الدكتور خالد المحاميد
عشرون عاما مضت على دخول سوريا القرن الواحد والعشرين، وعشرون عاما تمر على وفاة الجنرال حافظ الأسد. كان العقد الأول من هذا القرن رماديا متخبطا فشلت فيه السلطة السياسية في إجراء أية تغييرات جدية في الطبيعة الأمنية للحكم والطبيعة التسلطية للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، لم تفهم دوائر القرار أنها تنتمي لحقبة زمنية انتهت وأنموذج تسلطٍ مات. ولم يكن المجتمع قد امتلك بعد أدوات التغيير الضرورية. ومع هبوب رياح التغيير من سيدي بوزيد وساحة التحرير، انتفض شباب درعا في وجه الدكتاتورية بصدور عارية، من أجل وضع حد لأربعين عاما من نظام الحزب الواحد والعائلة الواحدة. محطمين التماثيل التي ترمز لنظام سياسي مات في القلوب وفي العقول.
إلا أن السلطة الأمنية التي وجدت نفسها أمام لغة لا تفهمها وشبيبة لم تؤرشف بعد في سجلاتها، لم تجد سوى الرصاص الحي ما ترد به على جيل أعلن رفضه لأن يعيش، كما عاش أكثر من جيل سبقه. كذلك ارتجفت أوصال أنظمة بنت باسم الدين رصيدها ومشروعها، وأخرى ترتجف من الحرية كما تستعيذ من الشيطان. ومنذ عام 2012، تصدر كلّ من صناع القرار الأمني في دمشق من جهة، وعناصر الثورة المضادة في الجانب المقابل، تصدرا المشهد في وجه الثوار الذين رفضوا مذهبة الصراع والتدخل الخارجي والعنف، ودفعوا ثمن ذلك عشرات آلاف المعتقلين والشهداء.
دخل الأراضي السورية أكثر من 120 ألف “جهادي” من ستين بلدا، معظمهم عبر حكومة العثماني أردوغان، ودخلها أيضا أكثر من 30 من الميليشيات “الشيعية” من لبنان إلى أفغانستان، تحت إشراف الحرس الثوري وقاسم سليماني. وانهارت المليارات على الطرفين دعما وإفسادا، ودفع الشعب السوري فاتورة حروب بالوكالة لا علاقة لها، من قريب أو بعيد، بالحرية التي طالب بها والديمقراطية التي حلم بها. أكثر من ستمئة ألف شهيد سوري في كل الجبهات، وأكثر من مليوني مواطن ومواطنة يحملون إعاقة دائمة مدى الحياة. ومع مرور الذكرى التاسعة لانتفاضة شعب، نجد ثلث السوريين مشتت بين اللجوء والنزوح والتهجير القسري، وثلث أراضي البلاد في مناطق نفوذ متناحرة، وثلثيها يعيش أوضاعا مأساوية تحت نير سلطة استبدادية تسلطية… الخسائر الاقتصادية تجاوزت 500 مليار دولار، وموازنة الدولة لم تعد تتعدى المليار ونصف دولار، ومستوى معيشة الفرد في سوريا أسوأ منه في تشاد وبنغلادش.
منذ سنوات، ونحن نناضل من أجل حل سياسي يضع حدا لهذا العنف الأعمى، حاولنا في مؤتمر القاهرة في 2012 الخروج بجسم سياسي حقيقي لقوى المعارضة والثورة فوقف الإخوان وجماعاتهم ضد أية هيئة سياسية يخرج بها المؤتمر، باعتبارهم يمسكون بالمجلس “الوطني” من رقبته. كذلك بعد ثلاث سنوات، وقفت أطراف محسوبة على التيار الوطني ضد ولادة جسم سياسي سوري مستقل القرار والإرادة. ولم ننجح إلا في تشكيل لجنة متابعة إدارية لمؤتمر القاهرة الثاني. ناضلنا من أجل كسر كيانات بنيت من الخارج واعتبرت ممثلا “شرعيا” للثورة والمعارضة، فوقف من سمي “أصدقاء الشعب السوري” بوجهنا.
كنت في وفد التقى المبعوث الدولي الخاص ستفان ديميستورا، واقترحنا عليه مسودة قرار لمجلس الأمن، وقد شاركت في وفد إلى فيينا أعاد طرح خارطة طريق وطنية للخلاص. قابلنا مختلف الأطراف المؤثرة ووجدنا صدى عند الطرفين الروسي والأمريكي وقتئذ من أجل قرار من مجلس الأمن حول سوريا. وأخيرا صدر القرار 2254 عن مجلس الأمن.
لقد شهدت بأم عيني أثناء دراستي الطب في أوربة الشرقية صعوبة وتعثر عمليات الانتقال من نظم حكم شمولية إلى نظم ديمقراطية، وأعرف جيدا أن هكذا عمليات لا تتم على بساط من حرير، وكما قال التشيكي فاكلاف هافيل: “اسم ثورتنا مخملية لأنها سلمية، أما البناء بعد ذلك، فهو العملية الأصعب”.
كان موقفي دائما ضرورة المشاركة في أية عملية سياسية. لذا شاركت في مؤتمر الرياض الأول رغم مقاطعة أصدقائي في التيار الوطني الديمقراطي له، ومعرفتي بأن التنازلات وصفقات الإرضاء التي جرت تشكل معول هدم في صلب الهيئة العليا للتفاوض. إلا أن تحجيم عدد الوطنيين المستقلين في المؤتمر ما زال يشكل حتى اليوم، مقتلا لهيئة قامت على قواعد تعطي ممثلي هذه الدولة أو تلك، نسبا كافية لقتل استقلال القرار السوري داخل الهيئة. لذا تقدمت باستقالتي من الهيئة التفاوضية كنائب رئيس منتخب عن المستقلين.
بعد تسع سنوات، تحول الإئتلاف السوري إلى منبر للسلطات التركية، والفصائل التي كانت تجمعها كلمة “الجيش الحر” إلى مؤسسة تحت الوصاية التركية مباشرة. تتمزق الهيئة التفاوضية في صراعات على المناصب والامتيازات، وقد تحولت الأجسام السياسية التي ولدت بعد آذار 2011 إلى هياكل عظمية.
يتداعى الوطنيون السوريون إلى لقاءات وتجمعات يحاولون عبرها إعادة لم الشمل، الصعوبات كثيرة وجسيمة.. والجروح عميقة وكبيرة، ولكن هل هناك طريق آخر للخروج من هذا المستنقع الأسود، لإبعاد أحزاب الحقد السياسي والثأر الاجتماعي وشبكات التبعية والارتزاق عن واجهة التمثيل لشعب قدم ما لم يقدمه شعب آخر على سطح البسيطة منذ الحرب العالمية الثانية؟
بعد الثورة السورية الكبرى وما تعرضت له من قمع وحشي من سلطات الانتداب الفرنسي، تداعى الوطنيون السوريون إلى عقد “المؤتمر الوطني السوري” في دمشق 26 آذار 1928، الذي أنجب “الكتلة الوطنية” من تعاون وتآزر مجموعة كبيرة من المثقفين والسياسيين، وبرز في هذه الكتلة شخصيات وطنية مثل إبراهيم هنانو، وهاشم الأتاسي، جميل مردم بك، وعبد الله الجابري…
وإثر رضوخ سلطات الإنتداب للمطلب الشعبي بتشكيل الجمعية التأسيسية السورية في 29 حزيران/يونيو 1928، قرر الوطنيون في المؤتمر الوطني “الثاني” دخول الانتخابات برغم مما في الموقف من غموض وإبهام، غايتهم تحقيق مطالب الأمة بوضع دستور يضمن سيادتها ووحدتها، واستقلالها وشكل حكومتها وأسلوب إدارتها، وحقوق أفرادها.. أقبل الشعب على الانتخابات إقبالاً كبيرا وفازت الكتلة الوطنية فوزاً أقلق سلطات الانتداب الفرنسية.
أتم المجلس المنتخب وضع مشروع الدستور من مئة وخمس عشرة مادة صدقه الأعضاء بصورة إجمالية، ولكن الفرنسيين اعترضوا في 9 آب على المواد (2، 73، 74، 75، 110، 112) وتتعلق بالحدود والوحدة السورية، وحقوق رئيس الجمهورية بالعفو الخاص وعقد المعاهدات، وحل المجلس النيابي، والتمثيل الخارجي، وتنظيم الجيش السوري، وإعلان الأحكام العرفية، وحجتهم أنّ “الحكومة الفرنسية لا يسعها أن تأذن بنشر وتنفيذ ما يحرمها من الوسائل التي تساعدها على القيام بالفروض الدولية التي أخذتها على عاتقها” وفق ترخيصات عصبة الأمم الإستعمارية. واصلت الكتلة الوطنية نضالاتها رغم المضايقات، وقادت الحراك السياسي في سورية عبر الإضرابات، والمظاهرات، وقيادة الحملات الانتخابية، حيث فازت قوائمها في جميع المدن السورية، ولعبت دوراً موحداً لسورية، وهذا ما انعكس في اتفاقية عام 1936 مع الحكومة الفرنسية، هذه المعاهدة التي تلغي الانتداب، وتستبدله بمعاهدة، وتوحد الدويلات السورية في دولة واحدة، وتولت الكتلة الوطنية تشكيل حكومة وطنية برئاسة جميل مردم بك، وانتخب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية، وفارس الخوري رئيساً للمجلس النيابي.
في الأربعينيات من القرن العشرين، قادت الحركة الشعبية في جبل العرب النضال من أجل إلغاء ما سمته سلطات الانتداب “الاستقلال المالي والإداري لجبل الدروز”، وكذلك ناضل الوطنيون في جبال اللاذقية ضد الوضع المشابه الذي فرضه المندوب السامي الفرنسي “الاستقلال المالي والإداري لجبال العلويين”، وانتصروا في إلغاء محاولات الفرنسيين خلق دويلات داخل الدولة السورية لإضعافها قبل الجلاء بأربع سنوات. وجاء الاستقلال في 1946 استقلالا لدولة واحدة وموحدة.
بعد الاستقلال، وبعد ما سمي بحقبة الانقلابات العسكرية، وطغيان دكتاتورية الشيشكلي، قادت عملية مقاومة الديكتاتورية العسكرية إلى تلاقي المعارضة القومية والديموقراطية، وتوحيد صفوفها في ما سمي بالمؤتمر السوري الذي عقد في 30 تموز 1953 في مدينة حمص، وقد أقر المؤتمر “الميثاق الوطني” الذي تضمن برنامجاً سياسياً من خمس نقاط أبرزها: التخلص من الديكتاتورية وإقامة نظام ديموقراطي برلماني..
توحدت المعارضة الوطنية السياسية المدنية، والعسكرية، واتفق الضباط الوطنيون على قلب النظام الدكتاتوري القائم، وهذا ما حصل في 25 شباط 1954. وقاموا بتسليم الحكم للمدنيين الذين نظموا أول انتخابات حرة في البلاد، لتعيش سوريا أرقى سنواتها بعد الاستقلال واستمر ذلك حتى 1958.
لماذا نجح من سبقنا في التوحد وتحقيق هذه الإنجازات التاريخية، لأنهم كانوا على مستوى التحديات التي واجهونها، كانوا وطنيين قولا وفعلا، كانت التبعية لمحور خارجي تسمى خيانة، وكان استقلال القرار لرجال السياسة أساسا لاستقلال البلاد.
هذا من تاريخ أبائنا وأجدادنا، وليس من تاريخ فرنسا أو روسيا.. لقد أعطونا وطنا موحدا وحرا، فما الذي سنقدمه لأبنائنا أيها السوريون؟
إنني أتوجه في رسالتي هذه إلى كل الوطنيين السوريين، المستقلي القرار والإرادة، من أجل الإلتقاء والعمل المشترك عبر مؤتمر وطني جامع، نضع خارجه كل الحساسيات الصغيرة، والانتماءات الايديولوجية المفرقة، والمصالح الشخصية الضيقة، وأمراض تضخم الأنا، لأن هذه الأنا مهما كبرت، فهي ذليلة وصغيرة في غياب سوريا موحدة ودولة مواطنة. نجاح هذا المؤتمر، يعني قيام كتلة وطنية قوية، تسد الطريق أمام بقاء الدكتاتورية، أو إعادة إنتاجها عبر أمراء وسماسرة الحرب.
وأنا على ثقة بأن سوريا سلطان باشا الأطرش وابراهيم هنانو وشكري القوتلي وفارس الخوري… لن يصيبها العقم، وما زالت قادرة على الإنجاب والعطاء.
موقع كركدن نت