همام داؤد
بعد وصول خبر تفشي ڤيروس كوفيد-١٩ في مدينة ووهان في الصين، لم يُصبني لا أنا ولا أحد من أصدقائي من جنسيات متنوعة، أيَّ خوفٍ من انتشاره في بلجيكا، وكان يُزعجنا كِثرة الكلام عنه، وصَبُّ الإعلام تغطيته الكاملة على هذا “الموضوع” بأرقامه، وتحليلاته ومؤامراته، ما حجب عنِّي مثلاً، التغطية على مواضيع أُخرى، أخذت ومازالت قسماً كبيراً من وقتي اليومي.
ما كان خبر تفشي الڤيروس في إيطاليا بالشكل السريع، إلا مُؤشِّر إنذارٍ، جَعل الجميع يَقظ، مُتابع لتطورات أحداث الڤيروس، ومُلاحق لمؤشرات صعود عدد المُصابين أو/والمتوفيين جراء الإصابة بِه. وكان الكثير، سهل الانجرار وراء أخبار مُبكِّرة جداً أو إشاعات “علاج قريب للڤيروس تنتجه مؤسسة المانية” أو “لقاح الطبيب الفرنسي” أو “اليانسون هو الحل”.
لم أستطع أن أبتعد عن حالة الخوف والقلق المُحيطة بي، حاولت أن أتجاهل الموضوع لكنِّي لم أستطع، المقالات والحديث عنه في كل مكان. قلق المواطنين حول قرار التوقف عن العمل أو الدراسة، والتزام البيوت، كان قد تمَّ تداوله بشكل جداً مُبكر.
في مكان عملي السابق “مهرجان الكُتب في بروكسل”، كُنّا مُتخوفين من قرار إلغاء المهرجان، كَون الحادثة بدأت تسوء خلال الأسبوع السابق لموعده المُحدد منذ سنة، وألُغي على أثر تضاعف تأثير الڤيروس في أكثر من دولة أوروبية، عدد من مهرجانات كُتب مُشابهة كمهرجان الكُتب في باريس، لكن للحيطة، تم اعتماد التدابير الوقائية من قبل فريق العمل تجهيزاً ليوم افتتاحية المهرجان في بروكسل، وهي أولى التدابير التي فرضتها الدولة البلجيكية على مؤسساتها، ومواطنيها. وضمن المهرجان كانت كالتالي تقديم مُعقمات أيدي توزّع بشكل مجاني، وإعلام كُل مُشارك بالمهرجان من أصحاب دور النشر بالتدابير الصحية الوِقائية، بالإضافة إلى تنظيم الصليب الأحمر جلسات توعية. لَم تُوزَّع الكمامات، لكيلا نصيب الزائرين بالخوف أو الفَزع.
لكن النقاشات لم تتوقف حتى اليوم الأول من المهرجان، فإن قرار إلغاءه كان يُعتبر برأيي وبرأيي آخرين كانوا معي، قراراً يُشبه قرار إعلان الحَرب.
كنت مُقتنعا بأن الدولة لن توافق على قرار إيقاف عمل مهرجان بهذا الحجم، رغم أن خبر تنظيم مُظاهرات تنادي ضد عقد المهرجان، كانت حاضرة في الساحة التي ينطلق منها باصات تنقل الزائرين من وإلى مكان المهرجان، وكنت أرى أن من مسؤولية الدولة اتخاذ تدابير مسؤولة، إذ إنه من الخطأ إفزاع المواطنين بخطر لا يعلمون بَعد حجمه، وكانت التدابير الوقائية الأولى أوّل تجربة، يُنتظر منها نتيجة.
دامَ المهرجان حوالي الخمسة أيّام. التعاون موجود، والالتزام بالتدابير الجديدة كان إلى حدٍ ما جيد. وبالطبع لم تَسلَم الجنسيات الآسيوية، والتي تم تصنيفها جميعها “صينية” من بعض التعليقات العُنصرية أو اختلاف التعامل مع أشخاصها، ما أَنذر بموجة عنصرية ستُخلق إثر حادثة الڤيروس.
انتهى المهرجان، ومنها انتهى عملي معهم. كنت قد حصلت على تدريب عمل في إحدى الجمعيات، تُعنى بشكل كبير بأمور اللاجئين والإندماج. وتم الاتفاق على أن أبدأ عملي بعد أسبوعين من تاريخ انتهاء مهرجان الكُتب.
كان الوقت ضيّق، وأخبار الڤيروس تتزايد، وللمرة الأولى تُلاحظ وجود “إصابات في بروكسل”، أشخاص يرتدون كمامات وقفازات للأيدي يمشون في الشوارع، أو يخافون لمس الأعمدة في مترو الأنفاق.
ازداد الرعب، وازدادت معه اتهامات عنصرية طالت الآسيويين، وأصبح خبر الإغلاق الكامل والحجر الصحي قريب التَحقق.
إحدى الفيديوهات التي نُشرت على وسائل التواصل، لشخص يرتدي كمامة في المترو، والذي استعمله يومياً، يرفع الكمامة ويضع البعض من ريقه على إحدى أعمدة الميترو، أصابني بالاشمئزاز والرعب، من هكذا حالة، من رغبة أشخاص بنشر المرض. لم أُفكر كثيراً بالسبب، ولم أُبرره بشكل أعمى “غضب على المجتمع” أو “لا نعلم ما هي الخلفية النفسية لهذا الشخص”، بل احتقرته.
استيقظت يوم الجُمعة، بعد أسبوع من تحضير أوراق إدارية، وترتيب عدّة سفرات منها لمؤتمر وأخرى لتكملة عمل تصوير وثائقي، وعَلمتُ بخبر الإغلاق، والتدابير الجديدة التي صرحها “Conseil National” البلجيكي. فرض الحجر الصحي في المنازل، وإغلاق المدارس والمؤسسات الإدارية، وتقييد عمل المحال التي تُعنى ببيع المواد الغذائية. صراحةً لم أكن قادرا على تحمّل القرار، وأحسست بنوع من الأنانية، جعلتني جالساً وحدي، محاولاً أن أجد حلا بعد أن ألغي كل شيء كنت على وشك القيام به أو التحضير له، باحثاً عن حلول مادية أخرى. لم أنجح في البداية بالتأقلم، وكان الجلوس في البيت مًصيبة بالنسبة لي.
بدأت بجمع المقالات والدراسات لفهم الحالة التي نحن فيها، وشاركتها مع الجميع. حاولت أن أواسي ذاتي بأن أتمتّع بالخيارات المجانية الجديدة، مثل زيارة متاحف بشكل افتراضي، كُتب نادرة، حضور مسرحيات أوبرا وغيره. وبدأت بكتابة بعض المشاريع التي من الممكن القيام بها من البيت.
استحوذ عمل منظمات المُجتمع المدني انتباهي، فكان مثلاً الرد على فعل الشرطة البلجيكية بطرد اللاجئين ومن ليس لديه مكان يأويه من إحدى الحدائق المَشهورة في بروكسل، بأن وجدوا أماكن لإقامتهم طوال فترة الحجر الصحي “فنادق – بيوت اجتماعية”، وازداد نشاط المَعونات وتوعية المواطنين حول ضرورة البقاء في المنازل وتقديم المُساعدات لمن هو غير قادر على توفير المُستلزمات اليومية. استطاعوا توحيد شعب على شعار واحد “Stay Home”، هذا الجهد الذي لم تستطع الدولة البلجيكية في البداية أن تحققه، ولا شركات رأسمالية أخرى خانت العامل ولم تتفهم خسارته لقُوْتِه بسبب التدابير الوقائية، الضرورية للجميع. لم تجد بديلاً يُنقذهم.
هذا الحَدث والدراسات التي تُظهر التأثير الإيجابي للإغلاق على البيئة، ووقف عمل عجلة السوق الحُر، وتصاريح مسؤولين أوروبيين بعنوان “مناعة القطيع”، أصابتني بالأمل، بأن ما بعد كورونا ليس نفسه ما قبل كورونا، والمؤشرات كانت تميل للإيجابية بالنسبة لي، رغم إيماني بأن الرأسمالية ستحرق الأخضر واليابس لِتُعوض ما خسرته وما ستخسره، خلال فترة الإغلاق، وهذا الأمر ليس بالجديد. لكن تَعويلي كان على الشعوب، بيقظة واحدة يُفهم فيها ضَعف النظام الحالي بإدارة الكوارث، وبالتالي العمل على إيجاد بديل مُنصف.
لَم تَدُم هذه الإيجابية الخجولة وقتاً طويلاً، لأنَّ أخبار الشرق الأوسط المُتعلقة بالڤيروس كانت مأساوية. في فلسطين، بدأ عدد الإصابات بالازدياد وخبر الڤيروس في غزّة المُحاصرة والمُنهكة، هو أمر مُخيف بشدة، ففي الوقت الذي تتعرض فيه غزّة للحصار والحرب العسكرية من قبل الاحتلال، جاء الڤيروس مُنذراً بإشعال قِصة المعاناة الغير مَعقولة، وإضافة جزء جديد في تاريخها، والتي يَلعب الاحتلال فيها دور “راعي انتشار الڤيروس” بزيادة حصاره ومنعه إدخال المُساعدات الطبية.
خبر آخر تُشاركه عِدّة أنظمة عربية أقل ما يُقال عنها “أنظمة بلاستيك”، غبيّة ولا يُعول عليها في شؤون إدارة أزمة سببها الڤيروس في البِلاد. تَطرح حلول غبيّة وغير مسؤولة وتُسلّم لِدمى يضحك عليها الشارع العربي.
في الحالة السورية، في المناطق الخاضعة لسلطة النظام، فإن الأخير بارع بإخفاء أرقام الإصابات. لعدّة أسباب، بدايةً الفقر الذي أصابنا به جراء الحرب التي أشعلها، وبالتالي لا يوجد مُعدات طبية كافية أو حتى طاقم طبي قادر على قيادة هذه المُهمة الطبية المُستعجلة، ويمكنكم قراءة تقرير فريق سوريا في برنامج بحوث النزاعات في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، تقرير بعنوان “جائحة الكوفيد-١٩: استطاعة القطاع الصحي والاستجابة في سوريا”، للاطلاع على الأرقام المُرعبة والتي تُنذر بمأساة ستصيب الشعب السوري، بحال لم تُتخذ إجراءات قد تَصنع فرقاً أو تصوراً آخر. السبب الثاني، هو النظام نفسه الفاقد للكفاءة في إدارة الأزمات، ولدينا الكثير من الأمثلة ومنها مثال الڤيروس نفسه، إذ إضافة لإخفاء النظام عدد الإصابات الفعلية وخروجه بتصريحات تَعودنا عليها، على مَبدأ “سوريا بخير”، يطرح النظام إجراءات غير مناسبة أو غير مُكتملة لتتناسب مع الوضع الاقتصادي للبلاد، وللتذكير 83% من الشعب السوري هو تحت خط الفقر، فكيف من الممكن للسوري الذي يَكسب قوت عمله بشكل يومي، الالتزام بالحجر الصحي، دون مُساعدات حكومية وتدابير صارمة تُساعد، لا تخنق المُواطن.
سياسة النِظام بخصوص عمل مُنظمات المُجتمع المدني، إذ خَنق النظام هذا الجهاز المَدني الوقائي وأذاب كل المنظمات و الجمعيات التي تَشكّلت بعد اندلاع الثورة السورية، بأيدي مُنظمة أو اثنتين تعودان بشكل مُباشر وغير مُباشر لإرشادات السلطة، ولدي الكثير من الأمثلة الشخصية بخصوص هذا الموضوع كوني كنت ناشطا ومُتطوعا في العديد من الفرق المدنية التطوعية وساهمت بتشكيل وإدارة البعض منها والتي لم تَدم لوقتٍ طويل، وللعلم هذه الفرق “مدنية” تشكلّت للمساعدة في ظل الحرب، لم تحمل أيّة أيديولوجية سياسية أو أيَّ اصطفاف كان. لذلك، بمقارنتي مع نشاط المُجتمع المدني في بلجيكا مَثلاً، نكون بسبب هذه السياسة قد خَسرنا هذا الدور الفَعال والضروري في دولة أصابها مرض الحرب، ومرض الديكتاتورية.
أمرُ آخر “بزيد الطين بلّة”، هو التحويلات المالية. يُمكن للسوريين خارج سوريا القيام بتحويلات مالية من الخارج إلى الداخل عبر مسارين، مسار قانوني غير مُنصف، لكنه مُربح للنظام ويَمشي تحت معايير العقوبات الاقتصادية الأوروبية، أو السوق السوداء والتي رغم سوئها تَبقى أرحم من المسار الأول. هذه التحويلات تُعد مَصدر رزق لعدد كبير من العائلات السورية، وتشديد النظام على طُرق إجراءات التحويلات المالية غير القانونية، يُرهق هذه العائلات، فيكون المسار القانوني للتحويل المالي هو الخيار الوحيد للسوريين في الخارج، وفي آخر المَطاف، يَستفيد النظام بتمويل حربه ومؤسساته وأشخاصه. ونأتي لنقطة العقوبات الاقتصادية، التي تحارب شعوب وليس الأنظمة، وتفرض حصاراً يُساهم بازدياد الفقر. بالإضافة لرفض النظام التعاون مع منظمات دولية للصحة.
الوضع في المناطق السورية خارج سيطرة النظام قد يكون مُختلف، لكن الفقر والعجز واحد، والخطر مازال موجود.
الخوف يُصيب الجميع، والتكتم هو سياسة الظالم ضد الشعب. لا نعلم ما هو مَصير المُعتقلين الآن، وهذا ملف لا يتحدث عنه أحد تقريبا، فالعالم لا يريدأن يرى الإكتظاظ في السجون السورية كافة. وغياب الحد الأدنى للخدمات الطبية بل وخدمات النظافة الضرورية, أما السوريين النازحين فيصعب مقارنة أوضاعهم بأي وضع بشري للاجئين اللهم إلا الروهينغا. أما اللاجئين في الدول المُجاورة فلم تعد جموعهم تثير فضول أحد، وفقد وقفنا جميعنا، المعني وغير المعني، نراقب مصير من حاول منهم الخروج على الحدود اليونانية. هل هذا الڤيروس يُنذرنا بمجازر من نوع جديد.
لست قادراً على تَصور أي حل أو صناعة تصور قادر أن يُطمئنني، ولا أعلم إن كان تدخل مُنظمات دولية للصحة في الشأن السوري ممكن أو قادر على إنقاذ الوضع.
هذا الشؤم يُلاحق السوريين أينما كانوا، حتى السوريين الذين رغبوا إنقاذ أنفسهم، هم عالقون في اليونان بظروف سيئة للغاية تُساهم بجعل تأثير الڤيروس أكثر خطراً.