من مرسي إلى الغنوشي

هيثم مناع”

عندما أصدر 107 من رجال الدين والإسلاميين في 7 فبراير 2012، بيانا بدعم عسكرة الثورة في سوريا، اتصلت ببعض الموقعين ممن دافعت عنهم عندما كانوا في المنفى أو وراء القضبان، وقلت بصراحة: “هل قررتم اغتيال الحراك الشعبي السلمي جهارا؟” كان جوابهم أقسى من سؤالي، وبعضهم قال لي بالحرف: “أفهم من كلامك أنك لم تحسم بعد قضية اسقاط النظام المجرم؟”. أجبت ببرود وسخرية: “بيانكم قرار بتقوية نظام منهار ووضعه على رأسنا لسنوات”؟ كانت سنوات “النشوة الإفيونية الإخوانية” وليس “الصحوة” كما يحدثنا بعض مؤدلجي السلفية الجهادية، وجرى تكفيرنا، باعتباري كما قال أبو محمد العدناني (طه صبحي فلاحة) المتحدث باسم داعش: “ينتمي لدين السلمية وهو “كفر وشرك بواح”.  كان أبو فراس السوري (رضوان محمود نموس) منذ أيلول/سبتمبر 2011 قد اعتبرني شيوعيا شيعيا مضيفا في مقالة من أربع صفحات: انكشفت أوراق هيثم مناع.. باع الثورة مقابل مبالغ مالية من إيران”. أبو فراس السوري سيصبح الناطق الرسمي لجبهة النصرة، وسيعود ليكفر، ليس فقط هيثم مناع، بل “هيئة التمزيق التي تأتمر بأمره”.

رفض الرجل القوي في حركة الإخوان المسلمين المصرية خيرت الشاطر اللقاء معي، ونسي أنني ضربت من عناصر أمن الدولة على باب المحكمة العسكرية حيث كنت مراقبا لمحاكمته في عهد مبارك. وعندما حدثت أحد القياديين الإخوان (وهو في السجن الآن) في مخاطر إرسال المقاتلين إلى سوريا أجابني: يا راجل أنا ابن أخي ذهب للجهاد في سوريا، احنا عايزين نخلصكم من هذا النظام الدموي”.

في استاد القاهرة، 15 يونيو/حزيران 2013، حضر الرئيس المصري محمد مرسي بنفسه، لإعلان نتائج أول اجتماع موسع بين “علماء” سلفيين و”علماء” الإخوان المسلمين  انعقد  قبل يومين، تقرر فيه، بصوت واحد، إعلان الجهاد في سوريا. ولإعلان نتائج هذا الاجتماع، اتفق المجتمعون على الشيخ المصري محمد حسان لإعلان قرار المؤتمرين:

“احتضنت أرض مصر الطاهرة مؤتمرا حضر فيه ما يقرب من 500 عالم، ينتسبون إلى أكثر من 70 هيئة ومنظمة ورابطة. وقد أفتى هؤلاء العلماء واتفقوا على أن الجهاد واجب بالنفس والمال والسلاح، كلّ على حسب استطاعته. فجهاد الدفع الآن عن الدم والأعراض واجب عيني على الشعب السوري، وواجب كفائي على المسلمين في أرجاء الأرض. هذا ما ندين به لرب السماء والأرض. وهنا أناشدكم، يا سيادة الرئيس، لن تفعل توصيات هذا المؤتمر، ولا قراراته إلا من خلال سيادتكم… أناشدكم أن تفعّلوا هذه القرارات”.

اتصلت بي قناة تلفزيونية مصرية وسألتني عن رأيي في هذا “الموقف التاريخي للرئيس مرسي”. فقلت لهم أنا على الهواء، قال لا احنا منسجل ردود أفعال السوريين لبرنامج خاص. قلت لمحدثي: “لن يناسبك موقفي. لقد حفر مرسي قبره بيده”. أغلق الصحفي المكالمة فورا.

كان رأينا وما زال، أن على حركة الإخوان المسلمين أن توضح موقفها ليس فقط من الانتخابات، وإنما أيضا من المقاومة المدنية السلمية. وكلما اختلط موقفها مع الجهاديين التكفيريين، فهي الخاسرة، وبكل المقاييس. في حين كان رأي الحمدين وأردوغان وقتها: “لكسب أية معركة، عليك أن تلعب بكلG الأوراق”. طبعا صدر أمر من الديوان الأميري بمنعي من الظهور على قناة الجزيرة في كانون الثاني/يناير 2012 بعد أن نوهت إلى دور خليجي تركي في إجهاض الإتفاق بين هيئة التنسيق الوطنية والمجلس الوطني السوري الذي وقعه برهان غليون عن المجلس ووقعته عن هيئة التنسيق في 30 ديسمبر 2011. باعتبار هذا الاتفاق ينبذ العنف والتمييز ويقف ضد الإرهاب ويؤكد على سقوط النظام القائم بكافة أركانه ورموزه. وأضيف إلى الهجوم على شخصي من التكفيريين هجوما مزدوجا، ويا للمفارقة، من قناتي العربية والجزيرة.

من المبكر القول، فيما إذا كنت حنبليا فوق اللزوم في تأكيدي على سلمية النضال السياسي والمدني، ولكن من المؤكد، أن العسكرة قد عززت التدخل الخارجي بكل معانيه وأشكاله، وأن المذهبية التي طبعتها شكلت محرقة لكل السوريين.

عندما بدأ حصار طرابلس من “الجيش العربي الليبي” بقيادة حفتر، لإسقاط حكومة الوفاق بقيادة السراج، طلب مني أكثر من صديق ليبي التعليق على ما يجري، فاعتذرت، لقناعتي العميقة بأن الحل العسكري في ليبيا، كما هو الحال في سوريا، أسطورة ووهم. وقد قال لي أكثر من صديق أحبه من إخوتي الليبيين: “يا دكتور هذا موقف مثالي، نريد موقفا واقعيا”؟ فأجبته: “ستعودون إلى ما أقول بعد سواقي إضافية من الدم”.

لم يتأخر الأمر، وبمكر مبالغ فيه من التاريخ، باشر العثماني أردوغان تدخله، بالاستثمار في الدم السوري، الذي أصبح أسير قراراته، وبدأ آلاف المرتزقة السوريين ينقلون إلى ليبيا للقتال. على حكومة أردوغان تقديم السلاح والخبراء العسكريين، وعلى المرتزقة السوريين تقديم فاتورة الدم.

الحقيقة لم أفاجأ بموقف رفيق 30 عاما من النضال، الذي كان يعتبرني تؤامه السوري، منصف المرزوقي، فقد ضاعت عنده البوصلة الحقوقية منذ سنوات.  ولكنني تفاجأت بموقف الشيخ راشد الغنوشي. فهو سياسي محنك يتقن التقية ويعرف كيف يتملص في القضايا المحرقة لرجل السياسة. إلا أن موقفه ذكرني بموقف آخر وقع في 2008 يوم قضية وكالة الأنباء الإيرانية. صادف ذلك نشر منصف المرزوقي مقالة نقدية في القرضاوي طلبت منه “حركة النهضة” التونسية سحبها من الجزيرة نت، ووافق منصف على ذلك رغم قوة التحليل. وعندما نشرت مقالتي “الاستعصاء المذهبي”، طلب مني أكثر من قيادي في النهضة سحب مقالتي التي استشهدت فيها بمقطع من مقالة منصف المحذوفة. فرفضت وقلت على من يرى فيها مقال أن يكتب وجهة نظر نقدية بكل حرية وفي نفس المكان، ليأتي الرد من راشد الغنوشي نفسه بمقالة: “كلنا يوسف القرضاوي”.

فهل هي أوامر قد جاءت للسيد راشد الغنوشي ليتصل بالسيد السراج ويهنئه على انتصاراته العسكرية؟

المشكلة أن ولاية الغنوشي لحركة النهضة في أسابيعها الأخيرة، في حين أن رئاسته للمجلس النيابي التونسي في أسابيعها الأولى، وأن ما طلب منه هذه المرة، يشكل انتهاكا فاضحا لدوره كرئيس لكل النواب، وليس فقط لحزبه.. فهل فات ثعلب الحركة الإسلامية السياسية العربية بامتياز، بعد وفاة الترابي، أن ما هو مطلوب، يعني وضع رقبته على المقصلة السياسية؟

وحدها الأيام ستجيب على هذا السؤال، علما بأنها أجابت في حالة مرسي بشكل مأساوي.

————

مؤسس تيار قمح (قيم، مواطنة، حقوق) والمشرف على كتاب “تونس الغد” الذي شارك فيه راشد الغنوشي ومنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر وصدر قبل نجاح الترويكا في الانتخابات التونسية بعشر سنوات.

نشرت في موقع رأي اليوم

 

 

Scroll to Top