مؤتمر القاهرة: حتى لا تقتل السياسات الصغيرة ما تبقى

مرام داؤد

كانت السياسة المصرية في مرحلة الانتقال التي تلت سقوط مبارك شبه غائبة عن الملف السوري. فقد وقعت “ثورة 25 يناير” في مصر عام 2011، كما يقول صبحي غندور، “بفعل حركة شبابية مصرية تضامنت معها قطاعات الشعب المصري كلّه، لكن دون استنادٍ إلى قوة سياسية منظّمة لهذا الحراك الشعبي، ممّا جعل الثورة والثوار دون مرجعية تحصد نتائج الثورة فيما بعد، وممّا أفسح المجال أيضاً لحركة “الأخوان المسلمين” لاحقاً أن تقتطف ثمار “ثورة يناير” دون أن تكون هي العامل الأهم فيها. وربما كان يصّح القول بأنّ مصر عاشت في فترة حكم محمد مرسي، حقبة هيمنة “حركة الأخوان المسلمين” على الحكم، وبتعثر كامل في كيفية بناء مصر الداخل اقتصادياً واجتماعياً ودستورياً، وبعدم احداث تغييرات جذرية في السياسة الخارجية التي كان عليها نظام “الجمهورية الثانية”، أي نظام السادات – مبارك، وهو النظام الذي عاد من جديد للحكم في العام 2013 بقيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي”.

لم تكن الأمور بهذا الوضوح بعد حركة تمرد ونزول الجماهير للشارع في ذكرى مرور عام على مرسي العياط للخلاص من الحكم الإخواني. وقد سمعناها حتى من بعض أنصار حكومة الإخوان، أحد أسباب سقوط مرسي هو حشده السلفيين والإخوان في ستاد القاهرة لإعلان الجهاد في سوريا.

كانت المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية السلمية في حالة حصار وإقصاء من الدول الغربية والإقليمية التي راهنت على الائتلاف السوري كممثل شرعي ووحيد للثورة والشعب والمجتمع. وقد وافقت الخارجية المصرية على أن يعقد على الأراضي المصرية مؤتمرا للمعارضة السورية من أجل الحل السياسي. ووعد الدكتور نبيل فهمي وزير الخارجية وقتئذ، وفدا سوريا ضم الدكتور وليد البني والدكتور هيثم مناع والشيخ معاذ الخطيب والدكتور خالد المحاميد والفنان جمال سليمان بضمان مشاركة السوريين الذين يعتقدون بأن الحل السياسي هو السبيل الوحيد لإنهاء الحروب العبثية في سوريا، وهمس الوزير بإذن أحد المشاركين: “اعملوه بسرعة، عندنا الناس مشغولة في مشاكل مصر الداخلية ما فيش حد عنده وقت ليكم”. كان إعلان الجهاد في سوريا من ستاد القاهرة قد خلق استياء شعبيا وعسكريا عاما في مصر، وتشاطرنا في رفض العسكرة أهم القوى اليسارية والمصرية ومنظمات حقوق الإنسان المصرية. كذلك لم يكن هناك أي تعاطف لدى المعارضة الديمقراطية السورية مع دعم الإخوان المسلمين في مصر للعسكرة والأسلمة ومذهبة الصراع  في سوريا.

لم يكن الموقف المصري محايدا تماما قبيل عقد مؤتمر القاهرة في 8-9 حزيران/يونيو 2015، فقد منعت السلطات المصرية 9 من أعضاء المؤتمر من المشاركة في المؤتمر بدعوى علاقتهم بالإخوان، وطلبت الخارجية أن يكون في لجنة المتابعة شاب جرى تقديمه عن “الحراك الثوري” اسمه فراس الخالدي. الأمر الذي تسبب في استقالة وليد البني وغياب عدد من المدعوين عن المؤتمر. في حين قدرت الأغلبية يومها، أن صوتا واحدا من 15 صوتا لن يؤثر لا في القرارات ولا الخط العام للمؤتمر، وبالتالي المهم أن لا يتدخل المصريون لا في الميثاق الوطني ولا في خارطة الطريق ومخرجات المؤتمر وسياساته. الأمر الذي احترمه الجانب المصري.

كل متمكن من حضور المؤتمر بإمكانياته المالية حضر “على حسابه” الشخصي، وغطى رجل الأعمال السوري خالد المحاميد من لم لا تسمح له إمكانياته بالحضور، كذلك غطى المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان/مؤسسة هيثم مناع تكاليف الاجتماعات التحضيرية في جنيف.

عقد أول مؤتمر سوري سوري يتبنى الحل السياسي السلمي خيارا وحيدا للخلاص من منظومة الفساد وأجهزة الاستبداد، ومن جحافل “المقاتلين الأجانب” الذين جاوز عددهم 120 ألف مقاتل، ومن التدخلات الميليشياوية الإيرانية السافرة دفاعا عن حليف مات في قلوب وعقول السوريين… كان رأي ستيفان ديميستورا، المبعوث الأممي لسوريا وقتئذ، وبعد لقائه مع (خالد المحاميد، وليد البني، عبد القادر السنكري وهيثم مناع)، أن خارطة الطريق المقترحة لمؤتمر القاهرة 2، تشكل أفضل قراءة لبيان جنيف منذ صدوره. وقد استمع لاقتراح آخر حول قرار من مجلس الأمن من أجل سوريا، واعتبر ذلك حلما غير بعيد المنال.

 عقد مؤتمر القاهرة بحضور جميع الأحزاب الكردية الأعضاء في ما كان يسمى وقتئذ الهيئة الكردية العليا (المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي وتف دم)، كذلك معظم رموز التيار الديمقراطي في الائتلاف، هيئة التنسيق الوطنية، تيار قمح، وشخصيات وطنية معروفة بتاريخها ونضالاتها. حضر المؤتمر الأمين العام لجامعة الدول العربية ورئيس اتحاد البرلمانيين العرب ووزير الخارجية المصري، وجاء لبهو المؤتمر سفراء عدة دول يستفسرون عما يحدث. توجهت لجنة المتابعة للمؤتمر إلى فيينا قبيل المؤتمر الدولي من أجل سوريا والتقت معظم الوفود المشاركة في اجتماعي فيينا 1 و 2.

كانت الحرب على مؤتمر القاهرة من عدة جبهات، وجرت محاولات لإقناع أعضاء الإئتلاف بعدم الحضور وأخرى لإبعاد هيئة التنسيق الوطنية عن المؤتمر، لكنها لم تنجح. وعندما وضع الطرف التركي فيتو على حضور مؤتمر القاهرة  في مؤتمر الرياض الأول كجسم سياسي، وجه عضو لجنة المتابعة هيثم مناع رسالة احتجاج إلى مجلس الأمن اعتبر فيها هذا الموقف مخالفة صريحة لبيان جنيف وإقصاء لكتلة أساسية ووازنة من المعارضة السورية، كتلة شكلت جبهة الدفاع الأولى عن الحل السياسي وضرورة مفاوضات تحت سقف الأمم المتحدة. دافع وزير الخارجية الروسي لافروف عن هذا الطرح ولم يعترض عليه وزير الخارجية الأمريكي السيد كيري، ونجم عن هذا التوافق، أول اعتراف أممي بمؤتمر القاهرة في اعتبار القرار 2254 لمجلس الأمن، مؤتمر القاهرة طرفا أساسيا في العملية السياسية. للأسف لم تقف الخارجية المصرية مع تحرك مناع ولجنة المتابعة، ورفض المندوب المصري تقديم رسالة مناع لمجلس الأمن(كانت مصر حينها عضوا غير دائم في مجلس الأمن). وهنا كان الاستنتاج الأول لأهم أعضاء لجنة المتابعة: “سيكون هناك بالتأكيد مسائل خلاف مع الجانب المصري لأن حسابات الخارجية المصرية لا يمكن أن تتوافق بالضرورة مع حسابات التيار الوطني الديمقراطي السوري.

كان أمام ديميستورا دعوة الأطراف المشار لها في القرار 2254 كافة، إلا أن الطرف التركي وضع من جديد “حق” النقض على مشاركة أي طرف كردي في مباحثات جنيف تحت طائلة سحب كل القوى الواقعة تحت نفوذه، سياسية وعسكرية. وعاد السفير الأمريكي مايكل راتني ونائب وزير الخارجية الروسي غاتيلوف لإقناع وفد مؤتمر القاهرة في لوزان، بضرورة الاستغناء عن المكون الكردي مع وعد بإضافة اسمائهم في الجلسات اللاحقة. جرى إعلام السيد رمزي رمزي نائب المبعوث الدولي، بأنه ليس من حقه أو من حق أي بلد التدخل في تكوين وفد مؤتمر القاهرة ورفض ماجد حبو وهيثم مناع، اللذان استلما الدعوة لحضور مباحثات جنيف، دخول الصالة إلا بأسماء القائمة التي تقرها لجنة متابعة مؤتمر القاهرة.

هنا وقع الشرخ الأول والتدخل الأول من وزيري الخارجية المصري والروسي اللذين اتفقا على تقترح الخارجية المصرية قائمة لا تضم أي اسم كردي مقابل دعوة ثمانية من مؤتمر القاهرة لجنيف. طلب صالح النبواني وماجد حبو وهيثم مناع تجميد عضويتهم في مؤتمر القاهرة وأعلموا ياسر العلوي بأن ما يجري تدخلا سافرا في عمل لجنة متابعة القاهرة وتبعهم في التجميد عشرات الأعضاء من أهم الشخصيات الوطنية.

حاولت المجموعة القابلة بالاقتراح الروسي المصري ترميم وفد ممن بقي واستأنفت المباحثات. إلا أن شرعية وقوة لجنة متابعة مؤتمر القاهرة لم تعد كسابق عهدها.

مع عودة الدكتور نزيه النجاري للملف السوري، كان واضحا له أن لجنة متابعة مؤتمر القاهرة على مفترق طرق: الإصلاح أو الزوال، فطرح فكرة مؤتمر القاهرة 3. إلا أن هذا المشروع الذي نال تأييد أحمد الجربا ومجلس سوريا الديمقراطية لم يكن قابلا للتحقق، وبكل الأحوال سيكون أي مؤتمر كهذا أضعف بكثير من مؤتمر القاهرة 2 وبالتالي يشكل فشلا أكثر منه نجاح. من جهة لجنة المتابعة قام قاسم الخطيب بتقديم اقتراح لجمع ثلاثين شخصية من صنّاع المؤتمر وتوحيد جهود كل المخلصين لمخرجات مؤتمر القاهرة لمواجهة الهيمنة التركية على الائتلاف وفصائل الشمال والغمل جديا من أجل مؤتمر وطني جامع وشامل يعيد الوحدة لمختلف أطراف المعارضة الوطنية الديمقراطية المستقلة القرار.

بعد كورونا والشلل الذي تسببت به الجائحة، وقيام الائتلاف بخطوات أحادية الجانب داخل وخارج هيئة التفاوض، وجدت الخارجية المصرية في اقتراح قاسم الخطيب فرصة لإنقاذ مؤتمر القاهرة وقبلت بشرط الوطنيين عدم مشاركة أي اسم غير مستقل القرار أو تلوثت يديه بالفساد. كان المقصود أولا السيد فراس الخالدي الذي فرضته السلطات المصرية فرضا على لجنة المتابعة، أما قضية تيار الغد، فقد طلب الطرف المصري تأجيل التواصل معه إلى 15 ديسمبر 2020، لعدة أسباب.

بعد مشاورات شملت قرابة 80 شخصية من الذين حضروا مؤتمر القاهرة، واجتماعات لأغلبية أعضاء لجنة المتابعة المنبثقة عن المؤتمر. (لم يحضرها حكما الطرف السرياني والمجلس الوطني الكردي اللذان تقدما باستقالتهما بضغط من الائتلاف قبل أربع سنوات). عقد اجتماع الأقطاب وحضره 23 شخصية أساسية خمسة منهم يحملون تفويضا من أسماء تعذر حضورها لأسباب مهنية. وجرى الاتفاق على ترك أماكن للغائبين من هيئة التنسيق الوطنية ومجموعة الجربا … بحيث تشمل الأمانة العامة 51 شخصا وتكون أمانة عامة دائمة تنتخب لجنة جديدة لمؤتمر القاهرة.

الحقيقة أن عملية التوافق هذه، لم تكن تخطر على بال أكثر من طرف. شعر السيد الجربا بمحدودية أي دور له في تجمع قوي كهذا، أما السيد الخالدي فأصبح خارج المعادلة تماما. لذا أصدر الأخير مع عضو من تيار الغد، لم يحضر مؤتمر القاهرة ولا يعرف عنه الكثير، بيان استنكار ورفض لهذه العملية. ثم بدأت عمليات الشغب على مشروع البناء الوطني الديمقراطي بمراسلة الأمم المتحدة والائتلاف والهجوم على السيد قاسم الخطيب واجتماع الأقطاب.. ومن مفارقات الأيام، أن يجري التنسيق والمراسلة مع السيد أنس العبدة الذي اختاره الائتلاف خليفة لنصر الحريري لرئاسة الهيئة التفاوضية، الأمر الذي يهدد وحدة الهيئة التفاوضية ونهاية أجل هيئة موحدة للتفاوض.

يبدو أن الأجهزة المصرية لم تقبل فكرة إبعاد مرشحها لعضوية لجنة متابعة القاهرة، واعتبرت ذلك غيابا للعين المصرية داخل مؤتمر القاهرة، ودفعت بمرشحها للتواصل مع الائتلاف والتنسيق معه، رغم حالة العداء المستأصل بين السلطات المصرية والتركية. بل لم يتوان وكيل وزارة الخارجية المصرية نزيه النجاري عن القول: “هذه محاولة لخطف مؤتمر القاهرة لا يمكننا القبول بها”.

إننا ندرك تماما أن أوراق الحكومة المصرية في الملف السوري أقل من قليلة، ولكن لا يليق بالجانب المصري التعامل مع أقطاب المعارضة الوطنية الديمقراطية، بنفس الطريقة التي يتعامل معها التركي مع الأطراف الواقعة تحت نفوذه. فمؤتمر القاهرة كان بمبادرة سورية سورية، وتُشكر السلطات المصرية على قبول عقده في أراضيها. وقد قال الفقيد حسين العودات قبل انعقاده: “مصر لم تشكل أو تدعم أي فصيل مسلح لذا فهي أفضل مكان لعقد المؤتمر”. وروابط التضامن والأخوة بين الشعبين المصري والسوري أكبر من أي تنظيم سياسي أو حكومة. والمصالح القومية العليا المشتركة بين الشعبين لا يستطيع أحد أن يختزلها في حرتقات صغيرة ومواقف تكتيكية هزيلة. لذا يبقى يحذونا الأمل بتوقف بعض المسئولين المصريين عن التدخل في شؤون المعارضة الوطنية الديمقراطية والتعامل معها على أساس الندية والاحترام المتبادل. وقبول فكرة أن انعقاد المؤتمر قبل سنوات في مدينة القاهرة، هو وسام شرف قومي وليس نقمة تستوجب الوصاية المصرية على الوطنيين السوريين..

—————

باحث سوري، عضو مؤتمر القاهرة

Scroll to Top