حريّة التعبير.. وحريّة الاعتقاد

سمير العيطة

فى بدايات الربيع العربيّ، جرى حوار مع أحد منظّرى السياسات الحديثة للخارجيّة الفرنسيّة. كان هذا الباحث يعرف العربيّة جيدّا وعمل فترات طويلة فى عدّة بلدان عربيّة وخَبِرَ تعقيدات تطوّراتها الاجتماعيّة والسياسيّة. كانت فرنسا فى ظلّ نيكولا ساركوزى قد انقلبت حينها على موقفها المتردّد تجاه انتفاضتى تونس ومصر وانخرطت بقوّة فى الصراع الداخليّ فى ليبيا متحالفةً مع تركيا وقطر، كما بدأت بالانخراط فى النزاع السوريّ مع نفس الحلفاء.
كان لافتا كيف عَمِلَت قطر عبر أحد مراكز أبحاثها على زجّ الإسلام السياسيّ فى المعارضة السوريّة، ليس عبر الإخوان المسلمين فحسب، وإنّما أيضا عبر تنظيمات جهاديّة لـ«ثورةٍ لا يجب لأحد أن يضع شروطا عليها». ولكنّ المفاجأة الأكبر كانت فى إصرار فرنسا «العلمانيّة» مع حليفيها على تشكيل «المجلس الوطنيّ السورى» حول ركيزتين أساسيّتين، إحداهما تنظيم الإخوان المسلمين مع كلّ موروثات أحداث حماة وتدمر. فباتت الخشية الكبرى أن يأخذ جنون السلطة مقابل جنون «معارضة» البلاد إلى كارثة، وهو ما حصل فعلا.
***
فسّر الباحث المنظِّر الموقف الفرنسى على أساس مقولات العلوم الاجتماعيّة، بأنّ تاريخ سوريا شهد فى الخمسينيات هجرةً أولى من الريف إلى المدينة أتت بـ«أقليّات» إلى الحكم عبر المؤسّسة العسكريّة، وأنّها شهدت فى السنوات الأخيرة هجرةً ثانية أكبر خاصّة من ريف السهول والبوادى بالتزامن مع «تسونامى» شبابيّ. وهؤلاء أضحوا أغلبيّة سكّانيّة وانخرطوا فى الإسلام السياسيّ الذى كان مقدّرا له أن يشكّل مستقبلا حتميّا لا بدّ لدولة مثل فرنسا أن تتعامل معه إيجابيّا. ثمّ أضاف الباحث المعنيّ أنّ الإسلام المعتدِل لأبناء المدن وطبقاته الوسطى قد انتهت أيّامه منذ زمنٍ طويل، وأنّ بلادا مثل سوريا تبتعِد من جرّاء ذلك عن أفق طموح قيام دولة «مدنيّة» تؤكِّد على فصل الدولة عن الدين.
تحوّل الحوار بعدها إلى موضوع فرنسا، وكيف أنّ العمّال المهاجرين المغاربة كانوا ركيزةً أساسيّة للنقابات العمّاليّة «اليساريّة» وأنّهم هم الذين أفشلوا «ثورة 1968» الطوباويّة التى أرادت إرساء حلمٍ وجود مرجعيّة من «الثورة الثقافيّة» الصينيّة. لقد منع العمّال المهاجرون المغاربة الطلاب الثائرين من دخول المعامل واحتلالها. كما أنّ أبناء هؤلاء وأحفادهم، الذين باتوا يحملون الجنسيّة الفرنسيّة، تُرِكوا لمصيرٍ بائس فى ضواحي المدن الكبرى بحثا عن «اندماجٍ» فى منظومة فكريّة لا تتماشى مع التطوّرات الاجتماعيّة فى البلد. فاختاروا «الإسلام» هويّةً ممّا هو أعمق بكثير من أهلهم. وأمام انتشار المساجد والرغبة فى تأدية الصلاة، ما كان لوزارة الداخليّة الفرنسيّة إلاّ أن أرسلت الأئمة إلى دول الخليج للتدريب رغم أنّ إرث المغرب الإسلاميّ مختلف جدّا عن إرث دول الخليج.
هكذا قامت قيامة المجتمع والدولة الفرنسيّة عام 1989 عند إصرار ثلاث فتيات من أصولٍ مغربيّة دخول المدرسة الرسميّة بغطاء رأسٍ، وليس ببرقع. حينها برز خلافٌ حادّ فى المجتمع حتّى بين العلمانيين اليساريين، بين من رأى ضرورة إرغامهنّ على خلعه لأنّ العلمانيّة تتعارض مع أيّ رمزٍ دينيّ فى اللباس، وبين من رأى أنّ هذا المنع يتعارض مع حريّة الاعتقاد ويؤجّج التقوقع حول الهويّة الإسلاميّة وإنشاء المدارس المذهبيّة، محوّلا قضيّة اجتماعية فى ضواحٍ فقيرة تنتشر فيها البطالة يُمكن التعامل معها بدراية على المستوى المحليّ دون ضوضاء.. إلى نزاعٍ «طائفيّ» بين المسلمين والعلمانيين.
تفاقمت الأوضاع بعدها، مع محطّات بارزة أخرى، مثلما حين الرجوع فى الدستور الأوروبى إلى الجذور المسيحيّة ــ اليهوديّة ومع صعود اليمين المتطرّف الباحث عن هويّة «سلفيّة» على أسسٍ قوميّة.
هكذا تواصل الحديث مع الباحث المنظِّر بأنّ التحوّلات الاجتماعيّة ــ السياسيّة وارتباطها بقضايا الهويّة تحتوى مخاطر كبيرة لا تخصّ البلدان العربيّة وحدها التى تعيش، وستعيش، فترة اضطرابات طويلة لأسبابٍ ديموغرافيّة واجتماعيّة وسياسيّة، بل أيضا فرنسا والقارة الأوروبيّة وغيرهما.
***
انتهى الحوار هنا، واستكملت فرنسا فى ظلّ فرانسوا هولاند «الاشتراكى» السياسات ذاتها. ونُشِرَت تقارير حينها مفادها أنّها وجدت فى تحوّل سوريا إلى «أرض جهاد» فرصةً للتخلّص من «جهاديّيها» فشجّعت ذهابهم عبر تركيا للقتال هناك. بل ساهمت أيضا فى نقل «جهاديين» من دول المغرب العربيّ إلى سوريا.
ثمّ صنعت مشهديّة عنف «الدولة الإسلاميّة» ما صنعته، ليس فقط فى العراق وسوريا، وإنّما على الصعيد العالميّ بما فى ذلك أوروبا وفرنسا. كلٌّ يتّهم الآخر بمساندتها خفيةً لبسط نفوذه أو لتدمير المنطقة، دون دراية أن مشهديّة «نهاية الزمان» هذه والإجرام المصّور الذى ارتكبته سيكون له تداعيات ستستمرّ طويلا حتىّ بعد إنهاء تواجد «داعش» ككيان دولة وإعادتها فقط إلى مستوى تنظيم إرهابيّ يعيث فسادا فى الأرض. مشهديّة تفوّقت فى آثارها على صور القمع الوحشيّ المشهورة بـ«قيصر»؛ لأنّها ارتبطت بـ«قصاص» المعتقدات الدينيّة.
انهزمت «داعش» الدولة وتغيّرت الأحوال. وتحوّلت سوريا إلى أرض صراع، ذى إيقاع مضبوط دوليّا، لهويّات كرديّة أو إسلاميّة سياسيّة أو شيعيّة ــ سنيّة أو.. «أسديّة». ومع فرنسا فى ظلّ إيمانويل ماكرون انفرط التحالف التركيّ ــ القطريّ ــ الفرنسيّ وتحيّدت فرنسا نوعا ما عن الملفّ السوريّ أمام الانخراط الروسيّ ــ الأمريكيّ الكبير.
إلاّ أنّ فرنسا بقيت تواجه تداعيات ما حصل.. فظهرت إشكاليّة عودة الجهاديّات والجهاديين الفرنسيين وأولادهم من المعتقلات فى سوريا إلى بلادهم. وتعدّدت الاعتداءات الإرهابيّة على الأرض الفرنسيّة متبنيّةً شعارات «داعش». من الواضح أنّ الإسلام السياسيّ أضحى هاجسا للسلطات الفرنسيّة، خاصّةً مع إطلاق رئيسها حملةً ضدّ النزعة «الانفصاليّة» لهذه التوجّهات، مقارنا بينها وبين التوجّهات الانفصاليّة فى كورسيكا وبلاد الباسك وغيرها. وكأنّ هناك رابطا بين هويّة الإسلام السياسيّ الفرنسيّة وأرضٍ معيّنة بعيدة عن ضواحى المدن الكبرى.
***
لقد عاد الوضع الاجتماعيّ للتفجّر بعد قتل إرهابيّ من أصولٍ شيشانيّة لأستاذ مدرسة فى ضاحية هادئة وقطع رأسه فى ذات المشهديّة «الداعشيّة». وانتعشت التشنّجات ضمن المجتمع الفرنسيّ لما هو أبعد من الاستنكار الشديد للعمل الإرهابيّ. فهل كان الأستاذ محقّا فى عرض صورة ساخرة لنبيّ المسلمين عاريا كى يثبِّت لدى شبابٍ قاصرين مبادئ حريّة التعبير وحريّة الاعتقاد، أم لم يكن محقّا فى ذلك؟ وهل كان مجديا طلبه من التلاميذ تحديد من هو مسلم كى يخرج من الصفّ كى لا يُصدَم؟ وهل كان أولياء الطلاب محقّين فى اعتراضهم لدى السلطات المعنيّة حول الأمر؟ وهل تعاملت إدارة المدرسة والسلطات مع مجمل القضيّة بدراية وتعقّل؟
نفّرت هذه الجريمة الشنعاء التلاميذ وأولياءهم من الإرهاب، حتّى لو كان بذريعة دينهم. ولكنّ إشكاليّة المجتمع وهويّاته باقية وكذلك مسئوليّة الدولة «المدنيّة» فى كيفيّة التعامل معه، فى فرنسا كما فى غيرها. إنّ حريّة التعبير وحريّة الاعتقاد تلتقيان فى جوانبٍ كثيرة. إلاّ أنّهما تصطدمان أحيانا. ويكمُن صلب العقلانيّة السياسيّة والاجتماعيّة فى طريقة التعامل مع نواحى الصدام هذه.
رغم كلّ المآخذ، حافظت عقليّة وعقلانيّة مدن المشرق، على تعدديّة فى المعتقد لآلاف السنين تطوّرت تدريجيّا، خاصّة منذ عصر النهضة، للتواءم مع حريّة التعبير. وكان للانبهار بالتطوّر الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذى رافق حريّة التعبير فى «الغرب»، وخاصّة فى فرنسا، دورٌ كبير فى ذلك.
لكنّ يبقى السؤال الأساسى والجوهريّ اليوم هو معرفة إذا ما كانت «الدولة المدنيّة» الراسخة فى فرنسا تدير بعقلانيّة أوجه الصدام بين الحريّتين تبعا لتطورّات المجتمع الفرنسيّ؟

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

عن موقع الشروق

https://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=18102020&id=1e99bf46-ce0b-4bca-b5d4-7568d2be1838

Scroll to Top