فايز عمرو: حديث ضمير الوطن والمواطن

  • العميد الركن فايز عمرو، رمز كبير من رموز الجيش السوري الذين رفضوا الحل الأمني العسكري، واختاروا معسكر المطالبين بالحرية والكرامة. ما الذي يجعلكم تبتعدون عن الظهور والإعلام، وتختارون في مواقفكم ومبادراتكم العلاقة المباشرة مع الوطنيين، مدنيين كانوا أم عسكريين؟
  • في البداية لا بد من الاعتراف بأن للإعلام، لاسيما في عصر التقانة الراهنة، الذي تحول العالم كله فيه إلى قرية كونية صغيرة،  دوراً أساسياً ومؤثراً في مسار العلاقات الدولية ومجمل القضايا المتعلقة بالحروب والنزاعات وغيرها… سواء على مستوى الدول أو الجماعات أو حتى الأفراد. بالتأكيد لم تكن انتفاضة الشعب السوري في مواجهة واحدة من أعتى الديكتاتوريات في العصر الحديث خارج هذا السياق. أن قناعتي، التي تكونت من خلال القراءة الدقيقة لواقع ومآلات المعارضة خلال فترة وجيزة من تواجدي في مخيم الضباط، وما عايشته ولمسته عن قرب، وبتفاصيل جدا دقيقة، أوجبت عليَ الابتعاد عن الإعلام كلياً (احتراماً للشعب المنكوب). لقد أدركت خطورة المراحل التالية وتأثيرها السلبي على القضية السورية، وفي كل مرحلة وقبل كل منعطف حاد، كنت أتدخل بصفة شخصية، وأبدي الرأي بعيداً عن الإعلام على أمل….. لكن عبثاً. مع مرور الزمن كانت تترسخ قناعتي بصوابية الموقف الذي اتخذته.

قد أكون مخطئاً أو صائبا، هذا ما أتركه لكل من شاركني في هذه الرحلة الطويلة وهم كثر. غير أنني على قناعة ذاتية بأنني لم ألحق ضرراً يذكر بقضية الشعب السوري على العكس من تصرف الكثير من الأخوة العسكريين الذين نسوا أو تناسوا هويتهم العسكرية وذهبوا بعيداً دون أية ضوابط أخلاقية أو مهنية أو وطنية، حتى ألبسوا الثورة الوطنية اليتيمة عباءة التطرف، ورفعوا راياتها بالعمامات المزركشة وصولاً إلى توصيفها بخانة الإرهاب. كما ألبسوا العسكري المنشق عن جيش النظام القاتل، صفات لا تليق به، بالمحصلة شاركوا في صناعة “الشرعية المفقودة” لأصحاب القلوب والرايات السوداء، وكانوا سببا في مصادرة الثورة الوطنية اليتيمة.

  نتمنى من أبي حيان أن يحدثنا عن طفولته ونشأته؟

  • ولدت في قرية ” حوير التركمان” التي تقع في أقصى شمال جبل الحلو، التابعة إداريا لناحية عين حلاقيم وعلى بعد قرابة 18 كم جنوب غرب مدينة مصياف التي أكن لأهلها الكرام كل مودة واحترام، وأخص بالذكر هنا أهلنا في بلدة عين حلاقيم كجزء هام من النسيج الاجتماعي الذي عايشته واندمجت به وبمحبة متبادلة منذ الطفولة. لقد نشأت في كنف أسرة فلاحية بسيطة ومنفتحة اجتماعياً تعيش مما تنبت الأرض وتدره من غلال ومما تعطيه المواشي من خيرات. مارست منذ الطفولة مهنة المزارع وأتقنتها بكل جوانبها وأحببتها حباً بالأرض، استخدمت المحراس البدائي في أصعب الأراضي الجبلية، كنت عوناً لوالدي في رعاية أسرة مكونة من خمسة شقيقات وأخ أصغر. حملت الكتاب المدرسي وقلم الرصاص بيد، وعصا الراعي باليد الأخري في رعاية المواشي خارج أوقات الدوام المدرسي. كنا نسير على الإقدام يوميا قرابة عشرة كيلومترات طيلة سنوات الإعدادية والثانوية للوصول إلى المدرسة حتى تاريخ حصولنا على شهادة الدراسة الثانوية – الفرع العلمي للعام الدراسي  1973 – 1974.

بحكم كون والدتي من إحدى قرى صافيتا عشت جزءا من طفولتي وأيام مراهقتي هناك ويالها من أيام وذكريات. وعلى نحو أكيد كانت سنوات الطفولة والدراسة محطات هامة وأساسية طبعت في ذاكرتنا ذكريات جميلة في مناخ اجتماعي متعدد وملون حيث الألفة والمودة بعيدا عن صخب الحياة المادية المدنية.

  • لماذا اخترت الحياة العسكرية- والقوى الجوية؟
  • بغية الإجابة على هذا السؤال الهام والقيم، لابد من العودة الى الماضي قليلاً. في الحقيقة لم يكن خياري في أي يوم من الإيام الالتحاق بالحياة العسكرية كمهنة، بل كنت من عشاق مادة الرياضيات وأرغب بإتمام دراستي الجامعية في كلية العلوم، غير أن مرض والدتي التي افتقدناها في سن مبكرة، رحمها الله، وإدراكي بأن والدي لم يعد بمقدوره تأمين نفقات الدراسة الجامعية، أجبراني على التقدم بطلب الانتساب إلى الكلية الجوية، وبقرار فردي بعيدا عن رغبة أهلي، علما بأنني كنت قد سجلت بكلية العلوم في جامعة حلب.
  • شكلت ثورة السوريين منعطفا في حياتك، كيف أخدت القرار بالوقوف إلى جانب الشعب؟
  • على نحو العموم، لا يستطيع أي منا أن يهرب أو ينفصل عن ماضيه، الذي ينعكس على حاضره ومستقبله شاء أم أبى. في حقيقة الأمر، منذ التحاقنا بالمؤسسة العسكرية أصبنا بخيبة أمل، ومنذ الأيام الأولى للدراسة في الكلية الجوية، وضعت أمامي هدفا واحدا، هو العمل الجاد وتحقيق التفوق في العمل المهني، معتمدا على إمكانياتي وجهودي الذاتية من أجل الاستمرار في الحياة العسكرية بكرامة وشرف، كان الجيش الوطني المهني في وعيي الداخلي والمهني، أنموذج الجيش في خدمة الوطن، بمعزل عن السياسة. كان الإتقان في العمل هاجسا دائما، لذا كنا الأوائل في كافة الدورات العسكرية التي اتبعناها. ومن البدايات الأولى لتحمل المسؤولية القيادية، كنا بعيدين عن الأمراض التي كانت تعصف بالمؤسسة العسكرية، بعيدين وعن قناعة راسخة، عن الفساد في مؤسسة يغمرها الفساد، وفي علاقاتنا المميزة مع رؤسائنا ومرؤوسينا، أنصفنا مرؤوسينا بعيدا عن المحسوبية والعقائدية في ظل مناخ تسوده كل العلل والأمراض الخبيثة.

كما كنا نفرض طبيعة العلاقة مع رؤسائنا من خلال النجاح والتفوق في العمل والتميز في أداء الواجب المهني لا من خلال الطاعة العمياء. يمكنني القول بكل فخر واعتزاز، وأنا في قمة الرضى عن النفس، أنني في كافة مواقع المسؤولية، التي كان لي شرف التصدي لها طيلة خدماتي العسكرية، بدءاً من قائد فصيلة، حتى المنصب الأخير كمدير للمدرسة الفنية الجوية لمدة ست سنوات تقريبا، كنت الأخ والأب والصديق والراعي والحامي للمرؤوسين من ضباط وصف ضباط ومتدربين ومستخدمين مدنيين. كنت السيف المسلط على الفاسدين والطائفيين. كما أجزم بأنني كنت موضع ثقة رؤسائي، لا سيما وقد عاصرت ستة قادة للقوى جوية وأنا بموقع المسؤولية الأول في المكان الذي خدمت فيه.

كانت الثورة تشغل مخيلتنا ولم نفاجأ بها، لأننا كنا على دراية تامة بالواقع المأساوي الذي وصل إليه السوريون بمختلف انتماءاتهم السياسية الاجتماعية والقومية والدينية. كنا على يقين بأنهم متساوون في نصيبهم من الظلم والاستبداد. وكم كنا سعداء نتبادل الرأي مع بعض الضباط الموثوقين أثناء الخدمة ونرفع القبعة للمسيرات السلمية الراقية. كما كنت أتوجس شخصيا من عسكرة الثورة.

منذ بداية الثورة اتخذت قرار النأي بالمنشأة عما يحدث في الشارع “كوني مدير منشأة عسكرية فيها الآلاف من المتدربين من مختلف الفئات العلمية (إعدادية – ثانوية – معاهد متوسطة – جامعات). وبذلت أقصى الجهود للحفاظ على أمن وسلامة واستقرار المنشأة، وخلق جو من الألفة والمودة بين كافة عناصرها، وبقيت المنشأة بعيدة عن كل ما يحدث في الشارع ولم تمس المنشأة مواطن ولو بكلمة تسيء له حتى تاريخ الانشقاق عن الجيش.

لم تكن إدارة المخابرات الجوية راضية عن موقفي حتى قبل الثورة، وبالتحديد كنت على خلاف دائم مع اللواء جميل حسن، لأنني كنت أرفض المحسوبيات وفي أكثر من موقف، رفضت منح بعض أبناء المتنفذين إجازات رسمية أثناء الدورة، حيث حاول في أكثر من مناسبة فرض ما يريده ولكن عبثاً. أما اتخاذ قرار ترك المؤسسة العسكرية فكان على خلفية أسباب ثلاثة هي:

أولاً – تصريح رئيس النظام في المؤتمر الدوري لمجموعة القائد العام بالمضي قدماً في الحل الأمني والعسكري. هذا يعني استمرار القتل والتدمير والتهجير.

ثانياً – المشادة الكلامية مع اللواء جميل حسن في اجتماع مجموعة قائد القوى الجوية والدفاع الجوي الذي أفاد بتكليف المخابرات الجوية من قبل رأس النظام بتصفية المدنيين والعسكريين المنشقين عن النظام، وإضافة تصفية المترددين عن إطلاق النار على المتظاهرين السلميين حسب رأي اللواء المذكور وأحمد الله بأنني كنت الوحيد الذي واجهته وجها لوجه بعدم تخوين من يتردد في إطلاق النار على المظاهرات السلمية.

 ثالثاً – وهو بمثابة السبب المباشر هو تعرض مدينة حمص لقصف مدفعي وصاروخي همجي وحشي لا يمكن تصوره حتى في الأفلام الخيالية، لمدة أربعة أيام متواصلة، وتحديداً أحياء الخالدية وبابا عمرو. حيث كنت متواجدا هناك.

  • كل من يسمع اسمك من الضباط يقول لنا: عنيد في وطنيته لا يقبل أي تدخل أو توجيه من أي طرف أو بلد. لا شك بأن هذا الموقف غالي الثمن في أوضاعنا السورية ؟
  • في هذا السياق يمكنني القول بأن الخصال الوطنية لا تباع أو تشترى بالمال وهي جزء من شخصية وتكوين الفرد منذ الطفولة التي ينهل منها الإنسان كائن من كان، لقد كنت على نقيض دائم مع مواقف وأفعال “المسؤول” عن الملف السوري، وكان دائما يتهمني بالعناد، ولم أتمكن من الاستمرار بالعمل معه، لأن المطلوب منك أن تكون مجرد دمية وشاهد زور، وهذا ما لم أقبله، ودونت تحفظاتي على كل ما يجري وآثرت الابتعاد. بالتأكيد هناك ثوابت وطنية تتعلق بالسيادة والحق، وهي بالنهاية ترتبط بالشرف والكرامة، ولا يمكن التنازل عنها أو مجرد التفكير بالتنازل عنها تحت أية مسميات كانت. كما أن التدخل الخارجي من قبل أي طرف بالشأن الوطني خارج حدود السيادة الوطنية مرفوض من حيث المبدأ ولا يمكن القبول به، أرفض المساس بوحدة الشعب السوري وتواجد أي جندي أو مقاتل أجنبي على الأراضي السورية، واعتقد بأن اتخاذ أي دولة القرار بدعم الشعب السوري، لا يمنحها الحق بالتدخل  وفرض إرادتها حماية لمصالحها الذاتية، على حساب السيادة الوطنية السورية. أيضا نرفض التدخل من قبل أي جهة كانت من منطلق عقائدي. سورية فيها من القوى البشرية ما هو قادر على تحقيق الانتصار على الديكتاتورية لولا التدخل الخارجي.
  • هل ما زلت تعتقد بإمكانية قيام جمهورية موحدة وذات سيادة؟
  • إنني على ثقة تامة، بأننا نحن السوريين، تقع على عاتقنا مسؤولية تحقيق قيام جمهورية ذات سيادة  أنموذجية في المنطقة. وأعتقد جازما بأن التدخلات، وعلى نحو الخصوص الإقليمية، ستنتهي حين يلتقي السوريون على طاولة تقرير مصيرهم، باعتبارهم أصحاب الحق والقرار فيما يخص بلدهم، وليسوا مجرد دمى تابعة لهذا الطرف أو ذاك. بالتأكيد عندما نثبت وجودنا ونقف معا لوحدة وسيادة بلدنا، سيكون الموقف الدولي إلى جانبنا.
  • كنت في مجموعة من الضباط والسياسيين الذين كتبوا المبادرة الوطنية السورية التي تعمل لعقد مؤتمر وطني سوري. وقد وقع على مبادرتكم أكثر من ألفي مواطن ومواطنة، أحد شركائك في المبادرة وصفك بالقول: الأكثر تواضعا وعملا بصمت، ولكن أولا وأخيرا، الأكثر احتراما للنظام الداخلي والمبادرة. نتمنى أن تجيبنا ولو أن هذه مسألة تنظيمية، ما هو سبب وصفك بحارس النظام الداخلي؟
  • في الحقيقة عندما نتحدث عن المبادرة لابد من التأكيد على أنها ليست مجرد كلمات سطرت، بل هي وثيقة عهد تمت مناقشتها من قبل الأخوة الأعضاء المبادرين باستفاضة على مدى أشهر، وهي تمثل، برأينا، نقاط الانطلاق الأساسية للحل السياسي، وقد تم اعتمادها بالإجماع. وهي تضم ميثاق الوطن والمواطن الذي يتضمن مبادىء فوق دستورية تمثل روح العقد الاجتماعي المستقبلي المنتظر  بين أبناء الوطن، من هنا تنبع ضرورة الاحترام بلا حدود لهذه الوثيقة الوطنية.

        أما في الحديث عن اللائحة التنظيمية فيمكنني التأكيد على مجموعة من النقاط:

  • أتمنى أن أكون الأكثر احتراما لهذه اللائحة، وبالتالي الأكثر احتراما لباقي الزملاء الذين اعمل معهم، إيمانا بأن لا احترام دون احترام العلاقات الناظمة للعمل.
  • أجزم بأن الأنظمة السياسية التي لا تحترم دساتيرها، هي تلك الأنظمة التي لن ولا يمكن أن تحترم شعوبها.
  • لا يمكن تصور نجاح أية مجموعة، في أي عمل، مهما كان بسيطا، دون وجود ضوابط لهذه المجموعة، الفوضى لا تحتاج إلى معرفة، وهي سهلة المنال، بينما يحتاج النظام إلى مزدوجة المعرفة والإخلاص. من هنا أجد نفسي ملزما بالحصول على المعرفة والإخلاص للدستور، أو اللائحة الداخلية في حال سؤالكم، وبالتالي الإخلاص لأهلي وبلدي.
  • الكل يقول ما بعد كورونا ليس كما قبله. هل ينطبق هذا الكلام برأيك على القضية السورية؟
  • مما لا شك فيه بأن تداعيات الكورونا قد تكون طويلة الأمد على الاقتصاد العالمي، وسيكون لها منعكساتها المباشرة على التغيير في السياسة الدولية. ويتوقف ذلك على قدرة القوى الفاعلة في المجتمع الدولي. من المحتمل أن تتعرض القوى الإقليمية إلى أزمات اقتصادية حادة. وتبقى اقتصاديات الدول الفقيرة ومنها سورية أكثر تأثرا في مثل هذه الأزمات. وفي الوضع السوري نحن أمام كارثة مستقبلية بسبب:
  • إن انتشار الوباء في بلد يعاني من شلل في القطاع الصحي قبل انتشاره.
  • تمزق البلد إلى مناطق سيطرة متعددة وانتشار المخيمات العشوائية المكتظة بالسكان.
  • عدم وجود سلطة مركزية والشلل التام الذي يعصف بكل قطاعات الدولة وفي المقدمة القطاع الاقتصادي .
  • تحول الصراع من الداخل السوري إلى الصراع على سورية بين قوى إقليمية ودولية.

كل ذلك ينذر بكارثة قادمة، ويجعل من الوضع الذي سيؤول إليه البلد رهن الوضع الاقتصادي والإرادة السياسية للدول الفاعلة في الملف السوري.

كما أن ما بعد الكورونا، كما هو ما قبل الكورونا، رهن بوجود السوريين أنفسهم على الطاولة المستديرة. وهذا يتوقف على إرادة السوريين ووحدتهم في مواجهة المرحلة القادمة. من هنا تنبع ضرورة عقد مؤتمر وطني سوري عام مستقل من أجل استعادة القرار الوطني السوري الذي سيكون شرطا لازما لاستعادة السيادة الوطنية السورية.

مع آخر كلمات حديث “الضمير الوطني وصوت المواطنة” الصادر عن ضابط كبير، يشهد بنزاهته الخصم قبل الصديق، يتشامخ السؤال الذي لم يتطرق إليه أحد من قبل، ويغيبه الجميع منذ تسع سنوات، كأنهم يخافون النظر في المرآة والرد على سؤال جوهري: ماذا فعلنا من أجل الحفاظ على كرامة عشرات الآلاف ممن لم يرتضوا بيع مواقفهم الوطنية، من أجل لقمة الخبز، وآثروا الصمت حفاظا على الكرامة.

كيف يعيش آلاف الضباط والموظفين المتقدمين في السن المنشقين عن النظام في دول الجوار؟

وماهو السبيل لمساعدتهم كي يحافظوا على كرامتهم؟

—-

لقاء خاص أجرته مديرة التحرير لموقع كركدن

Scroll to Top