حارس القدس والحل السياسي في سوري

هيثم مناع

لا يوجد سياسي سوري واحد، اللهم إلا بائعي القناعات والذمم، لا يعرف مكانة المطران هيلاريون كبوجي، الحلبي الولادة المقدسي الإنتماء، الخاصة والمتميزة عند السوريين والفلسطينيين وسائر الأحرار في هذا العالم. كنا منذ أيلول الأسود في 1970 شبيبة ثائرة على كل شيء، ولكن على اختلاف ألواننا السياسية وأصولنا الدينية نعتبره رمزا للمقاومة والكرامة. ورغم عناء سنين المنفى، بقي “حارس القدس” يحمل أمانة المقاومة والدفاع عن المظلومين. لذا وفي كل ترجمة للتعريف بكتابات لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية في الثمانينيات، كان اسم كبوجي حاضرا، لإعطاء المثل أن القدس أعطت للاهوت الحرية رموزا قبل القارة الأمريكية.

في العاشر من آذار/مارس، قبل سنوات ست، وصلني على هاتفي المحمول الرسالة التالية:

الأخ العزيز هيثم تحية

لقد اتصل سيدنا كبوجي سائلا عنكم

هل لديكم الرغبة بفتح حوار جدي للعمل على إخراج سوريا من هذه الكارثة. إن سيدنا يرغب في لقائكم في باريس أو روما لوضع مسودة عمل.

مع فائق احترامي لكم

أخوكم عزيز سليمان

فأجبت على الفور:

أنا في باريس هاليومين

فرد علي:

لأجل ذلك الشمس ساطعة هل أطلب من سيدنا أن يحضر إلى باريس؟

اتصلت بالرقم وقلت لمرسل الرسالة: أنا على استعداد للذهاب إلى روما، ما بحب نعذب أبونا بالسفر. فأجابني: سيدنا كبوجي لا يقبل، هو من سيأتي لعندك عندما تستطيع.

قلت لأبي مهند الذي كان معي في مكتبي-بيتي: هامة عظيمة، يزيد عمرها عن عمر المرحوم والدي خمس سنوات، لا تقبل إلا أن تأتي بنفسها من روما إلى باريس من أجل حوار لإخراج سوريا من كارثتها، هل ينتمي هذا الشخص إلى عالمنا أم لكوكب أخلاقي آخر؟

فشلت محاولتي إقناع المطران بالسفر إلى روما وأصر حارس القدس على المجئ إلى باريس. كان اللقاء وجدانيا وإنسانيا بكل معنى الكلمة. فهذا الإنسان رفيق المعشر عميق المعرفة بالنفس الإنسانية، ومنذ الدقائق الأولى يتملكك الشعور بأنك تعرفه منذ سنوات.

أخرج المطران ورقة كتبها بخط يده، يقترح فيها قواعد للحوار بين الحكومة والمعارضة الوطنية. وفي الحقيقة، تأخذ ورقته على بساطة عباراتها، ما جاء في بيان جنيف. لكن دون وسائط أو أطراف غير سورية[1] . تبدأ بالتوقيع على هذا الاتفاق. على أن أوقع الورقة ويوقعها هو، ويحملها للدكتور بشار الأسد ليوقعها، وبذلك يبدأ بالفعل حوار سوري-سوري يلتزم المشاركون فيه بنتائج هذا الحوار. طبعا لم ينس “ابن السجون” ما نسميه في القرارات الدولية: إجراءات بناء الثقة من إفراج عن المعتقلين السياسيين والمخطوفات والمخطوفين وتسهيل عودة اللاجئين إلخ. ولم ينس أبدا، بل ذكرني بأن علاقته كانت بالرئيس الأسد وفاروق الشرع قوية جدا، وهو لا يملك نفس قوة التأثير اليوم، ولكن الرئاسة والخارجية يكنان له كبير التقدير وهذه فرصة لأن “يجمع الأخوة المختلفين من أجل وقف نزيف الوطن”.

قلت للمطران: هناك جملتان يفضل صياغتهما بشكل أوضح. فقال لي: اكتب اقتراحك وسأعيد كتابة الورقة. وبالفعل، جلس وأعاد كتابة الورقة كاملة، فوقعت عليها، وأخذت صورة فوتوكوبية منها. ثم ودعت المطران بحرارة وتمنيت له التوفيق في مهمته.

بالفعل توجه حارس القدس إلى بيروت ومنها إلى دمشق، والتقى الدكتور بشار الأسد، وحدثه عن فكرته في الحوار الوطني الجاد وضرورة أن تكون نتائج هذا الحوار ملزمة لكل أنصار الحل السياسي. وعند مغادرته القصر الجمهوري، اتصل بي وقال: “يا إبني جهزوا حالكم، انشاء الله خير، الرئيس استحسن الفكرة وسيبعث لي برد رسمي عليها”.

بعد عبور المطران الأراضي السورية إلى لبنان، اتصل بي من بيروت، وقال: يا إبني اتصلوا بي من القصر الجمهوري وقالوا لي “إنس الموضوع، لا تتحدث لا مع مناع ولا غيره، ونرجو أن لا تعلمه بهذه المكالمة”. أنا من باب الأمانة، لا يمكن أن لا أعلمك وأخبرك بنتيجة زيارتي ومحاولتي. انشاء الله أراك في باريس ونتحدث أكثر بالتفصيل. أعتذر منك، حاولنا معا، لكن علمتني الحياة بأنه ليس من الضرورة أن تنجح في كل ما تحاول”.

كانت ورقة العمل التي كتبها المطران كبوجي أول وآخر ورقة موقعة من المطران ومني وفيها مكان لتوقيع بشار الأسد. ولا ضير بعد انتهاء العزل الصحي من نشرها، وهي في مكتبي في باريس، وأنا محاصر بالكورونا منذ 16 آذار/مارس 2020 على بعد 500 كيلومتر منه.

كنت أحضّر مع إخوة لي، وما زلنا، وثائق حول القرارات والمشاريع التي طالبت بحل سياسي للقضية السورية من 2011 إلى اليوم، ووثيقة حارس القدس مذكورة فيها. وما استعجلني في كتابة المقال، ما قدمته وزارة الإعلام السورية في مسلسل “حارس القدس” والذي نسبت فيه للمطران أن ما جرى ليس ربيعا عربيا بل خريفا عربيا، مع تبني لإطروحة نظرية المؤامرة على النظام السوري..

لم يكن حارس القدس يوما في صف القامع ضد المقموع، وفي أكثر من لقاء مع الجنرال حافظ الأسد حمل قوائم بأسماء المعتقلين الفلسطينيين والسوريين في السجون السورية وطلب منه الإفراج عنهم. وفي جلستنا الجميلة، سمعت منه ما نقوله عن المظاهرات السلمية المحقة، وكيف أن العسكرة قد أضاعت حقوق الناس، ولو بقيت سلمية لتغيرت الأمور. كان مثلنا ضد الطائفية والعنف والتدخل الخارجي، ولكنه على قناعة تامة، بأن الخروج من العنف المدمر لن يكون دون إصلاح أوضاع الناس وضمان حقوقهم وكرامتهم.

من أجل هذا، وبطلب من أكثر من صديق، ولعدم تشويه صورة المطران هيلاريون كبوجي، أكتب هذه الشهادة، في إنسان دافع عن القيم الكبرى، في عصر امتهان القيم والكرامات.

——————–

[1] تنص الفقرة ب من البيان الختامي الصادر عن مجموعة العمل من أجل سورية (بيان جنيف 30 حزيران 2012) على: الشعب السوري هو من يقرر مستقبل البلد ولابد من تمكين جميع فئات المجتمع ومكوناته في الجمهورية العربية السورية من المشاركة في عملية الحوار الوطني. ويجب ألا تكون هذه العملية شاملة للجميع فحسب، بل يجب أيضاَ أن تكون مجدية أي من الواجب تنفيذ نتائجها الرئيسية.

مؤسس تيار قمح (قيم، مواطنة، حقوق).

Scroll to Top