“قَدَرُ الذَرّة أن تكافح في سبيل البقاء” ، لقد قلتَ هذا وعُشت هكذا حتى النفس الأخير.
صحيحٌ ما قاله أصدقاؤك في سيرتك: كاتب، مفكّر، محلّل، عالم في القانون، خبير ومحامي دولي، المثقّف النادر المثال، رائد وباحث، مثال في النزاهة واستثلالية الرأي، وغيرها من الصفات.
دقيقٌ ما شهد فيك شهود من عارفيك في مواقفك الصامدة: الوطني، العربي، العروبي، الفارس الهمّام، الممتشق سلاح الحقّ، المدافع عن قضايا الأمّة، الإنتحاري في وجه الظلم، رمز لمواجهة النظام الطائفي في لبنان، جندي من جنود الحقّ، سيف من سيوف الحقّ والعقل، فلسطين عنده المظلوم الأكبر، غاب مقهورًا، عالِمٌ في مفاهيم الديمقراطية.
صائبٌ ما قاله مُحِبّوك في خِصالك: دافىء الفؤاد، من صلابة الجبل، رايَتُهُ لن تسقط، أصالة الكلمة، صوت مدوّي.
ولكن، ربّما أقرب صفاته الى القلب والعقل معًا صفة “الإنسان”. تعارفنا منذ أقلّ من عقد من الزمن حين دخلنا سويًّا الى حضن أمناء المنظمة العربية لمكافحة الفساد في بيروت. ومنها؟ تطوّرت العلاقة وتفاعلت حتى أصبحت بيننا صداقة الطفولة، وما أبْرَأها، وعلاقة الصِبا، وما أشقاها، ورِفقة الشباب، ويا أحلامها ومغامراتها الإفتراضية، فالى حوار الشايِبيْن، وهدوئهما العاصف. عجبًا، نادرًا ما كوّنت صديق طفولة في هذا العمر المتقدّم ! هو صديقك، بالدليل القاطع كما تمليه عليه مهنته. وتبقى أبرز صفاته البساطة. البساطة هي الأساس: من السياسة الى الهِندام فالمأكل والمطلب، وباقتضاب: البساطة هي هناء العيش.
داود، لقد قوْنَنْتَ عقود المشاريع لمظلومي أصقاع الأرض ممثّلًا منظمات مالية وأكاديمية عالمية طالما رفضتَ خفايا مراميها وفضحت خبايا مآربها بصراحتك المعهودة التي لم تتبدّل رغم أثمان الزمن، غير آبهٍ بالعواقب، وكأنّي أراك تخاطبهم بكلمات الشاعر الذي أحببت:
” غير أنّي فاقدٌ ما بينهم معنى وجودي
كجوابٍ مستفزٍّ قبل أن يُلْقى السؤالُ! ” (*)
يبادرك هاتفيًّا من واشنطن، أو من بيروت، بندائه المحبّب “يا بَطَلْ ؟” وتنهمر تعابير الصداقة بالصوت الرخيم والجهوري معًا، باللطافة القوية، بالمفردات المنتقاة يتهذيب المُتأنّي، المقَوْنَنة على قياس إختصاصه، ثم يظهر الى اللقاء بسطوع القامة وابتسامة المُحيّا.
لم يفارقه حبّ الحياة منذ طفولته في بحمدون القلب التي كثر ما حرص على زيارتها كلّ مرّة ليتفقّد بشرها وحجرها ويعيش عاداتها الأصيلة ويعيد ذكرياتها البسيطة. ومنها أخذ معه الى غربته الى ما بعد بعد غروب الشمس، أخذ معه حبّ الدبكة والمجدّرة الملوخية وغيرها من التراث.
بقي الى أيامه الأخيرة يُخْرِج من ذاكرته الذاخرة، الى جانب السياسة وتوابعها المُتعِبة، الشعر والأدب والموسيقى والغناء والرقص والزجل والغزل والأمثال الشعبية. مفعمٌ بالحياة كنت بالفعل. وفي المجتمع؟ حضورٌ آسرٌ واحترام. فهو الرقيق من دون ضعف، والمُرْهَف من دون مجاملة، والصدوق من دون محاباة، والعنيد من دون محاربة، والخلوق من دون تكلّف، ودائمًا مزوّدًا بالأخلاق العالية، مهما احتدّ النقاش، وما أكثر ما كان يحتدّ. ومعه، فحضورٌ يقِظٌ، متابع، موضوعي في الإجتماعات ومن على الشاشات.
وغدًا، فجر الثلاثاء، دائمًا ما كنت تغادر بيروت، مرتين بالسنة، الى البعيد. وفي ليل الخميس دائمًا ما تكون مكالمتنا التواصلية بعد استراحة الطيران للحفاظ على خيط الفكر.
حماسةٌ لا تندمل. دَرَسَ وبَحث واقتنع وأقنع وعمل وعلّم وأصرَّ خلال مسيرته كلها على وجوب إعتماد مبدأ الجهد والنتيجة الصعب حتى ختم مؤلفاته الغزيرة بالفكرة.
لم يرضخ قط لأجواء الإستسلام، ولا لمقولة “فالج لا تعالج” وما شابه. ومعه، عليك أن تجاهد أبدًا كما في قَدَر الذرّة.
ستبقى في بالنا يا داود كما أمّلتَ: من أهل السُوى… على درب الصحّ والحقّ.
لقد رحلت قبل أن ترى العالم بأكمله عاجزًا، البشرية بكاملها مريضةً، تمامًا كما حَذَّرْتَ !
وداعًا فارس الصداقة… نَمْ يا حبيبُ فطول العمر لم تَنَمِ.
بيروت، في 23 آذار 2020م. حيّان سليم حيدر.
______________________________________________________
(*) من شعر سليم حيدر، ديوان “إشراق” – دار المطبوعات للتونيع والنشر ش.م.ل. – 2016.