العبور إلى النور..
ما حدث في سوريا لم يشهد له العالم مثيل في بلد واحد منذ الحرب العالمية الثانية، نتائج كارثية لنزاع داخلي وتدمير ذاتي مستمر مدعوم ومكرّس دولياً.. المأساة السورية التي تفوقت بكل ما هو مدمر، والأهوال الحياتية التي نكابدها في معاناتنا اليومية. (الغذاء والتنقل والمواصلات والغلاء والظلام والطوابير) تدعونا إلى طرح اسئلة من قبيل
ما هو وضع سوريا اليوم؟
ما هو دخل الأسرة السورية؟ وهل يؤمن حياة كريمة لأفراد الأسرة أم الأصح هل يكفي لسد الاحتياجات الأولية للبقاء؟
ما الذي نريده لسوريا وللمواطن السوري؟ كيف نحقق ذلك في ظل الضغوطات والقيود المتعددة المفروضة؟
كيف نستطيع فرض إرادة الأشخاص والمجتمع السوري فوق الإرادات الدولية؟؟
سوريا الدولة الجيوسياسية نافذة غرب أسيا على المتوسط وقلب الشرق الأوسط الذي يربط ثلاث قارات
دولة الثروات الباطنية والطبيعية نفط وغاز وفوسفات ورمل السيليكون .. أصبحت النسبة الأكبر من سكانها تحت خط الفقر!
سوريا دولة الطبيعة المتنوعة والمياه العذبة والتربة الخصبة والثروة الحيوانية والقمح والزيتون ..لا يستطيع أغلب سكانها تحصيل ما يكفيهم من أهم المواد الغذائية. ويعجز فيها معيل أسرة عن تأمين احتياجات أسرته
سوريا دولة الموزاييك السكاني ومهد الديانات السماوية وطريق الحرير والحضارات البشرية الممتدة في أعماق التاريخ الإنساني والموروث الفكري..يعجز إنسانها اليوم أمام مدود المذهبة والتطيف والعنصرية والتسطيح الفكري .
لقد استهدفت سوريا من داخلها بسبب تفشي الأمراض الاجتماعية التي تنهشها وإغفال المظالم وغياب المحاسبة نظراً للاستئثار بالسلطة من قبل نظام حكم من لون واحد لم يكن يقبل النقد والمشاركة والدخول في منافسة سياسية نزيهة ولم يعمل فعلياً على تطوير الحياة السياسية والاقتصاد وأنظمة الضمان الاجتماعي ومستوى دخل الفرد وصيانة الحقوق من الانتهاكات. إضافةً إلى تكريسه النفوذ الديني لتطويع وضبط إيقاع مستوى المطالب والمتطلبات الاجتماعية وضمان عدم خروجها عن السيطرة.
بتنا اليوم أما ضغوطات هائلة وخيارات صعبة جداً ولا سبيل للخروج من عنق الزجاجة إلا توحيد الرأي بشأن القضايا الهامة للمواطن السوري والدولة السورية وتنحية كافة الخلافات وعوامل التفرقة جانباً والتركيز على مستقبل مشترك واضح المعالم مبني على التسامح وضامن لحقوق الجميع.
العمل المدني لبناء المجتمع المدني “القوة الناعمة” بالغة التأثير وعميقة الأثر
“المجتمع المدني” الصحيح هو الذي يحدد الإطار العام للسياسة في أي سلطة تشريعية وتنفيذية وقانونية وهو أساس التحوّل إلى الاستقرار السياسي (الديمقراطية) والسلام الدائم والتنمية المستدامة بدءاً بالتعريف بالحقوق والحريات المسؤولة والدفاع السلمي عنها: دولة الحق والقانون (دولة المواطنة الحقيقية) وصولاً إلى تكوين عقدها الاجتماعي والقوانين الضامنة له. إلا أن “المجتمع المدني” في سوريا مقيد أومستغل أو شبه خالي من المشاركة والفاعلية والتأثير في الحياة الاجتماعية السورية بالمفهوم العام لهذا المصطلح رغم كونه في العديد من البلدان الأكثر تأثيراً في الحياة العامة من حيث الربط بين الفرد والنظام السياسي الحاكم، وبين الفرد والمنظمات الدولية المؤثرة.
يمكن اعتبار العمل المدني المستقل كأحد أهم آليات العبور إلى المستقبل فهو يجمع الرأي ويوحد القوى المجتمعية ويضغط على السياسة لتستجيب للقضايا العامة. والعبور يحتاج إلى تحديد واسطة آمنة للانتقال من الانتماء الاجتماعي الولادي إلى الانتماء الاجتماعي الإرادي أو بمعنى أدق من الانتماء الاثني أو المذهبي أو الطائفي أو العرقي المنتشر بين مختلف الفئات والمكونات السورية (حالة الانتماء الموروث أو الإلزامي) إلى حالة الانتماء الوطني الذي يضع كافة الأفراد في بوتقة واحدة من الحقوق والواجبات. ويتيح لهم التركيز على البناء الاقتصادي الأنسب للمجتمع بما يكفل الحياة الكريمة للجميع.
المجتمع المدني هو هذه الواسطة وهو صلة الوصل والصيغة الفاعلة بين عامة الأفراد وبين النظام الحاكم،
و بمؤسساته المتنوعة هو الحاضن للعمل المدني -الطوعي بطبيعته- وهو أداة وآلية لضمان الثبات والاستقرار ولمراقبة العمليات و أساليب الأداء ومدى التقدم في إنجاز البرامج الانتخابية والخطط الحكومية وألأهم من كل ذلك أنه آلية للمحاسبة.
ويعود ذلك إلى أن العمل المدني هو عمل هادف ومحرّك للمجتمعات وقادر على الإنجاز وملء الفراغ مع تحقق أهم شروطه وهي الإرادة الطوعية للمشاركة و إمكانية التعبير عن الرأي. وليكون العمل مثمراً لا بد من التطور السياسي والحداثة المجتمعية لتحقيق المصلحة العامة للمجتمع ونجاح النظام السياسي في قيادته للدولة. والعمل المدني الصحيح هو أداة بيد الأفراد للانتقال نحو المساواة والعدالة والنهوض بالمجتمع حين تتوافر الإرادة المشتركة لتحقيق الانتقال إلى حالة متطورة ومن ثم هو انعكاس لمستوى ومدى الحرية الفكرية وحرية الرأي ضمن قيم كالمساواة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون.
من أهم شروط المنظمة المدنية والانتماء لها
- أن تكون ذات نظام مستقل بعيداً عن المؤسسات الحكومية.
- أن تكون غير قابلة للتوريث بمعنى انتقال العضوية الخاصة لأحد أفراد العائلة أو الطائفة أو العشيرة
- أن تكون ذات نظام تطوعي بحيث يكون الانضمام غير إلزامي وناجم عن حرية شخصية ووعي إنساني.
- أن تكون المؤسسة ذات نظام ديمقراطي في علاقاتها وأعمالها وتعاملها مع من حولها.
- أن تكون المؤسسة قابلة للتعدد والاختلاف والتنوع.
- أن يتسم المجتمع بالحداثة والتقدم والرقي ويبتعد عن الرجعية والتقليدية والتخلف
من أهم صفات الشخصة المدنية الفاعلة
- شخصية موضوعية
- شخصية حيادية
- شخصية واعية
- شخصية ملتزمة ومسؤولة
- شخصية شغوفة
- شخصية تقدم وتعلي المصلحة الوطنية على المصلحة الإثنية
هل يمكن وضع معايير لهذه الشخصية؟
- الانتماء لتكوين مدني بعدم وجود رغبة أو حالة انتقامية تجاه أي جهة سياسية أو دينية أو عرقية أو جنسانية
- الانتماء لتكوين مدني يحمل رسالة مجتمعية سامية لا تعترف بفروقات عنصرية أياً تكن
- الانتماء لتكوين مدني مؤسس قانونياً ويحمل المسؤولية القانونية الكاملة عن ممارساته وممارسات أعضائه تجاه الأوضاع المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية
كما ويجب البحث في وسائل التشكيل القانوني لمنظمة مدنية وطنية في حال الوجود في دولة نزاع أو نظام قمعي ووسائل حماية المشاركة
بنظرة موضوعية ناقدة إلى مشكلات الحاضر ورؤية حداثية للمستقبل السوري اقتصادياً واجتماعياً فإن أهم احتياجات المجتمع السوري التي تتطلب العمل المدني:
- التوعية بالحقوق الدستورية والوصول إلى الفئات المهمشة.
- حماية الطاقات البشرية السورية وأهمها فئة الشباب.
- كشف الفساد وملاحقته.
- حماية الطفل من الفقر والمرض والأمية والاستغلال.
- الحشد للمشاركة بالتعبير عن الرأي ورفض الضغط الاقتصادي.
- تحقيق الشفافية وبناء الثقة بين المسؤول والمواطن.
- محاربة الشائعات.
- مواجهة التهديدات البيئية.
- إزالة أسباب الخلافات الناجمة عن المظالم، وتحديد الولاءات و الأولويات لتحقيق التنمية الوطنية والمستدامة (ضمن محوري الإقلاع الاقتصادي والتقدم الاجتماعي).
قصور العمل المدني السوري لا يعني التوقف أو الاستسلام و لتجاوز حالة الفشل في بناء وتفعيل المجتمع المدني السوري لابد من البحث والتقصي في عوامله والانتباه إلى تكوين الشخصية المدنية السورية الناجحة
كيف نحسب الفشل في الحالة السورية؟
بكل بساطة باحتساب ما تم تقديمه من أموال على مدى عشر سنوات قياساً إلى النتائج التي تم تحقيقها على أرض الواقع حيث لا استطعنا زيادة المشاركة الفاعلة لبعض فئات المجتمع ولا استطعنا السيطرة على فوضى انتشار السلاح، ولاستطعنا الخروج من نفق الفشل الاقتصادي ولا استطعنا العبور سياسياً إلى بناء وطني قادر على فرز شخصيات سياسية تمثيلية مستقلة القرار، ويعود ذلك للعديد من الأسباب ومنها:
- ضعف الوعي بمفهوم المجتمع المدني وبالتالي عدم المعرفة بمدى قوته وتأثيره على برامج كل من النظام الحاكم والمعارضة السياسية
- الاستغلال والتوظيف السياسي للمجتمع المدني السوري الناشئ أو حديث العهد نظراً لعدم توفر شرط الحداثة ووووووو.
- التعاطي الخاطئ والاتكالية من جهة الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي والمنظمات الدولية في تعاملها مع المجتمع المدني السوري الناشئ حيث اعتمد الجميع على ترشيحات جهوية أو شخصيات معروفة أو دول مؤثرة ولم يتم النظر بعين الاعتبار لمناضلين ومناضلات مستقلي/ات القرار وفي البحث عن أسباب هذه الظاهرة يمكن أن نصل إلى إلا أن أهمها على الإطلاق هو عدم استقلالية وسيادية قرار تلك الجهات بعيداً عن الأجندات الخاصة.. والتقيد بشروط منح الميزانيات من حيث الارتباط بالخطط السنوية والأهداف المرحلية أو البعيدة لتلك المنظمات بغض النظر عن الاحتياجات الحقيقية والجوهرية للمجتمع السوري.
- الضعف الشديد بالمشاركة النسائية مما يؤدي إلى ضعف موازي في تحقيق النتائج المرجوة.
- الضعف الملحوظ بمشاركة الشباب السوري بالشأن العام (بسبب احتكار المشاركة من قبل جهة واحدة هي اتحاد الطلبة ومن قبله اتحاد شبيبة الثورة).
- الخلط الواضح بين مفاهيم منظمات مدنية ومنظمات أهلية وجمعيات خيرية حيث قد تكون الأهلية ذات طابع اثني وفي خدمة مصالح فئوية وخاصة جداً على حساب المجتمع الذي تنتمي إليه، وتكون الخيرية مهتمة فقط بتقديم المساعدات على تنوع مسمياتها مع إمكانية حملها لصفات اثنية أو طائفية ثم بعد ذلك يشار إلى الأهلي والخيري على أنه مدني وتلك مفارقة كبيرة.
- المسارعة للانتماء لمنظمات تشبهنا تعصبياً مع قبول امتلاك المنظمة لشخص أو جهة بدل أن تكون للمجتمع بأكمله.
- الانتماء للمنظمة باحتساب الولاء بدلاً عن الأداء حتى عندما يكون انتماء طوعي لا ينجو من العصبية.
- العجز عن التمدد العائد أساساً لقصر النظر والتفرد بالرأي وسوء الأداء أو بالأحرى إلى سوء التخطيط الاستراتيجي لتلبية احتياجات المجتمع السوري.
المجتمع المدني الرافض لأسباب النزاع المسلح هو الاستجابة الصحيحة لحل الأزمة وتحقيق الاستقرار و الأمن الدائم
نحن بحاجة للمجتمع المدني لتحقيق انتقال صحيح نحو مستقبل لائق بوطننا وإذا لم يبن المجتمع المدني السوري على الخصوصية المجتمعية السورية وإمكانات وأماكن تحريك المجتمع وبدعم من المجتمع الأهلي فلن ينجح ولن يحقق أي نتائج تذكر على صعيد الانتقال إلى مرحلة مجتمعية جدديدة تتميز بالوعي والتقبل والمساواة.. فهل يمكننا أن ندفع بهذه القوة الناعمة الهائلة المسماة عمل مدني لتحدي عوامل التفرقة من إيديولوجيات ومصالح ضيقة وأطماع فردية، هل ندفع بها ونسمح لها بالتحرك والعمل المستقل لتقديم العوامل الإنسانية المشتركة الجامعة للأفراد تحت سقف المواطنة وسيادة القانون للظهور بطابع سوري وتجربة سورية تصلح لقديمها أنموذجاً عالمياً؟؟
ولماذا نحتاج إلى دعم المجتمع الأهلي في إطلاق المجتمع المدني السوري فذلك يحتاج بحث خاص..
الأستاذة هدى المصري
هدى المصري إجازة بالآداب والعلوم الإنسانية ودبلوم تأهيل تربوي من جامعة دمشق دبلوم إدارة وتنظيم من جامعة بواتييه. ناشطة مدنية في مجال حقوق المرأة وناشطة مجتمعية مستقلة ، لها مشاركات ومساهمات في عدد من المؤتمرات والفعاليات ، واتبعت العديد من الدورات والبرامج التوعوية ، ساهمت وتساهم في نشر الوعي حول أهمية دور النساء في الحماية وإنهاء الحرب وصناعة السلام وتطور المجتمعات . مما تعمل عليه السيدة هدى إعادة اللحمة المجتمعية بين جميع السوريين، من أجل الدولة المدنية والمواطنة الحقيقة وسيادة القانون . ستتحدث ضمن سلسلة البناء الاقتصادي والتوازن الاجتماعي بما يسمح به الوقت عن العمل المدني .
[mom_video type=”youtube” id=”8tzyvEPKNHU” width=”500″ height=”354″]