الحركة المدنية الديمقراطية السورية .. من أين  وإلى أين؟

الدكتور هيثم مناع

جامعة بير زيت فلسطين

معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان

بدأت الألفية الثالثة في الوعي الجماعي واعدة، وإن كان ذلك في اللا وعي، رغبات أكثر منها معطيات ملموسة، إلا أن الشعور العام السائد، في صفوف العامة والخاصة، أن ثلاثين عاما من الاستبداد والفساد كافية، وأن من حق شعوب هذه البقعة من العالم الإحتفاظ بحصتهم من الحرية والإبداع والإنعتاق، وإحساس جماعي بضرورة تعويض نصف قرن من الطاعة والإهانة والإستسلام والعجز والهزائم..

المنتديات والملتقيات توالدت في الداخل والخارج، تحولت العديد من المضافات المنزلية لسهرات نقاش حول الحاضر والمستقبل، جرى تشكيل لجان إحياء المجتمع المدني وجمعيات حقوقية وثقافية…  

من الواضح في الكتاب الجماعي “حقوق الإنسان والديمقراطية في سورية” الذي أصدرته اللجنة العربية لحقوق الإنسان في 2001، وعي المشاركين في التحرير لأهمية العلاقة بين الديمقراطية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية من جهة، وضرورة الإنتقال السلمي من جهة ثانية. وأخيرا وليس آخرا، غياب وهم التدخل الخارجي إقليميا كان أو دوليا من أجل مشروع ديمقراطي في سوريا. وتمكنا مع ناصر الغزالي ومركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية، رغم كل أشكال الحصار والمعوقات المالية، من إصدار مجلة “مقاربات” التي جمعت في طيات أعدادها مختلف الأقلام والآراء، التي تعرف عليها العالم في مواقع متباينة، حتى لا نقل متصارعة، بعد 2011: أكرم البني، ياسين الحاج صالح، رياض الترك، حسين العودات، أصلان عبد الكريم، جاد الكريم الجباعي، ميشيل كيلو، عبد العزيز الخير، رياض سيف، حسن عبد العظيم، فايز ساره، جمال سليمان، برهان غليون، البيانوني،…. 

ما هو مؤكد، هو أن المقدمات الإيديولوجية الكلاسيكية لليسار قد تكسرت في النظرية والواقع، وأن البحث عن الطريق السوري إلى الديمقراطية أصبح مركز اهتمام مختلف الأطراف. تعبير المجتمع المدني يدخل القاموس السياسي، حقوق الإنسان تستقطب قيادات سياسية ومدنية، تيار ليبرالي اجتماعي في طور اكتشاف الذات، ويسار جديد يربط بين الحقوق المدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مفهومه للديمقراطية. إرهاصات جنينية جديدة جعلت خطاب الحزب الواحد والدولة الأمنية خطابا “رجعيا” هزيلا ينتمي للماضي. كانت جملة هذه المخاضات داخلية التكوين والدينامية. كذلك كان رد الفعل السلطوي عليها.

في اعتقالات صيف 2001، التي كان آخرها اعتقال الدكتور عارف دليلة قبل يومين من جريمة 11 سبتمبر الإرهابية، قررت السلطات الأمنية اغتيال ربيع دمشق في وضح النهار. وعن سابق إصرار وتصميم، جرى ضرب فكرة الإصلاح السياسي أو الحديث عنه. في آخر مواجهة سورية-سورية بين قامع ينتمي لماض مؤلم ومقموع ينتمي لغد غير واضح المعالم.

الشرخ الهادم

في محاضرة له بعنوان “مسار الديمقراطية وآفاقها في سوريا، قبيل اعتقالات 2001، طرح رياض الترك أربعة أنماط ممكنة للتغيير:

“التغيير على أنواع في  السياسة: تغيير عن طريق العنف للإطاحة بالنظام السائد ولم يعد هنالك مقومات للنجاح في مثل هذا التغيير أو حتى استعدادٌ للتضحية أو ميلٌ للمغامرة بالقفز في المجهول أو إمكانات “لوجستية” كما في القرن الماضي.

     وتغيير عن طريق البرلمان في بلد تفرض سلطته نواباً لا يُمثلون الناس فيه، أو له من التقاليد ما لا ينهدم بسهولة.

     وتغيير من قبل الحاكم ذاته، أو كما سمّاه ماركس “ثورة من فوق” حين تكلم عن التغيير في ألمانيا القرن التاسع عشر.

     وتغيير عن طريق “التعاقد”، ما بين سلطة تسلّم بعجزها عن الاستمرار بالحكم على الطريقة ذاتها أمام أزمة مستفحلة تحتاج إلى جهد جماعي، وقوى الشعب الأخرى التي تجتمع على العقد وتتحاور وتبدأ بالتغيير بشكل يتم التوافق عليه”.

 سجل احتلال العراق، أول خرق في أشكال التغيير المبينة أعلاه، أي التغيير من الداخل والمجتمع… المعارضة السورية الجريحة بالإعتقال والملاحقة وقفت أمام أكبر اختبار لها منذ الإستقلال، قلة قليلة وقفت مع فكرة سقوط النظام بالدبابات الغازية، لكن حالة الفزع التي أصابت ما تبقى من “الدولة التسلطية الوطنية” جعلتها أكثر شراسة. وسرّعت بالمعية، تمزق المعارضة السورية بين أغلبية تراهن على الشعب وأقلية أدخلت في قاموسها “التدخل الخارجي” لتخليص هذا الشعب من أنياب حكامه. وقد شكل هذا الشرخ، الذي عشناه في نقاشات داخلية حادة ومؤلمة، شكّل معول الهدم الأول، لاحتمال تشكل قطب ديمقراطي مدني شعبي واسع.

انطلق الحراك الشعبي في درعا. ولم يكن لأي حزب علماني أو إسلامي أي دور فيه. إلا أن هذا التحرك الخلاق لم يلبث أن أصبح واحدا من ثلاثة: الحراك الشعبي من دم ولحم، الحراك الافتراضي الذي هيمن عليه الجيل الثاني من الإخوان المسلمين بمختلف تياراتهم، والصورة التي تقدمها الفضائيات الخليجية للسوريين والعالم. كان أول اعتداء على هذا الحراك من العالمين الإفتراضي والإعلامي في تشويه للصورة وتوجيه للحركة العفوية التلقائية. وقد باشر الإسلام السياسي والجماعات الموالية لحكومة أردوغان مبكرا محاولة الاستيلاء على توجهات وخيارات المستطاع من جمهور خرج من أجل الكرامة والحرية في أشباه مؤتمرات واجتماعات تحت السيطرة، ساعدها في ذلك تحالف اللحظة مع فرنسا ساركوزي وقطر الحمدين. دخل المال والإعلام طرفا في تغيير موازين القوى بين حركة مدنية سلمية، وقوى سياسية اعتبرت التدخل الخارجي والتسلح شرطا أساسيا لنجاح الثورة. وكون المجتمع السوري بمختلف أطرافه غير جاهز لهكذا تحول، كان من الضروري إلباس هذا التوجه أثوابا تقلل من بشاعته: هيئة حماية المدنيين، مواجهة الشبيحة، حماية المتظاهرين… كانت الأجهزة الأمنية قد أطلقت سراح 1400 جهادي من سجن صيدنايا بعفو رئاسي منذ أيار/مايو 2011، ليشكل أحد الخارجين من السجن (حسان عبود) حركة “أحرار الشام”، أول تشكيل جهادي مسلح، قبل الجيش الحر وجبهة النصرة وباقي الفصائل المسلحة.. تبعه في ذلك شريكي السجن، أحمد أبو عيسى الشيخ (صقور الشام) وزهران علوش (لواء الإسلام)، من جهته، أرسل أبو بكر البغدادي المتطوع السوري أحمد حسين الشرع (أبو محمد الجولاني) مع عدد من العراقيين والسوريين لبناء “قاعدة الجهاد في بلاد الشام” في نهاية 2011.

ليس بالإمكان القول أن لغة اللا عنف والنضال المدني السلمي كانت مؤصلة في الخطاب السياسي في المنطقة. رغم دفاعنا المبكر، وبشكل خاص بعد سقوط جدار برلين، عن فكرة المقاومة المدنية باعتبارها السلاح الأهم، لإسقاط الدكتاتوريات في البلدان العربية. لم يكن موضوع البحث يحتاج إلى إحصائيات أو أرقام. فقد كنا نعيش حقبة الانتقال من بيروقراطية الدولة “الاشتراكية” في عديد دول أوربة الشرقية وجمهوريات الإتحاد السوفييتي المتفكك. وكانت حقبة الدكتاتوريات العسكرية قد أثارت قرف أغلبية شعوب بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية. جنوب إفريقيا تحتفل بنهاية نظام الأبارتايد، في حين تعيش مكونات يوغسلافيا الحديثة حروبا أهلية دموية، وكذلك رواندا وعدد من البلدان الإفريقية. وكانت الملاحظة الأولى والأهم في تلك المتابعات، تكمن في تأثير ارتفاع وانخفاض وتيرة العنف على طبيعة التحول في الدولة والمجتمع، وأثر ذلك على عملية البناء الديمقراطي. لم يكن مدفع رمضان قد أعلن نهاية صوم العرب عن الديمقراطية، ورغم موت صورة المستبد في القلوب والعقول، كانت جثة الماضي جاثمة على الحاضر. إلا بعد عام 1996، قررنا كمجموعة حقوقية مدنية/وكتّاب (منصف المرزوقي، محمد حافظ يعقوب، فيوليت داغر، محمد السيد سعيد وهيثم مناع) العمل على تفكيك وإعادة قراءة المفاهيم الأساسية للدولة الحديثة، السيادة، التبعية، التنمية، الشرعية، النهضة، حقوق الأشخاص والشعوب، العلاقة الجدلية بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والمدنية والبيئية، الإصلاح الثقافي والأخلاقي، الاستقلال الثاني، وأخيرا وليس آخرا تعميق مفهوم المقاومة المدنية. ولعل من أولى الخلاصات التي باشرنا الكتابة بها، دور العنف في ترسيخ النظام العالمي والتحكم بعملية التغيير في أي بلد أو منطقة، خاصة في بلدان المحيط التي تحولت لساحة حرب ساخنة وشرسة في وقت صارت “الحرب الباردة” التعبير الأبرز للمواجهة بين قطبي حلف شمال الأطلسي وحلف وارسو. وضرورة العمل على ابتكار كل الأشكال غير العنفية للمقاومة. حيث أن اقتصاد العنف (من اقتصد، بمعنى التوفير والتجنب)، جزء لا يتجزأ من عملية تخفيض فاتورة التغيير، البشرية والمادية، في بلدان المحيط التي تعيش حالة اغتصاب مزدوجة، داخلية وخارجية.

كان موقف مدرسة “اللجنة العربية لحقوق الإنسان” حاسما من قضية العنف. وقد وضعتُ في “عهد الشرف لنشطاء حقوق الإنسان”، فيما يشبه قسم أبو قراط الطبي للمدافعين عن الحقوق الإنسانية الستة مادة أساسية تقول: “أن أوظف طاقاتي من أجل عالم يحترم الحق الأساسي في الحياة وينبذ العنف بكافة أشكاله”(1997). وأكدت أقلام اللجنة العربية على هذا المبدأ في عشرات المقالات والكتب. هل من الضروري التذكير بما كتبه منصف المرزوقي في العنف التكفيري قبيل دخوله قصر قرطاج: “إن حل الحرب الذي يدعو له بن لادن والظواهري لن يؤدي إلا لتواصل اللعنة التاريخية التي تصاحبنا منذ الفتنة الكبرى: التأرجح من الفوضى إلى الاستبداد ومن الاستبداد إلى الفوضى، علما بأنه لا شيء يولّد الاستبداد قدر الفوضى ولا شيء يولد الفوضى قدر الاستبداد. ولأن قدرنا ليس الخيار بين فوضى وفوضى، بين استبداد وآخر، فإن من واجب كل شخص مسئول في هذه الأمة أن يجند ويتجند للإصلاح والمصالحة والصلح… قبل فوات الأوان”(إنها الثورة يا مولاي ص115).

لم يكن الديمقراطيون العلمانيون وحدهم في هذا الميدان، وقد شاطرنا المشروع أقلام إصلاحية إسلامية رائدة، أحدها جاء من الجزيرة العربية تمثل في كتابات الدكتور عبد الله الحامد والحركة الدستورية الإصلاحية في الجزيرة العربية، كذلك وقف جودت سعيد يصرخ من دمشق في آخر أعداد مجلة “مقاربات” قبل ما يعرف بالربيع العربي حيث استبق التاريخ والجغرافيا بالقول “العلم والعقل ينتصران، كما قال باتسلاف هافل، إذا لم يتلوث العلم والعقل باللجوء إلى العضل: وهذه الفكرة ظاهرة وخفية ﻓﻲ آن واحد، والأنبياء كانوا جميعاً يعتبرون اللجوء إلى العنف حتى للدفاع عن النفس شرك لا يغتفر “وإن الشرك لظلم عظيم”. والدفاع عن النفس مشكلة غامضة، لهذا فإن الإخوان الذين لجئوا إلى العنف فسروه أنه كان دفاعاً عن النفس. وصعب علينا أن نفهم أننا إذا دافعنا عن أنفسنا نكون أعطينا القيادة للعنف، لهذا قال ابن آدم لأخيه: “لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلنك”، فلسفة الإنسان كله ﻓﻲ هذا الموقف، والأنبياء جميعاً. يقول القرآن أنهم قالوا لنصبرن على ما آذيتمونا، فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين… من هنا قلت أن الحرب ماتت ولا يمارسها إلا الجهلة والخبثاء الذين يستغلون جهل الجاهلين”. ومن الإجحاف في هذا الميدان أن لا نتذكر موقف الدكتور محمد عمار، المؤسس والقيادي في هيئة التنسيق الوطنية، في العلاقة بين العنف والسياسة في نفس المقام في 2010 حين قال: ” كل من يؤمن أن الحكم يمكن صناعته بالقوة لم يشم رائحة السياسة ولن يشمها أيضا، وعندما تصل بالعسكر إلى الحكم، لن تستطيع الاحتفاظ بالحكم من غير العسكر، وعندها ستصبح أسيرهم وأسير قوتهم، فالحراب كما يقول توينبي “لا تصلح أن نجلس عليها”. وهذه الحالة ليست سياسة بل إلغاء للسياسة وتكريس لغيابها لمصلحة العنف. مصطلح سياسة ﻓﻲ اللغة مصطلح فني أقرب إلى الجهد العقلي منه إلى الجهد العضلي. لكننا إلى الآن لم نتمكن من صناعة مناخ عقلي يسمح لنا بالمراجعة وإعادة النظر، والتطلع إلى آفاق جديدة ﻓﻲ العمل. ما زلنا مسكونين بآلام الماضي وأثمان العنف الذي لم تكن السلطة المتورط الوحيد فيها، وإن تكن قد مارست أسوأه واستغلت الأوضاع لتبطش بالجميع، لكن علينا أن نعترف بأننا لم نتمكن من صناعة مناخ نظيف ينتج السياسة ويقصي العنف والعسكر”. هذه الروح نسمعها في نيسان/أبريل 2011 في كلمة الشيخ معاذ الخطيب في عزاء معضمية الشام: “عندما تخرج الناس تطالب بحقوقها المشروعة تقول: “سلمية، سلمية، وهذا الأمر أيها الأخوة هو وصيتنا إلى الجميع، رجوعا إلى كتاب الله إذ يعلمنا: “لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك”… لماذا؟ إني أخاف الله رب العالمين”…”. وقد استمرت هذه الأصوات قوية في وجه أصحاب الحنين إلى العنف، ففي 30 تموز/يوليو 2011، أصدر جودت السعيد ومعاذ الخطيب وخالد طيفور وخليل الأسمر وسعيد سلام وسليمان الزبيبي إلخ، بيانا أكد على حرمة الدماء والأموال والأعراض وتحريم الإقتتال الداخلي والتأكيد على سلمية الحراك الشعبي وتحريم القتل مهما كانت أسبابه، احترام الجيش السوري وعدم إدخاله طرفا في الأزمة بل اعتباره ضمانة لحلها بشكل سلمي، تأكيد وحدة التراب السوري ووحدة الشعب السوري ورفض الطائفية بكل أشكالها، واعتبار حقوق الإنسان مقدسة. في هذا الوقت، تبنى أهم القوى السياسية والمدنية في الداخل السوري (18 حزبا سياسيا ومنظمات حقوقية وشخصيات وطنية وجماعات شبابية اللاءات الثلاث(لا للعنف، لا للطائفية ولا للتدخل الخارجي) في مؤتمر حلبون كذلك “عهد الكرامة والحقوق” الذي قام بصياغته عبد العزيز الخير وسمير عيطة وبطرس حلاق وهيثم مناع.

إلا أن تعامل قطاع من الوطنيين والديمقراطيين باستخفاف، إن لم نقل بغباء، مع قضيتي التسلح والتدخل الخارجي، وتحولهم إلى أبواق مطالبة بالسلاح النوعي والكوريدور “الإنساني” ومناطق عزل جوية وقصف معسكرات الجيش إلخ.. قصم ظهير الحركة المدنية الديمقراطية.

لقد أدركنا مبكرا خطورة هذا الانزلاق. من هنا توجهنا المبكر للجامعة العربية بنينا كل جسور الحوار الممكنة لتقريب أطراف المعارضة السياسية في الداخل والخارج. وقد حققنا بعد 38 يوما من الحوار مع المجلس الوطني السوري نصرا كبيرا لقيم انطلاقة الثورة وبرنامجها الأساس في اتفاق لم يكن مثاليا، ولكنه ثبت نقاط الارتكاز الجامعة لفكرة الدفاع عن الوطن والمواطنة ورفض التدخل الخارجي ونبذ الطائفية واعتبار المقاومة المدنية السبيل الأرقى للوصول إلى الانتقال السلمي للديمقراطية. عند هذا المنعطف الهام، برز دور الخارج المتضخم والمؤثر، الداعم للإسلاميين، والذي لم يسمح لهذا الاتفاق بالعيش أكثر من 12 ساعة. بل أكثر من ذلك، نجح في تعبئة الغوغاء ضده ليتحول إلى جذام يتهرب منه القاصي والداني. بعد ذلك، لم يعد من الغريب أن يعهد “أصدقاء الشعب السوري” للمجلس الوطني السوري “بتمثيل الشعب والثورة” السياسي، مع وعود بالكوريدور الإنساني حينا، ومناطق العزل الجوي والمناطق الآمنة أحيانا أخرى. بدأت عملية تعويم العسكرة والجيش الحر و”المقاومة المسلحة” (الاسم الحركي الأول لتمرير مساعدات الفصائل الجهادية) على قدم وساق، بحيث صار من الصعب على أي طرف سياسي سوري بإمكانياته الذاتية، أن يستجيب لمتطلبات الولوج في حرب تهمّش الثورة السلمية وتبعد بالضرورة الكتل البشرية الواسعة عنها.

دخل برهان غليون الجوقة صراحة: “نحن نعبر عن طلبات الشعب السوري ودعونا أكثر من مرة إلى ضرورة تسليح الجيش الحر، ونتمنى أن يتبنى مؤتمر أصدقاء سورية هذا الطلب. يجب تغيير ميزان القوى، وهذا يحتاج إلى تفاهمات مع الدول، خصوصاً القريبة منا لتأمين الوسائل التي تغير ميزان القوى” (31/03/2012). وتحول من تبقى من “إعلان دمشق” من الرياضين (رياض الترك ورياض سيف)، إلى معسكر العسكرة والمذهبة والتدخل الخارجي بشكل واضح، بل وصل الأمر عند جورج صبرا للقول: “لقد دافعنا عن جبهة النصرة أكثر مما دافعت عن نفسها”.

لا بد من التذكير بحقبة التحالف الإخواني-الجهادي السلفي والتي بدأت علنية في 7 نيسان/أبريل 2012 ببيان سلفي إخواني وقعه 107 شخصية من التيارين فيهم القرضاوي والقرني والغنوشي والعودة، ثم بيان حركة الإخوان المسلمين في سوريا في 10 حزيران/يونيو 2013 “توجه دعوتها إلى كل من يؤمن بالله ربا، وبمحمدٍ نبيّا، وبسلف الأمة الصالح نهجا.. إلى الوقوف صفاً واحداً للدفاع عن حمى العقيدة وحياض الوطن” وأن “على كل مسلم على الجغرافيا الإسلامية، أن يحدِّدَ موقفَه ورايتَه: فإما أن يكون تحت راية الحق والعدل والخير، أو تحت راية الباطل والظلم والشر”. وقد وصلت الرسالة  لذروتها في ستاد القاهرة في 15 يونيو/حزيران 2013 وإعلان 500 “عالم” إخواني وجهادي سلفي الجهاد في سوريا بحضور الرئيس محمد مرسي العياط.

كم انتظرنا في هذه الحقبة موقفا جريئا لما تبقى من إعلان دمشق وبعض الشخصيات العلمانية يرفض تأميم ما يجري في سوريا من قبل الإسلاميين والنتائج الكارثية المترتبة على ذلك… ولكن لقد اسمعت إذ ناديت حيا…

في حين قام “اصدقاء الشعب السوري” بمحاصرة كل المنتقدين لمشروعهم، واتخذ الاتحاد الأوربي قرارا بعدم التواصل مع أي طرف مدني أو سياسي خارج خيمة من نصبه ممثلا للشعب والثورة والمعارضة، في وقت  تكفلت السلطات الأمنية في دمشق بتصفية أو اعتقال من استطاعت من قيادات النضال المدني الديمقراطي (معن العودات، جهاد شلهوب، عدنان وهبة، عبد العزيز الخير، إياس عياش، رجاء الناصر، ماهر الطحان والقائمة طويلة).

كانت قناعتنا الراسخة بأن العنف وحده، يسمح للأكثر تخلفا وانحطاطا ودناءة بإعادة ترتيب الأمور بشكل أسوأ. لذا كان من الضروري دفع الضحية إلى العنف الأعمى لتعيد إنتاج “أخلاق” جلادها. في هذا المجتمع المشهدي المخضب بالدم، الذي أعطت فيه السلطة الدكتاتورية أسوأ ما عندها، شاركت نظيراتها الإقليمية في القمع والتسلط، في جعل البدائل الأكثر تطرفا وحدها القادرة على الاستمرار في الصراع العبثي مع الحياة نفسها. فكلما ازداد الخطاب تطرفا، كلما تعززت جبهة كل من وضعتهم المنظومة السائدة خارج تعريف الإنسانية، ليعودوا في ثوب أمراء حرب وقوادي جهاد. في حالة كهذه، الإنسحاب من ساحة القتال باللجوء والهجرة يشكل ضرورة بشرية لممارسة حق الحياة ورفض الإنغماس في خيارات مظلمة، ويعود أمن الدولة وسلطة الأمن عند الواقعين بين المطرقة والسندان، ضرورة للاستمرار في البقاء لعاشقي الأرض والأزقة والأقحوان الدمشقي وأهل البلد.

يملك التطرف قدرة غير محدودة للقضاء على الذات والآخر، وهذه القدرة هي نفسها التي تشكل قوة استعادة لكل تعبيرات التعسف والقمع التي كانت سببا في نشأته.

لقد صمد المجتمع السوري في وجه التوحش السلطوي المنتج بالضرورة لكل تعبيرات الفعل العنفية من الكلامية إلى المسلحة. بل وكذّب قانون نيوتن القائل بأن لكل فعل رد فعل مساو له بالقوة ومعاكس له في الاتجاه. مع إصرار شعبي على القيم العليا للثورة التي ترفض الثأر وتطالب بالعدالة القضائية والاجتماعية وتعتبر المساواة بين السوريين على اختلاف مناهجهم وفرقهم ومللهم ونحلهم أساس جمهورية المواطنة. لكن نزف الجراح اتسع ودور الخارج والإعلام تَضخّم، وتحولت القضية السورية يوما بعد يوم، إلى استراتيجيات سلطة ونفوذ إقليمي ودولي. وليس بعيدا عن كل هذا المال السياسي والتوظيف الإعلامي وتجارة البؤس التي مارستها أطراف تعيش خارج البلد، أحيانا منذ ثلاثة عقود، جعلتها ترى الدولة كلها سلطة والجيش كله عصابة أو طائفة. وترى فيما يحدث فرصة الثأر والانتقام لهزائم لم يرها الجيل الثائر ولا تشكل مرجعية له. بل وفرصة للحركات التكفيرية غير السورية التي وجدت في سورية أرضا للجهاد ضد “الرافضة والنصيرية والمجوس”. هذا العنصر الخارجي الذي اختزل صوت الثورة في شعارات الثورة المضادة وحول واجهتها السياسية المقبولة غربيا وخليجيا إلى رواد لفنادق النجوم الخمسة ومؤتمرات وأروقة شبكات سياسية-مالية-إعلامية ومزرعة فساد…

لقد قدمت السلطة السياسية في الأشهر الستة الأولى للحركة الشعبية المدنية أسوأ ما عندها. وحققت في سياستها القمعية العنيفة عملية الانتقال في المجتمع من المواجهة السلمية لعنف السلطة إلى السقوط في مستنقع التسلط السلطوي نفسه. أي الانتقال إلى الأرض التي تتقن الدكتاتورية عليها المواجهة. ويمكن القول أن شهر رمضان  في آب 2011 كان شهر الانتقال من الحراك الذاتي إلى الحراك المتأثر بالعالمين الإعلامي والافتراضي الخارجي، ومن عالم السير على وتيرة الحركة الاجتماعية إلى عوالم السير على وتيرة التعبئة الخارجية. وقد تصاعدت بعلاقة جدلية نداءات التدخل الخارجي وتطييف الصراع وعسكرته في وجه لاءات الثورة السلمية الرافضة لهذا الثلاثي..

لا بد من التذكير بحقبة التحالف الإخواني-الجهادي السلفي والتي بدأت علنية في 7 نيسان/أبريل 2012 ببيان سلفي إخواني وقعه 107 شخصية من التيارين فيهم القرضاوي والقرني والغنوشي والعودة، ثم بيان حركة الإخوان المسلمين في سوريا في 10 حزيران/يونيو 2013 “توجه دعوتها إلى كل من يؤمن بالله ربا، وبمحمدٍ نبيّا، وبسلف الأمة الصالح نهجا.. إلى الوقوف صفاً واحداً للدفاع عن حمى العقيدة وحياض الوطن” وأن “على كل مسلم على الجغرافيا الإسلامية، أن يحدِّدَ موقفَه ورايتَه: فإما أن يكون تحت راية الحق والعدل والخير، أو تحت راية الباطل والظلم والشر“. وقد وصلت الرسالة  لذروتها في ستاد القاهرة في 15 يونيو/حزيران 2013 وإعلان 500 “عالم” إخواني وجهادي سلفي الجهاد في سوريا بحضور الرئيس محمد مرسي العياط.

كم انتظرنا في هذه الحقبة موقفا جريئا لما تبقى من إعلان دمشق وبعض الشخصيات العلمانية والمنظمات غير الحكومية الممولة غربيا، شبه موقف يرفض تأميم ما يجري في سوريا من قبل الإسلاميين، وتحويل البلاد إلى ساحة جهاد عالمية مفتوحة، مع كل النتائج الكارثية المترتبة على ذلك… ولكن لقد اسمعت إذ ناديت حيا…

في لحظات التحول هذه، سارت السلطة على نهج القرارات الأحادية الجانب لما أسمته بالإصلاح. فحاورت نفسها في صياغة دستور جديد. وعادت حليمة لعاداتها القديمة فيما أسمته انتخابات”ها”. وأصدرت عددا من المراسيم والقرارات التي لم تنفذ منها، على هزالتها وعقمها، شيئا يذكر.

لا يمكن وصف ما حدث بأمانة دون الخوض بصدق وعمق في كلمات ومصطلحات مثل فرق الموت أو الشبيحة، وظيفة الميليشيات وطبيعة التسلح غير الحكومي في سورية، تغييب المشكلات الأساسية التي أنجبت الثورة كالتهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وتصحر المشروع السياسي للسلطة والاغتيال المنهجي لفرص النضوج المدني السياسي المجتمعي القادر على مواجهة أخطبوط الاستبداد-الفساد في البلاد والأشكال الجديدة للفساد التي ولدت مع التسلح والمال السياسي والتبعية… مواجهة السلطة والإسلاميين لكل إمكانيات الطريق السلمية المحلية من الاعتصام والإضراب العام، إلى العصيان المدني العام القادر على شلّ وسائل الدفاع الأمنية العسكرية للسلطة الدكتاتورية عند القوى المدنية في الداخل.

لقد سقط العديد من الشعبويين، من صبرا قطنا لصبرا الجولان، ومن قدماء اليساريين لمخاتير الإخوان، في وهم “الجهادي السوري والمستورد جميل مهما فعل“، فلم يعملوا على إعادة البوصلة الثورية لمكانها والتأكيد على أهداف رئيسية ومهمات غير منجزة عوضا عن تمزيق الجبهة الداخلية للثوار. كذلك جرى الاستخفاف بوسائل حماية السلم الأهلي في الأوضاع الثورية وكأن لدى السوريين كروموزومات مضادة للصراعات الأهلية المسلحة. وقد تعززت عند أوساط سياسية ليبرالية ودينية في الخارج حالة عدمية وطنية (خاصة في التفاوض على الجولان والتدخل العسكري الخارجي) فقدمت للرأي العام العربي صورة جد سلبية عن المعارضة التي لا تميز بين الاستقلال والتبعية في القرار السياسي. وزاد الخطاب الداعي لدعم العسكرة والتدخل الخارجي العسكري في إضعاف وعي وقدرة الثوار على فك الارتباط مع آليات قتل الثورة. ولا شك بأن المسؤولية تشمل القيادة السياسية والقيادة “السيادية” في السلطة والمعارضة. الغموض السائد المتعمد حول معنى ومبنى الحماية الدولية، قراءة أشكال الكوريدور الإنساني المعروفة بشكل مراهق، سهولة التعامل في بروباغندا المعارضة مع الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة وتبعاته، تجميل وزخرفة تدخل “الناتو” في الكوسوفو وليبيا في طمس متعمد لتدخلاته منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي. وأخيرا وليس آخرا، الوضع المأساوي لضحايا القمع والتوحش الأمني-العسكري الذي جعل الكثير منهم خدم وأسرى للأطراف التي تساعدهم على البقاء على قيد التسلح.

يمكن الإضافة أيضا، أن أنصار المعارضة المسلحة في فشلهم الذريع في: 1- جعل السياسي قائدا للعسكري 2- تحرير فصائلهم من أحادية المذهب 3- توحيد الرؤية والعمل والاستراتيجيات. قدموا المثل الأسوأ لمن يظن بأن العنف وسيلة خلاص.

لم يكن الخوف المركزي على الصورة الذاتية، تنظيمية أو شخصية، حاضرا بقدر ما كان الخوف من عملية التهديم المنهجي، بوعي أو بغير وعي، للأخلاق الثورية والقيم الكبيرة التي تحملها الثورة يتصدر كل منعطف. لقد ترسخت لدينا القناعة مبكرا بأن من الضروري توضيح التخوم بين المشروع المدني الديمقراطي السلمي وأي شكل من أشكال الصراع المسلح والتعبئة الطائفية والتبعية السياسية والمالية والعسكرية. لذا لم ولن نتوقف عن الحديث في مخاطر إلغاء الفروق بين الثورة السلمية والحرب، بين وسائل وخطاب الثوار والسلطة، بين الانتماء لمستقبل سورية الديمقراطي وحمل إرث الحقبة التسلطية.. فما أسهل أن تتحول الثورة إلى حرب داخلية وحرب إقليمية تعني إعطاء السلطة الأمنية، التي أوغلت في جرائم ضد الإنسانية، بالون أكسجين يطيل عمرها، وتعيد انتساب ثلاثية “المدينة والأقليات والمدنية” للحراك الثوري إلى المربع الأول. كان الديمقراطيون يعيشون تحت مطرقة “إضعاف الشعور القومي” في محاكمات السلطة الصورية، فأتانا سندان “إضعاف الشعور الثوري” في كل مرة ننطق فيها برأي أو نقد أو نتحدث فيها عن نقاط القوة والضعف في مناهضة الدكتاتورية بالوسائل المسلحة.

لا يوجد في التاريخ المعاصر حالة واحدة لاستشراس العنف أعطت نظاما ديمقراطيا.. وليس لدينا حالة واحدة لانتصار عسكري في أوضاع مشابهة لم تحمل فيروسات التطيف والتطرف والانتقام والاستئصال والثأر. لقد حذرنا ومازلنا نحذر من تداعيات العنف على التماسك الاجتماعي والسلم الأهلي والوحدة السورية. فمن الواضح للعيان أن مشروع العنف السياسي لا يشكل تعبيرا عن حالة طبقية أو مطالب قومية أو طموحات ديمقراطية. العنف السياسي في سورية كان دفعا مدروسا ومتعمدا للحراك الاجتماعي نحو المذهبية والطائفية والتطرف باعتبارها الحاضن الأول للموت والقتل والثأر.

لا يمكن للكراهية أن تترجم في عنف أعمى دون خلق حالة تعبئة عاطفية وانفعالية تستغل حالة الاستلاب الذهني التي تخرج صاحبها من القدرة على المحاكمة العقلية. وفي التجربة السورية شارك الإخوان المسلمون والقرضاوي ومدرسته والدعاة السلفيين والسلفية الجهادية في خلق هذه الحالة التي استنفرت، في ثلاثة أعوام، أضعاف ما استنفرت القضية الأفغانية من مقاتلين أجانب. وكون كل استنفار في اتجاه يفتح الباب لتعبئة مقابلة، انبعث أحفاد “أبو الفضل العباس” مدافعين عن العتبات المقدسة، وجاء من فاتهم “شرف الشهادة” في ديارهم أو في مواجهة الإسرائيلي يستدركون الأمر في بلاد الشام.

حاولنا بعد اجتماع الدوحة الذي توج “الائتلاف” ممثلا “للثورة والشعب والمعارضة”، إطلاق صرخة احتجاج، على إعادة استهلاك المادة الثامنة من دستور حافظ الأسد بشكل مسخ. دعينا لمؤتمر وطني في جنيف “من أجل سوريا ديمقراطية ودولة مدنية“، رضخت السلطات السويسرية للضغوط الفرنسية ورفضت إعطاء الفيزا لأكثر من 67 مشاركا ومشاركة (22 منهم أمناء عامين لأحزاب ديمقراطية ومنظمات مدنية غير حكومية)، وأعلن لوران فابوس، وزير الحارجية الفرنسي، عن مؤتمر مواز في باريس، وفي لحظة افتتاحي المؤتمر في جنيف بحضور 270 مشاركا، صباح 28/01/2013، كان فابوس يتحدث في مؤتمر صحفي، محاطا بستة من جاموقة الائتلاف، ليؤكد أن فرنسا لا تعرف ولا تعترف إلا بممثل واحد للمعارضة، قبل أن يتركهم آخذا الطائرة لمهمة أخرى.

ما من شك، أن كل من شارك في جريمة التطبيع مع التدخل الخارجي، يتحمل مع السلطات السورية مسؤولية استدعاء مقاتلين غير سوريين إلى الأراضي السورية، وضرب الحركة المدنية الديمقراطية وتحطيم البلاد والعباد.

 

تنتحر الحركات السياسية أو تنحر، لكن الشعوب لا تنتحر. من أجل هذا، وبعد أن “تهاوش” المتدخلون، وتوازعوا مناطق نفوذهم، عاود التيار المدني الديمقراطي جمع مكوناته. فهو الوحيد الموجود على كامل الأراضي السورية، والمستقطب لكل مكونات المجتمع، لم تتلوث أيديه بدماء السوريين أو أموالهم وأعراضهم، وبدونه، يصعب الحديث عن مشروع وطني يضمن وحدة سوريا وسيادتها في ظل دولة دستورية ديمقراطية..

لذا ورغم كل الضربات التي تلقاها، هو الوحيد المنتشر من جنوبي سوريا والساحل إلى إدلب وشرقي الفرات، ومن معسكرات اللجوء إلى بلدان الشتات السوري.

ها نحن نشهد محاولات “نقد ذاتي خجول” هنا وهناك، وتفتت في جبهة غير الإسلاميين الذين غطوا لسنوات عوراتهم، من حدثنا في الصفر الاستعماري عاد للحديث عن ضرورة قيام “حركة تحرر وطني ضد قوات الاحتلال على اختلافها” ومن دافع عن “الجهاد التحرري” اقتنع أخيرا، وهو يرى مجاهديه “مرتزقة تحت الطلب” في ليبيا، أنه قد ذهب بعيدا عن جملة طموحات مجتمع متعطش للكرامة والحرية

 رغم كل المضايقات وحملات القمع وحملات التشويه وكل الديماغوجيات الثورجية، يقف التيار المدني الديمقراطي اليوم، باعتباره قوة الاستقطاب الأهم داخل وخارج البلاد، مع تراجع وانهيار البنيات التي نصبت من فوق، وعملت المستطاع لتهميش إرادة المدافعين عن الكرامة والحرية. التعبيرات النقابية والمدنية المستقلة تنظم نفسها بنفسها، تتشكل اللجان الوطنية والمدنية في مختلف المحافظات، ويسعى الديمقراطيون الوطنيون السوريون، رغم قتامة الصورة العامة، وما وقع من تدمير للإنسان والبنيات التحتية، لبناء قوة وطنية جامعة في مؤتمر وطني سوري لاستعادة السيادة والقرار، أملنا أن يدشن نهاية حقبة، وفسحة أمل… 

  • أحد الذين شاركوا في جملة المؤسسات التي أوصلتنا إلى المآل الحالي، كتب مؤخرا “براءة ذمة” مما جرى، متابعا دوره في الهيئة السياسية للإئتلاف في ازدواجية تثير الشفقة:

“لقد حملت العَسكرة تحولًا في أهداف الثورة وطبيعتها، بداية من إضعاف السياسي لصالح العسكري، وإنهاء الجانب الشعبي، السلمي واستبداله بالقتال والرهان عليه، وصولًا إلى إزاحة فصائل الجيش الحر بتنوعها، وتسويد القوى الإسلامية براياتها المختلفة التي اعتبرت الديمقراطية كفرًا فحذفتها من الرايات والخطابات، ومارست بديلًا ظلاميًا، مقننًا بطبيعة المدارس الفقهية واختلافاتها، حتى جماعة الإخوان المسلمين لم تتقدّم كثيرًا في خطها، ولم تنجح في تجسيد أسس وثيقة العهد التي أقرتها، وكأنها استكانت لتلك التطورات الإسلاموية، أو وجدت فيها تناغمًا مع أصولها، ومعتقداتها الأساسية، وبما ينسجم وتركيب معظم أعضائها، وأدّى هذا التحول إلى تشويه صورة الثورة لدى قطاعات واسعة من حواضنها الشعبية التي راحت تنفضّ عنها، أو تصاب باليأس، وتجلى ذلك في عدد من الفئات الاجتماعية التي لم تقتصر على “الأقليات الدينية والمذهبية” فقط، بل في عموم القطاعات، خاصة في المدن، كذلك الأمر على صعيد التأييد الشعبي العربي لها، والرأي العالمي الذي منحها التأييد أشهرها الأولى، بل إن الأطراف الدولية التي اصطفّت مع الثورة، وشكّلت ما يعرف بأصدقاء الشعب السوري، راح كثير منها يوظّف تحولات الثورة، وأسلمتها إلى سبب لمواقف سلبية، وذريعة لإيقاف الدعم متعدد الأشكال.” (عقاب يحيي، معوقات عودة الديمقراطية إلى الثورة، 19 أيار/مايو 2018)…

ألا يدرك كاتب هذه الأسطر أن مجرد بقائه حتى اليوم، في الهياكل التي أوصلتنا إلى هذا الوضع، يفقد نقده الذاتي أي معنى أو مبنى؟

جامعة بير زيت

معهد مواطن للديمقراطية وحقوق الإنسان

Scroll to Top