سوريا وإسلامها الرسمي في زمن “الصحوة”

 

تنتمي الفقيدة رزان زيتونة إلى جيل الحقوقيين والباحثين الشباب الذين فتحوا أعينهم على مأساة “الوراثة الجمهورية” والرقابة الأمنية واعتقال طلائع الجيل الذي سبقهم في ربيع دمشق. كانت تعتبر الاعتقال السياسي سرطان الحياة العامة في سوريا، وأجهزة الأمن قتلة الحلم. تطمح لأن تكون محامي المظلومين وباحث يوثق لكل نضالات وأوجاع السوريين

قليل من السوريين يعرف بكتاباتها، وأقل منهم يعرف بنضالاتها الحقوقية الصامتة من أجل كل الملفات الهامة في انتهاكات حقوق الإنسان في ظل الحكم الأمني التسلطي في سوريا.

تنشر كركدن.نت هذا المقال الذي كتبته المحامية رزان زيتونة، في 2007، لإلقاء ضوء آخر على شخصية هذه المناضلة، التي دفعت حياتها ثمنا للدفاع عن حقوق الناس في وجه كل من يغتصبها.

رزان زيتونة
“سوريا تتأسلم”، “سوريا العلمانية نحو الأسلمة”، وتعبيرات أخرى مشابهة تصدرت مؤخرا مقالات وكتابات كثير من الباحثين الأجانب والصحفيين داخل سوريا وخارجها. معظم تلك الكتابات اعتبرت أن “الصحوة الإسلامية” تشهد مدا متصاعدا تؤكده العديد من المظاهر التي لا تخطئها العين! وسردت العديد من الوقائع والأرقام التي تدلل على ذلك، من مثل أنه يوجد حاليا في سوريا نحو تسعة آلاف مسجد يرتادها ملايين المصلين، ونحو 600 معهد لتحفيظ القرآن، وقرابة 40 مدرسة “قبيسية”. كلية الشريعة تضم نحو 7603 طالبا وطالبة من أصل 48 ألف طالب وطالبة في جامعة دمشق.هذا بالإضافة إلى المعاهد الشرعية وغيرها.

ومن مظاهر التدين التي يمكن مشاهدتها في الشارع السوري، يجري الحديث عن زيادة عدد المحجبات وارتفاع الإقبال على الكتاب الديني، حتى أنه في معرض الكتاب الدولي لصيف عام 2006، كانت من الملاحظات الأبرز وفقا لبعض المراقبين، طغيان الكتاب الديني الذي احتل أجنحة عديدة من المعرض.

أما الاحتفالات التي أجريت بمناسبة عيد المولد النبوي العام الماضي، فكانت ملفتة للنظر بكل ما حملته من “زينة” و”موالد” اتخذت طابعا “إعلانيا”، من حيث أنها بثت في أكثر الأحيان من مكبرات الصوت في الجوامع العديدة التي أجريت فيها، أو حتى أقيمت على الأرصفة وفي الحارات الضيقة في المناطق الأكثر شعبية، كما استخدمت وسائل الإعلان الطرقية للتهنئة بهذا العيد، إلى غير ذلك من المظاهر التي أسهبت الصحف والمواقع الإلكترونية في الحديث عنها.

لم يقتصر الأمر على دعم وتشجيع الإسلام الشعبي كي يعبر عن نفسه بهذا الوضوح، بل تم استخدام المنكهات الدينية في حملة التجييش الوطنية التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري وتداعيات ذلك على النظام في سوريا، ولا تخرج عبارة الرئيس بشار الأسد في خطابه الشهير “سوريا الله حاميها”- وهي عبارة نجد لها سوابق في خطب العديد من رجالات الإٍسلام الرسمي – عن هذا السياق.

هذا في الوقت الذي لا يزال فيه الإنتماء إلى أي من تيارات الإسلامي السياسي أمرا مرفوضا بشكل قاطع في سوريا، وإن كان هذا الحظر لا يستند فقط إلى الموقف من تلك التيارات وإنما يندرج في إطار منع أي حراك سياسي معارض، لكنه يتخذ شكلا أكثر حدة عندما يكون الحراك على خلفية إسلامية.

وبالتالي فإن تجليات تلك “الصحوة”، إن أمكن أن تظهر عفويا في بعض أشكالها، كالحجاب مثلا – وإن كان بدوره شهد حملة دعوية من قبل مجموعة “القبيسيات” وعن طريق وسائل الإعلام بواسطة بعض الدعاة الجدد كعمرو خالد- فهي تحتاج إلى من يقودها للعلنية والجرأة في التعبير في أشكالها الأخرى، في ظل إرث من الخوف والذكريات المؤلمة هو حصيلة عقد الثمانينات إياه. هذا الدور الذي اضطلع به إلى حد بعيد رجالات الدين المسلمين في سوريا، ممن ينضوون في إطار ما يسمى بالإسلام الرسمي أو إسلام السلطة.

فضلا عن المعطيات السابق ذكرها، حصل الإسلام الرسمي على عدد من “المكاسب” التي لم يكن حصولها متوقعا حتى مع الاحتواء شبه الكامل لهذا التيار تحت أجنحة السلطة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وافقت السلطات في عام 2001 على الترخيص لمنتدى “يهدف إلى نشر فكر إسلامي معتدل” بعد شهرين من تقديم الطلب وفقا للدكتور محمد حبش مدير مركز الدراسات الإسلامية والنائب في البرلمان ورجل الدين المعتدل. هذا في الوقت الذي رفضت فيه طلبات ترخيص جميع منتديات ما عرف بربيع دمشق في تلك الفترة، قبل أن تُغلَق جميعا وتحظر أنشطتها.

وعلى أثر قيام جمعية المبادرة النسائية المرخصة – سحب ترخيصها مؤخرا- باستبيان لاستطلاع رأي المواطنين في بعض مواد قانون الأحوال الشخصية المتعلقة بالمرأة، شن بعض خطباء المساجد من على منابرهم هجوما شرسا ضد الناشطات النسويات، ناعتين إياهن بـ”السفيهات والمارقات”، كما قاموا بالاحتجاج لدى وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي أمرت الجمعية بوقف الاستبيان. كما قام الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في خطبة الجمعة بتاريخ 4-11-2005 بشن هجوم عنيف ضد ناشطات ونشطاء حقوق المرأة واصفا إياهم بـ”العمالة القذرة” و “الخونة” و”الأقزام” و”العبيد لهؤلاء الذين يريدون اجتثاث الحضارة الإسلامية من جذورها”.

في حزيران 2006، وجه عشرات من رجالات الدين السوريين المعروفين، رسالة إلى الرئيس بشار الأسد، حول ما وصفوه بـ”الخطة التآمرية” من جانب وزارة التربية والتعليم على التعليم الشرعي في سوريا، وذلك على أثر صدور قرار يوجب على الطلاب إكمال مرحلة التعليم الأساسي قبل أن يتاح لهم بعدها دخول المدارس الشرعية. وقد حملت الرسالة إشارات واضحة على أن الهامش المتاح للإسلام الرسمي أصبح أوسع بكثير مما كان عليه لسنوات: “إن الحوزات الشيعية ماضية في تجاهل هذا التعميم (من وزارة التربية) مصرة على عدم الاستجابة له، ومدارس الشويفات تضيف إلى منهاج المرحلة الأساسية ما تشاؤه من الزيادات في الساعات والمقررات، والمدارس التبشيرية الأجنبية ماضية في مناهجها الخاصة بها وأساليبها التربوية دون أي معارضة ولا إشكال”، “وماذا لو فضحنا الخفايا واستشهدنا بما يعرفه بعض موظفي وزارة التربية من رسم خطة تآمرية مقصودة للإطاحة بدين هذه الأمة وثقافتها الإسلامية وتراثها الشرعي؟”.

ومؤخرا، سمحت السلطات لما يعرف بـ”القبيسيات” بالنشاط العلني، وتلقت هذه الجماعة النسوية دعما ومباركة من كبار رجال الدين السوريين من خلال الإعلام.

وأخيرا شهدنا الهجوم الذي شنه صلاح الدين كفتارو، مدير عام مجمع الشيخ أحمد كفتارو، ضد وزير الإعلام الذي رفض نقل خطبة الجمعة في سوريا على التلفزيون السوري. هذا الهجوم الذي حصل أثناء خطبة الجمعة وعلى الملأ من المصلين كان سابقة في سلوك رجل دين هو نجل مفتي الجمهورية السابق ضد وزير في الحكومة. لكن كان لهذا التصرف تبريره لدى كفتارو الابن، حين قال في الخطبة إياها “نحن نتقدم فلا ترجعنا إلى الوراء لأن هذا بلد الإيمان وبلد بشار الأسد”.

ليست “المكتسبات” تلك بالضرورة، هي مقابل ما يبديه الإسلام الرسمي من ولاء وسند للحكم في سوريا، فهو لا يستطيع أن يكون غير ذلك، باعتباره إسلاما رسميا! بل إنها تبدو في أحيان كثيرة بمثابة وسيلة لتحقيق الهدف المرسوم لرواد هذا الإسلام.

عندما أعلن عن سماح السلطات للقبيسيات بالنشاط العلني، نقل عن الشيخ البوطي قوله أنهن “يقمن بالدعاء المستمر للرئيس بشار الأسد من دون التطرق إلى السياسة..وإن ولاءهن للرئيس الأسد لا غبار عليه..”.

وفي موضوع الجمعيات النسوية، كلنا يعلم أن خطب الجوامع تخضع لرقابة أمنية مشددة، ومن غير الوارد التطرق لمثل هذا الموضوع من غير أن يكون قد مر على السلطات المعنية وحظي بموافقة أو غض نظر على الأقل. من غير أن ننسى قيام السلطة بسحب ترخيص جمعيتين نسويتين مؤخرا لأسباب واهية، لا علاقة لها على أية حال، بالخروج على الشريعة والإسلام، إلا من جهة اعتبار ذلك الهجوم على أنه كان مقدمة للإجهاز على النشاط النسوي المستقل فيما بعد.

أما فيما يتعلق بالمدارس الشرعية، فقد تم التراجع عن القرار فيما بعد، ولا يبدو من جملة ما حصل إلا أنه وسيلة ربما، لتوجيه رسائل معينة للمحيطين الإقليمي والدولي حول اشتداد نفوذ “الإسلاميين” المعتدلين منهم والمتشددين، بالتزامن مع الإعلان عن عمليات “إرهابية” هنا وهناك في سوريا. فمن هو على تبصر بآليات صنع القرار في سوريا، لا يسعه تصديق الخضوع إلى رأي مخالف مهما كان أصحاب هذا الرأي على صلات ولاء أو استرزاق من السلطة. وعلى ذلك فالعمل على توسيع رقعة الإسلام الشعبي ; يجب أن لا يتجاوز تحقيق الأهداف المرجوة من ورائه وبما لا يعطي للإسلام الرسمي – الذي ربما يطمح إلى سلطة تتجاوز سلطته المحصورة في أمور ضيقة ومحددة حاليا- أية مكاسب بالإضافة ; إلى هامش الحركة والتعبير الذي جرى توسيعه مؤخرا، وبما يقوي من مواقعه وقدرته على التأثير.

تتجلى الأهداف إياها، أولا، في التحشيد العاطفي القومي برداء إسلامي. فالمؤامرة; على “الأمة العربية” تصبح هنا المؤامرة على “الإسلام”، والغرب الإمبريالي الصهيوني يحتفظ بمسمياته مع بعض المفردات ذات الطابع الديني إن دعت الحاجة، كلفظ “الصليبي”. وبهذا يأخذ الخطاب الإسلامي الرسمي على عاتقه أن يصل إلى الجمهور الذي لم يصل إليه الخطاب العلماني الرسمي، وإن بنفس المحتوى وبقالب مختلف.

ثم يأتي دور إضفاء الشرعية الدينية على نظام الحكم العلماني. ونجد على ذلك أمثلة كثيرة في خطاب الإسلام الرسمي. على سبيل المثال يقول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، أن “ما يحاك ضد الإسلام من خطط ومؤامرات توجه ضد سوريا لأنها معين الهداية والرعاية الربانية” مذكرا مرارا باهتمام الرئيس الراحل حافظ الأسد بالإسلام والدفاع عنه معتبرا أن “القدرات البشرية محدودة، ولكن قدرة إضافية تتنزل من عند الله كانت تدعم قدرته البشرية” وذلك في كلمته في أربعين الرئيس الراحل الأسد الأب، والتي أشار فيها إلى “الديمقراطية المطبوخة المصطنعة”، في مقابل «بيعة صادقة صافية من الشوائب من هذا الشعب” للرئيس الجديد بشار الأسد.

ثم يأتي دور تبني المواقف الرسمية وإعادة صوغها مدعمة بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وهو الدور الذي أثار استياء واسعا بين شرائح معينة من السوريين في بعض المناسبات، وأهمها حدث احتلال العراق الذي أدى إلى توجه عشرات الشبان “للجهاد” في العراق وبدون أية محاذير أمنية، قبل أن يصبح هذا الطريق موديا إلى السجن والتعذيب بعد أن تغيرت الحسابات السياسية للسلطة. وقد زعم العديد من أولئك المعتقلين أثناء محاكماتهم بأنهم إنما لبوا نداء مفتي الجمهورية آنذاك وخطباء الجوامع في نداء نصرة العراق المحتل.

فبتاريخ 13-6-2003، خصص الشيخ البوطي خطبة الجمعة للحديث عن أن “الجهاد ماض إلى يوم القيامة”. واعتبر فيها أن “الجهاد فريضة ولم تتجلَّ أسباب فريضتها في عصر من العصور كما تجلت في هذا العصر..”، ” أيها الإخوة! موجبات الجهاد تدعو كل مسلم أن ينهض فيؤدي الواجب الذي أناطه الله عز وجل بعنقه، ما وَسِعَه السبيلُ إلى ذلك، ما وسعه السبيل إلى ذلك”. “أرض العراق أرض إسلامية، .. وها هي ذي محتلة والعدو الذي أقبل إليها من بعيد بعيد”. “ولكن الشعوب الإسلامية لا يزال فيها خير، لا يزال فيها هياج، ولا تزال تنشد نشيد الجهاد، ولا تزال تبحث عن نافذة تتسرب منها إلى حيث تجاهد في سبيل الله، على هؤلاء المسلمين أن يتجهوا من أي نافذة فتحت أمامهم، من أي سبيل فتح أمامهم  ليقاتلوا في سبيل الله، على أن يسيروا على أرض صلبة، وطبق خطة رشد، وألا تكون الأمور سائرة بشكل عشوائي، فيقع المسلمون من جراء ذلك في نقيض ما يهدفون إليه”. “لئن كان قادة العالمالعربي والإسلامي قد مسخوا فتحولوا إلى كتل من الذل والمهانة تتحرك ما بين شعوبها؛ فإن الشعوب لا تزال تنبض بنبضات الإيمان، بنبضات التوجه إلى الأجر العظيم الذي ادخره الله عز وجل للمقاتلين”.

ألقيت هذه الخطبة بعد ثلاثة أشهر من حديث مفتي الجمهورية آنذاك الشيخ أحمد كفتارو الذي دعا فيه “جميع المسلمين في العراق والدول المجاورة إلى استخدام جميع الوسائل الممكنة والشهادة لدحر العدوان الأميركي البريطاني الصهيوني على العراق” ! وهو ما اعتبر حينها فتوى “للجهاد” في العراق ضد الاحتلال. وعلى أية حال فقد قام علماء المسلمين في عدة دول عربية وإسلامية بالدعوة إلى “الجهاد” في حال تمت مهاجمة العراق من قبل القوات الأميركية، وفي مقدمتهم علماء الأزهر في مصر.

وبتاريخ 3-12-2004، مع اشتداد الحملة التي قادتها السلطة ضد من يتهمون بمحاولة الالتحاق بـ”الجهاد” في العراق، خصص الشيخ البوطي خطبة الجمعة للحديث عن التكفيريين، معتبرا أن أحد أسباب عدم انتشارهم في سوريا هو “سهر المسؤولين على تنظيف هذه البلدة من هؤلاء..” داعيا إلى “تعقب هؤلاء الذين لا يبالون بالنيران التي تلتهم بنيان هذه الأمة..”، وهو ما يضفي الشرعية الدينية على الاعتقالات العشوائية التي اتهم أصحابها بحمل الفكر السلفي الجهادي والتكفيري، والتي أثارت مشاعر لم تخل من جانب ديني، لدى تلك الشرائح التي طالتها الاعتقالات.

على صعيد السياسة الداخلية، لم ينأ الإسلام الرسمي بنفسه عن الخوض في هذا المجال. فتناول أمور الحريات والمظالم التي تعاني منها شرائح من المجتمع منذ سنوات طويلة، وإن بقيت الخطوط العريضة متفقا عليها بين مختلف أقطاب هذا التيار فقط اختلفت التفاصيل بين حين وآخر، ووفقا للظرف السياسي العام.

فعلى سبيل المثال، ينادي الدكتور محمد حبش “بإتاحة المجال أمام قيام أحزاب ذات توجه إسلامي معتدل” لما في ذلك من دور في مواجهة التطرف، معتبرا أن “الاكتفاء بالحل الأمني يؤدي إلى تأجيل المشاكل وليس إلى إنهائها”. بينما يرى الشيخ البوطي أنه “كلما أقحم الدين في السياسة كانت النتائج وخيمة” وهو يدعو دائما إلى “إبعاد السياسة عن معترك الدعوة إلى الله” وبالتالي يقف ضد تشكيل أحزاب إسلامية بالمطلق.

وبينما دعا الدكتور حبش في مناسبات عديدة إلى إلغاء حالة الطوارئ أو تقييدها وتوسيع هامش الحريات كما أنه طالب بإلغاء القانون 49 لعام 1980 القاضي بإعدام كل منتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين وإصدار “عفو” عن المعتقلين السياسيين، نجده مؤخرا يقول في لقاء صحفي “..أما الإصلاح السياسي فدعنا نعترف بأنه كان بطيئا والسبب واضح وهو الضغوط الأميركية… وسوريا بلد شهي بالنسبة للإرهاب وأعتقد لو كان النظام السوري ضعيفا لكانت الأخبار التي تنقل من سوريا هي نفس الأخبار التي تنقل من العراق ولبنان… فعدم تراخي الأجهزة الأمنية كان ضروريا في هذه المرحلة وهو الذي حقق الاستقرار في سوريا … أنا لا أشعر بأن سوريا تعيش حالة طوارئ كما يتبادر إلى أذهان الآخرين فهذا لا يوجد في سوريا، فسوريا ليست فرع مخابرات كبير…. فلولا قانون الطوارئ في سوريا لما تمكنا من محاصرة امتداد النار العراقية..”

ومن الجدير بالذكر أن الدكتور حبش المعتدل والمؤيد جزئيا لإجراءات الإصلاح السياسي، لا يحظى بمثل الشعبية التي يحظى بها رجل دين مثل الدكتور البوطي، الذي أخذ على عاتقه في أحد خطبه التقليل من أهمية المظالم التي يشكو منها السوريون وتنزيلها في سلم الأولويات إلى الكماليات، داعيا المواطنين إلى ترجيح مصلحة الأمة على مصالحهم الخاصة “أنا الآن عندما أعزف على هذا الوتر (دعم الوحدة الوطنية) يأتي من يبكي ويقول: أنا مضام، أنا أعاني من كذا، وكذا، قريبي في الخارج منذ سنوات لم يتح له إلى الآن أن تكتحل عيناه بمرأى بلده ووطنه سوريا. نعم، الآخر يقول: فلان من أقاربه في السجن، وقد أمضى مدته وأنفذ حكمه ولم يطلق سراحه بعد. الآخر يقول لي: كذا وكذا. الواقع أنني أستطيع أن أحاججه، وإذا كان الشعور الإسلامي نامياً بين جوانحه سيقتنع. أقول له: صحيح، لكن يا أخي اطوِ مصلحتك الجزئية الشخصية في سبيل مصلحة الأمة. الآن إن نجحت الخطة الأميركية الصهيونية والله قريبك وأنت وبلدك كلها يذهب. ممكن أن أقول له هذا الكلام، وأحاكمه إلى قرارات الشريعة الإسلامية: الأخذ بسلم الأولويات. نضحي بالتحسينيات في سبيل الإبقاء على الحاجيات، نضحي بالحاجيات في سبيل الإبقاء على الضروريات”… دون أن ينسى توجيه “النصيحة” إلى المسؤولين لإعلان “العفو والمسامحة …بعد نخل… من أجل أن نتحاشى هؤلاء الذين يقولون نحن مستعدون أن نتعاون مع الشيطان..”.

هذا من غير أن نذكر حديثه عن تداعيات اغتيال الحريري التي اعتبر أن هدفها “القضاء على البقية الباقية لفاعلية الإسلام في العالم العربي أولا والعالم الإسلامي ثانيا، ومن ثم القضاء على الحضارة الإسلامية..” معتبرا أن تحقيق ذلك يتمثل في “تعبيد الطريق والقضاء على التضاريس والعقبات التي تتمثل في سياسة سوريا”.

من ناحية أخرى، يجري الترويج لفكرة أن الإسلام الرسمي، من شأنه أن يساهم في التخفيف من غلواء التطرف في المجتمع، وإن كان الأمر لا يبدو بمثل هذه السهولة. إذ أن ساحة عمل الأول (المدينة، الطبقة الوسطى، التأهيل العلمي..)، لا تتقاطع إلا نادرا مع ساحة عمل الثاني (الريف، الطبقة الدنيا، الفقر..). كما أنه من الوارد أن يتحول أحدهم من الساحة الأولى إلى الثانية، لكن من المستحيل أن يحصل العكس. ففي قوائم المعتقلين المعلنة من قبل المنظمات الحقوقية، هناك بعض الحالات التي اعتقل أصحابها وكانوا طلابا في معاهد شرعية تدخل في إطار الإسلام الرسمي. أما عن هؤلاء الذين يدورون في فلك التطرف الإسلامي، فإنهم يكفّرون أو على الأقل “يحذرون ممن يعتبرونهم “مجرد أدوات في يد الحكومات المرتدة”. وتصل عبثية التطرف والتكفير إلى حد تكفير رجال دين مثل د.البوطي أو الشيخ يوسف القرضاوي أو غيرهم، من قبل بعض غلاة المتشددين في الأجيال الجديدة خاصة، كما يمكن أن نقرأ في بعض منتدياتهم وكتاباتهم.

أكثر من ذلك، أجمع عدة أشخاص ممن قابلتهم في معرض نشاطي الحقوقي، وكانوا قد اعتقلوا على ما بات يعرف بالخلفية الإسلامية، بأن الإسلام الرسمي، يكون أحيانا أحد أسباب التطرف العديدة، حيث يجد أولئك الشبان الثائرين على خلفية عقائدية، من يتكلم باسم الإسلام وهو يدافع عن الظلم والقهر والحكم غير الإسلامي في الوقت نفسه، وهو ما يولد القناعة لدى البعض بضرورة وجود سلطة دينية بديلة عن هذه السلطة الحالية المرتبطة بنظام سياسي معين. وقد أخبرني أحد أولئك المعتقلين السابقين، بأن “الإسلام الرسمي يهدف إلى تعقيم الشباب من السياسة، بينما جنود الحركات الإسلامية المتطرفة، وبالرغم من هدف الشهادة والجهاد وما إلى ذلك، فإنها تمارس عملا سياسيا بالدرجة الأولى، وإن من وجهة نظر خاصة جدا. قد يساعد حزب سياسي في استقطاب هذا الشاب، وليس حلقة لتحفيظ القرآن”.

يغدو السؤال بعد ذلك، هل يؤدي الإسلام الرسمي الدور المرسوم له بغير احتمالات الخروج عليه في ظرف ما؟ وحتى لو كانت تلك “المكتسبات” تخدم بالدرجة الأولى السلطات التي تدعم أصحابها، فكيف ينعكس ذلك على هؤلاء قوة وقدرة على التأثير ؟

الظاهر حتى الآن أن ذلك الدور تستفيد منه فئات معينة من المجتمع، هي تلك التي كان من الممكن أن توجد في ظل أية سلطة وأي مناخ سياسي واجتماعي. الفئة المتدينة بدون غلو بدون مطامح سياسية أو إيديولوجية تُذكر، والتي تحتاج إلى مساحة لتعبيراتها وممارساتها الدينية المجردة. ويصعب التنبؤ فيما إذا كانت هذه الفئات خزان كامن لعمل سياسي مستقبلي في حال تغيرت الظروف، حتى لو كانت التربية الدينية التي تتلقاها تحرص على إبعادها عن هذا الإطار، فهذا يعتمد بالدرجة الأولى على الاتجاه الذي من الممكن أن يسلكه رجالات الدين الرسميين في المستقبل وقدرتهم على التأثير على “مريديهم”. أما الفئات الأخرى التي يمكن أن تشكل تيارات الإسلام السياسي في سوريا، فلا تزال خارج هذا الإطار، وهي إما تنجذب إلى الفكر السلفي المتشدد، أو لا تزال كامنة بغير حراك مع استثناءات نادرة تتخذ من العمل المجتمعي وسيلة للحراك ومع ذلك لا يكتب لها الاستمرار. ونذكر هنا أن ما عرف بمجموعة داريا، وهم مجموعة من الشبان قاموا عشية الحرب على العراق بتنظيم مظاهرات سلمية صامتة ونفذوا بعض الأنشطة، كتنظيف الشوارع في المنطقة التي يقيمون فيها وتوزيع تقاويم كتبت عليها عبارات مناهضة للرشوة بمضمون ديني، هذه المجموعة ذات الخلفية الإسلامية المتنورة جرى اعتقالها ومحاكمتها أمام محكمة استثنائية قبل أن يفرج عنها فيما بعد.

يبقى من الصعوبة بمكان التنبؤ بـ”شعبية” رجالات الإسلام الرسمي ومآلات علاقاتهم بالسلطة. وأما عن هذه الأخيرة، فهناك من يرى بأن لرجالات الإسلام الرسمي قوة تأثير كبيرة في الشارع السوري المحافظ. وهو ما تلمسه السلطة جيدا وتسعى لتطويقه بأشكال مختلفة، “فتدعم رجل دين مثل د. البوطي لضرب الإخوان المسلمين، ثم السلفيين لتطويق تيار البوطي، وهلم جرا” يقول شاب خاض تجربة مع أحد “تيارات” الإسلام الرسمي. ويضيف قائلا “السلطة تلعب بالنار بظنها أنها تسيطر على قواعد اللعبة”.

أما عن “الشعبية” فهي تتراوح بشدة بين مختلف الفئات الاجتماعية، حيث تبلغ أوجها بين “الجمهور” المباشر لرجل الدين الفلاني في مسجده أو معهده الشرعي…الخ، بينما تلقى تراجعا أو تختفي نهائيا في شرائح أخرى. فالمعارضة تأخذ عليهم ولاءهم الأعمى للسلطة وترويج خطابها، إذا ما استثنينا المعارضة الإسلامية في الخارج، والتي تتعامل مع الموضوع ببراغماتية واضحة، فتؤيد ما يصدر عنهم “دفاعا عن دين الإسلام” كقضية المعاهد الشريعة وسواها، وتنتقدهم بشدة فيما يتعلق بالأمور ذات الطابع السياسي البحت. والمنظمات التي تعد نفسها في دائرة المجتمع المدني (منظمات حقوق المرأة، المنظمات الحقوقية…) تأخذ عليهم وقوفهم في أحيان كثيرة ضد مقتضيات تحقيق هذا المجتمع وتطويره. والفئات صاحبة المظالم، تأخذ عليهم تجاهلهم لمظالمها والوقوف إلى جانب من تعتقد أنه السبب فيها. وإن كانت الفئتان الأولى والثانية “أقلية” حتى الآن في المجتمع، فإن الفئة الثالثة تمتد على مساحات واسعة من الخريطة المجتمعية في سوريا. فكثيرا ما سمعت من أهالي المعتقلين على خلفية إسلامية القصة المكررة التالية: “ذهبنا إلى الشيخ فلان ليساعدنا في الكشف عن مصير ولدنا، قال مثل المخابرات، أن القانون سيطبق وولدنا سيحظى بمحاكمة عادلة! . قصدنا شيخا آخر، استقبلنا جيدا وسجّل الاسم عنده. بس حرام، ما بيطلع شي معه”!

السلطة، “الصحوة الإسلامية” الموجهة، الفئات التي تتأثر بها سلبا أم إيجابا، مجتمع ممنوع من السياسة والفكر والثقافة، وجملة عوامل أخرى تجتمع وتتفاعل فتجعل الواقع معقدا، والمستقبل مليئا باحتمالات ما بعد “الصحوة”!

(نشر في موقع “الأوان” بتاريخ 15 جويلية 2007)

Scroll to Top