة” اللجوء إلى العنف للخلاص من الدكتاتورية، فإن المقموع لن يلبث أن يكرر حقارات القامع في كل قرية وحارة يظن أنه قد “حررها” من الدكتاتورية.
ليست الدكتاتورية قدر أي شعب، وليست محمية من أية منظومة قيم. هناك مبررات وتفسيرات يجري تقديمها للعوام لتأخير موتها، كعدم الاستعداد الشعبي للديمقراطية أو الخطر الخارجي أو الطابع الغربي للديمقراطية أو كفرها. لكنها دعاوى تتهاوى من تلقاء ذاتها، عندما نجد الدكتاتور لا يعدم وسيلة لترهيب وترغيب النخب، ولا يترك طريقة لتعميم الخوف والرعب.
الفارق بين الدكتاتورية المعاصرة وفروسية القرون الوسطى، جبن الدكتاتوريات في خوض أية مبارزة أخلاقية متكافئة مع أندادها وخصومها. وبهذا المعنى، الدكتاتورية هي المنتج الأول لكل أشكال الكذب والنفاق في المجتمع باعتبارها تنتج فردا مضطرا لحماية نفسه منها في غياب أي شكل من أشكال الحماية أو العهد بين الحاكم والمحكوم.
تخلق الدكتاتورية هوة كبيرة بين الشرعية الأخلاقية، أي تلك النابعة عن فكرة الدولة الطامحة للعدل، والوضع القانوني المقزِم لتعريف الأشخاص والمحول لهم إلى كائنات طائعة ومروضة مسموح لها بالعيش. الأمر الذي يجعل المقاومة المدنية بكل أشكالها، وسيلة مشروعة في القانون الدولي لحقوق الإنسان. لأن احترام قوانين الدكتاتور، يعني التخلي الطوعي عن الكرامة الإنسانية. من هنا دافعت الحركة المدنية في البلدان الدكتاتورية عن فكرة جوهرية مفادها أن المدافع عن حقوق المواطنة يمارس حقوقه المدنية الطبيعية ولا يطالب بها. لأن طريق الطلب إلى السلطات القمعية غير سالك بالأساس. ولأن السلطات التسلطية تفعل كل شيء من أجل إبقاء معارضيها في السرية، يظهر للعيان أن العلنية والشفافية لا تناسب أية دكتاتورية.
التربية على المواطنة وحقوق الإنسان والوسائل السلمية للتغيير، من أهم شروط مقاومة الدكتاتورية والتحضير لما بعدها، لأن الدكتاتورية تسعى لتهشيم الوعي المواطني وإبعاد البشر عن فكرة المشاركة في تقرير مصيرهم الفردي والجماعي وإعادة نسخ وسائلها في صفوف معارضيها. هذه التربية المواطنية أساسها الشك والقدرة على تفكيك الأفكار الجاهزة والمغلقة، وسبيلها الروح النقدية القادرة على فهم الوضع البشري وإدراك سبل المشاركة فيه. حتى اليوم، لم تتحفنا البشرية بمثل واحد استطاعت فيه الإيديولوجيا المحملة بفكرة التفوق، علمانية كانت أو دينية، أن تخلّص المجتمع من الدكتاتورية دون أن تلبسها ثوبا جديدا يمنحها القدرة على حياة أطول.
النضال من أجل مجتمع مواطنة، يقّيد السلطات عوضا أن أن يكون مقيدا منها، نضال طويل وعميق، مدني وعلني، يستعيد مركزية دور الإنسان في الوجود الإنساني، ويؤكد على ضرورة احترام الكائن الإنساني لنظرائه وبيئته وكوكبه، مادام ثمة جدوى خلاصية من هذا الاحترام.
في واحدة من خواطر الفنان المصري رمسيس يونان كتب يقول:
“الجو محمل بالأكاذيب الضخمة تذيعها الأبواق في كل ميدان وفي كل بيت.. يقررون مصير الناس في جلسات سرية.. صلة الإنسان بالإنسان عُملة للتجارة، العواطف لا تصرف إلا بأمر رسمي، الشعر في منزلة المهربات.. إننا نعيش في عصر إما أن يكون على شفا هاوية، وإما أن يكون على أبواب عالم جديد، نحتاج معه إلى ولادة جديدة، إلى الرجوع إلى الجذور والبذور، إلى الدوافع والحوافز الكامنة، إلى القوى الأصيلة، إلى اللهب المقدس الذي اغتصبه “بروميثيوس” من الآلهة وأودعه في كل قلب..عصر مضطرب، قلق، مفجع.. أفنشهد نحن النهاية الدامية، الفصل الأخير لقصة لا مغزى لها، قصة تاريخ الإنسان.. أم أنها البداية المريرة التي لا مفر من أن تمتحن كل وليد؟ كل شيء في أمر هذا الوليد يعتمد على ما في البذور من إرادة النمو، على ما في الجذور من قوة وذخر، على ما في اللهب المقدس من حرارة، على ما فينا من شهوة الحياة.”(رمسيس يونان 1940).
المنطقة الباريسية في 5/1/2010