مقابلة الدكتور هيثم مناع مع موقع المرصد السوري لحقوق الإنسان
أجرت المقابلة: الصحفية التونسية زهور المشرقي
- سوريا اليوم على مفترق طرق، وأغلبية الآراء تذهب إلى أن الواقع لم يعد يحتمل بقاء النزاع السوري على حاله، كيف تقرؤون الوضع الحالي في سوريا؟
- بعد تسع سنوات من النزاعات المسلحة، جرى وضع السوريين في وسط دوار، تتقاسم دول التدخل والنفوذ كل المخارج حوله. وكون مستقبل الشعب السوري هو الهم الأخير لهذه الدول، فهي تجمع على مسألة واحدة: تهميش وضرب كل من يتحدث عن انتقال ديمقراطي أو سورية موحدة ذات سيادة، عن سابق إصرار وتصميم. التوافقات التركية الروسية يدفع ثمنها المواطن الحالم بحياة آمنة، وكلا الدولتين يغض النظر في توافقاته مع الآخر على المادة الثامنة من مواد القرار 2254 المتعلقة بالقضاء على هتش والقاعدة ومن يتبعهما. هذا ينصب فصائل “أبوعمشة” على رقاب الناس، وذاك يغض الطرف عن الفصائل التابعة للحرس الإيراني في حدود وقف إطلاق النار المقابلة. أما أحوال أكثر من مليون نازح وهجرة 40 بالمئة من سكان سوريا فليست على طاولة البحث. من يستطيع اليوم أن يتحدث عن “الجيش الحر” والفصائل تعمل تحت أوامر الأمن العسكري التركي.. وأكثر من 400 مقاتل منهم اندهسوا في الأراضي الليبية حيث أرسلوا مرتزقة؟
في طرف النظام، ورغم أن طنجرة البخار يمكن أن تنفجر في أي لحظة، ما زال الهم الرئيسي لأجهزة الأمن اعتقال من يمكن اعتقاله من المواطنين، والممارسات الحاقدة بحق شعب. الهم الرئيسي لأمراء أموال الحرب تأمين مكان لسرقاتهم. المواطن لا يجد ما يأكل والمريض لا يملك ثمن الدواء.. الناس تفتش عن طعامها في القمامة، والحلقة الضيقة تتمتع بأوضاع لا يعيشها أغنى الأغنياء في الغرب. “صمود وتصدي”، الله أكبر لماذا يدفع الشعب وحده فاتورة أسطورة الصمود والتصدي؟ الشبيبة الثائرة في حوران سهلا وجبلا لم تعد تقبل هذا الضيم، وصورة المظاهرات السلمية في جاسم ودرعا ونوى في 2011 تعود بقوة اليوم إلى درعا وطفس والسويداء…
في شرقي الفرات تتكرر التراجيديا مع قسد، المتمسكة بسلطة أمر واقع ولو زحلت هذه السلطة من عفرين إلى مدن وقرى غير كردية. ومن مهازل الأيام أن تستجدي ابنة قنديل بالأمس رونالد ترامب إبقاء القوات الأمريكية في سوريا وأن يستقبل عبدي “المظلوم” برنار هنري ليفي؟
المصيبة أن جميع من اختار العنف ومارسه يتحدث عن انتصارات، من قصر بشار الأسد إلى سليم إدريس ومن عبدة الائتلاف إلى قيادة قنديل؟ … لا أحد يريد أن يقول بأن مشروعه قد هزم وشبع وحلا وتعفنا ووسخا. عندما لا يعي أطراف الصراع هزيمتهم، لا يمكن لهم أن يبصروا سبلا لانطلاقة جديدة. وسيتابعون شرب المياه الآسنة في المستنقع الذي يركنون إليه.
- في 2011، قلت أن نظام الأسد قد مات في القلوب وفي العقول، من أين ستأتي النجدة للخلاص منه؟
- يعيشك، أختي التونسية، نحن ما خرب بلادنا هو ما سمي “النجدة”، وسقطات بعض السياسيين عندما تحدثوا في الصفر الاستعماري وطبعّوا مع فكرة التدخل الخارجي والقابلية للاستعمار.. في يوم افتتاح مؤتمر ما سمي أصدقاء الشعب السوري في بلدك تونس، كنت في قصر قرطاج عند منصف المرزوقي. وقال لي منصف: تعال وأعطيك وقتي في الحديث للتكلم في اللاءات الثلاث (لا للطائفية، لا للعنف، لا للتدخل الخارجي). قلت له : مجرد دخلت الصالة أنا دخلت في اللعبة، دخلت في محور ضد محور. أي قبلت بأن ينتقل الملف السوري من صراع ضد الدكتاتورية إلى صراع على سوريا.. بعد ساعتين من النقاش وضع لي أحد العاملين في قرطاج وجبة غداء لوحدي وذهب منصف لوحده. من مضحكات الأيام أنه في اليوم الذي أجرى حمد بن جاسم مقابلة قال فيها “تهاوشنا على الصيدة” كان في سوريا أربع جبهات قتال. كلنا يرى ماذا فعلت “النجدة” الأمريكية البريطانية في العراق بعد 17 عاما؟ في 2012 قلت على البي بي سي: اللي بدو يجاهد يجاهد في بيت أبوه، وأضفت إذا جاء ألف من الشاشان سيأتي ألفين من لبنان.. معظم ما يسمى “قوى الثورة والمعارضة” اعتبرني خائنا للثورة وعميلا للنظام. اليوم يرى الناس ثمن التدخل الخارجي، وثمن فتح أردوغان حدوده لأكثر من 120 ألف جهادي تكفيري، وثمن فتح الأسد البلاد للميليشيات الموالية لإيران (من لبنان إلى أفغانستان). عدنا اليوم إلى مرحلة التحرر الوطني.. لذا صرنا نقرأ ما فعل سلطان باشا الأطرش لإجهاض مشروع الدويلات الطائفية في سوريا وكيف شكل الوطنيون كتلة نجحت في انتخابات 1928 وكيف قامت الحركة الشعبية في جبل العرب بإلغاء ما سمته فرنسا “الاستقلال المالي والإداري لجبل الدروز” ونطالب كل الوطنيين بإلغاء حكومات الأمر الواقع في إدلب والقامشلي والتي لا تختلف عن المشروع الفرنسي قبل 90 عاما.
لو سمح للحراك السلمي الشعبي بالاستمرار دون تدخل خارجي مسلح، لما كنا اليوم في هذا الحال. واليوم ورغم كل المآسي السورية أقول: الحل إما أن يكون سوريا وفق القرارات الدولية المعروفة حتى لبائع الخضرة، أو لن يكون.
- في خضم الحرب المستمرة منذ عشر سنوات، هل توجد استراتيجية دولية للسلام في سوريا برأيك؟ وهل يرضي أي حل الشعب السوري، المعني الأول بمصيره؟
- للأسف، أقول في هذه اللحظة لا، ولكن حتى لا أزرع التشاؤم استدرك، سيصل مختلف الأطراف بالضرورة والمصلحة، إلى هكذا حل كهذا في أمد غير بعيد. لكن على أطراف الصراع السورية أن تدرك أن الحل السياسي لا يمكن أن يحدث دون تنازلات جراحية ومؤلمة. عندما يقول الجعفري، وهو على فكرة أدهى بكثير من قيادات المعارضة “الرسمية”: “لن يأخذوا في المفاوضات ما لم ينجحوا في الحصول عليه في المعارك”، فهو يلغي فكرة التفاوض من أساسها. التفاوض كما ندرّس في المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان باختصار: يجري التفاوض بين مكان يمكن تسميته ألف ومكان اسمه باء. ولا ينجح إلا بانتقال الطرفين إلى موقع جديد اسمه جيم. غباء آخر يصل إلى حد الجريمة، قناعة صناع القرار في دمشق أن الوقت لصالحهم. إن أي إطالة للعملية التفاوضية هي عملية اغتيال بطيئة لها. “تجمع المصالح الأمني العسكري” الحاكم لم يكن يملك من مفهوم النظام شيئا قبل 2011، وكان المنتج الأكبر للعنف خلال تسع سنوات. ولكنه لم يعد المنتج الوحيد له منذ منتصف 2012. لم يعد يحتكر السلاح، وبالتالي لم يعد يحتكر القتل والتشبيح. الأيادي التي تلوثت بالدم والفساد والإرتزاق موجودة في كل الجبهات. وكما للنظام سجونا، للجولاني وعصابته أحد عشر سجنا لا تقل وحشية وإجراما عن سجونه. في ليبيا غيرّ أردوغان موازين القوى بآلاف المرتزقة السوريين القادمين من مناطق نفوذه، لكن الكم الأكبر من هؤلاء ما زال شرقي وغربي الفرات. في شرقي الفرات شكّل الأوجلانيون جيشا مسلحا، مدعوما ومحميا من الأمريكي. هل يمكن تفتيت هذه البنيات العسكرية قبل وضع عملية بناء جيش وطني لكل السوريين على طاولة المفاوضات؟ والعمل الجدي على إنجاز دستور جديد للبلاد، والجاهزية المجتمعية لحماية المواطن والانتخابات لعودة التمثيل الشعبي لأصحابه؟. كل هذا يحتاج إلى مؤتمر دولي من أجل سوريا، يشارك به كل من شارك في مؤتمر فيينا. يصدر توصيات واضحة من أجل وضع القرار 2254 موضع التنفيذ بقرار أممي جديد بأجندة زمنية واضحة وبإلزام والتزام من مختلف الأطراف. أما قمم بوتين أردوغان، وعنتريات جيفري وإدارته، فلا تشكل سوى حبوب مخدرة لا تغير في الوضع المأساوي شيئا.
- ما مدى تأثير قانون قيصر على النظام في حين تجمع آراء عديدة على أن سياسة الحصار لا يتضرر منها إلا الشعوب، ما هي تداعيات هذا القانون على الشعب السوري الذي يعيش أصلا أزمات خانقة؟
- أنت توجهي هذا السؤال إلى من اختارته 350 منظمة غير حكومية في 1998 لتقديم مشروع بيان للجنة حقوق الإنسان في جنيف بعنوان: “حماية حقوق الإنسان ومنع ارتهان الشعوب بالعقوبات الاقتصادية”. العقوبات سلاح اقتصادي بوجه المجتمعات الهشة والضعيفة. من يستطيع إعادة الحياة لنصف مليون طفل عراقي كانوا ضحية عقوبات سميت بالذكية لم تنجح في إزاحة صدام حسين من قصره؟ لقد عاصر فيديل كاسترو سبع رؤساء أمريكيين وكوبا تحت أقسى عقوبات أحادية الجانب في التاريخ، ومات في بيته بعد توريث أخيه. مصيبتنا كسوريين، أن من جرى اعتماده ممن سمي بأصدقاء الشعب السوري، لم يكن يتمتع لا بالكفاءة ولا الكاريزما ولا الكرامة. أما الوطنية عنده فتهمة.
اليوم، يروج البعض لقيصر باعتباره معجزة يسوعية ستوجه الضربة القاضية لبشار الأسد.. ولا استغرب ذلك.. فأغلبية المؤيدين ممن غادر سوريا منذ 1982، وليس لهم حتى علاقات قربى مع من يعاني داخل سوريا. وبعضهم يصل به الحد للقول: “الناس التي في الداخل تستحق لأنها لم تنتفض على الأسد”.. هذا المنطق الذي يساوي بين القامع والمقموع مرفوض مبدئيا وأخلاقيا، فكل ما يقال عن “عبقرية” هذا القانون “الذي لن يصيب إلا الجماعة الحاكمة ولا يؤثر على حياة الناس” يثير الغثيان..
- التغيير الديمقراطي الجذري بمن سيجرف برأيك دكتور هيثم مناع؟
- لا يمكن الحديث عن تغيير ديمقراطي جذري، إذا لم يقدّم للمحاكمات العادلة كل من تلوثت أيديه بالدم السوري وسرق البلاد والعباد.
درس الدكتور مناع الطب والعلوم الاجتماعية والقانون، أشرف على موسوعة “الإمعان في حقوق الإنسان”، صدر له 56 كتابا بالعربية والفرنسية والإنجليزية. مؤسس تيار قمح (قيم، مواطنة، حقوق)، ويرأس المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان في جنيف.