ما بعد كورونا: عوالم جديدة في الأمن والتنمية

كشف الذعر الذي أثاره فايروس كورونا سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، رخاوة وانهياراً غير مسبوقين لفكرتي الأمن والتنمية، في عالم مازال آخذاً بالتحديات البينية الصلبة بين البشر، دولاً، وجماعات، وإيديولوجيات. حيث ظهر الفيروس كعدو جديد يهزأ من صراعاتنا الكلاسيكية السخيفة، فلا يعترف بدولة أو اقتصاد أو دين أو طائفة أو إثنية، واضعاً العالم أمام لحظة تاريخية لإعادة صياغة مفاهيم الأمن والتنمية بكل مستوياتها، ما يضع العالم أمام احتمالات أخرى لبروز تحديات جديدة المنشأ، اتساقاً مع سيرورة التحولات التاريخية لأشكال التهديدات والصراعات.

يبدو التهديد الذي أصاب العالم بعد فايروس كورونا وكأنه سيرٌ في الاتجاه المعاكس للعولمة، التي أسقطت سهواً أو عمداً عولمة فكرتي الأمن والتنمية، كفكرتين متلازمتين أعاد كورونا توصيفهما كمفهومين عالمين يخضعان لنظرية الأواني المستطرقة في جميع المستويات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، البيئية والصحية. الأمر الذي يضع العالم أمام استحقاقات تتعلق بإمكانية استكمال البنيان العولمي وترميمه، بدءاً من عولمة فكرتي الأمن والتنمية، وبما يتوازى مع التحديات الجديدة لعالم ما بعد كورونا.

السؤال الكبير: هل سيشكل الانتصار على العدو الجديد فرصة يجدر اقتناصها لإعادة أنسنة العولمة أكثر فأكثر، وتخفيف عقيدة التوحش في هذا العالم المحكوم الصراع؟. أم أنه مرحلة جديدة وشكل جديد من أشكال الصراع وتحولاته التاريخية، بدءاً من الحروب الدينية، فالإيديولوجية، فالاقتصادية، وربما البيولوجية، وبالتالي إبقاء هذا العالم في أتون صراعات جديدة، تدفع ثمنها – في كل مرة- البشرية جمعاء.

في مراحل ما قبل فايروس كورونا، ظل مفهوما الأمن والتنمية مرتبطين بفكرة مركزية الدولة، فطغتْ مصطلحات مثل نسبة التسلح، والقدرات الذاتية، وعوامل القوة الكلاسيكية، ما أدى إلى تلازم قسري أفرز تحيزاً واضحاً لواقعية العلاقات الدولية على حساب قواعد ومبادئ القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، وهي المتلازمة التي جعلت العالم يدور في فلك الانتحار المتبادل بين الدول، أو انتصار معسكر على آخر، كما حصل مع الاتحاد السوفياتي الذي تفكك دون حرب بسبب الإغراق في بيروقراطيات إيديولوجيته، بينما كان العالم المتحضر تسوده سلطة المعلومة والتدفق المعرفي والرقمي، قابله توجه أمريكي نحو مبدأ الوفاق الدولي والانفتاح الذي أنجزه هنري كيسنجر، قبل أن تعززه نظريات ” موات الإيديولوجيا” و” العصر التكنوتروني”.

بالرغم من ذلك، لم تسلم البشرية من تداعيات الصراع، إذ اقتصرت هذه التحولات على تحقيق الأمن والتنمية والرفاهية الاقتصادية في إطار الدولة المركزية، التي سعت لصياغة سياسيات وبرامج تعمل على مصالحها الذاتية وتوسيع نفوذها ليس إلا. ولعلَّ ما أورده المفكر الأمريكي روبرت مكنمارا Robert McNamara -الذي شغل منصب وزير الدفاع الأمريكي الأسبق في سبعينيات القرن الماضي- في كتابه “جوهر الأمن”، يقودنا إلى عقيدة الإبقاء على مفهومي الأمن والتنمية في إطار الالتزام بتلك المركزية، التي اختصرت المفهومين في إطار الذعر والخوف من التهديد القادم من خارج الحدود.

اليوم يقف العالم في مراحل ما بعد كورونا أمام تهديد جديد، لقادم جديد من وراء الحدود، فيعولم الموت ويفتح الباب على مصراعيه لشكل جديد من الصراع، ما فوق صراعات الدول الوستفالية. ناسفاً أفكار ” مكنمارا” التي اختصرت فكرتي التنمية والأمن في إطار مركزية الدولة. فالقادم الجديد يعبر الحدود، ويقتل الآلاف، ويوقف الملاحة الجوية، ويدمر الاقتصاد، ويفرض الحجر الصحي على ساسة وزعماء الدول وشعوبها، واضعاً العالم أمام حيرة وخوف، وكاشفاً ارتباكه وضعفه أمام أية هزة جديدة أو تهديد محتمل.

اجتاح كورونا عالمنا في الوقت الذي مازال مكتظاً بالبؤر السياسية والاجتماعية والبيئية والصحية، وكأن كورونا ينتقم من عولمة عرجاء، وسّعت الهوة – بشكل مرعب- بين مجتمعات العالم المتحضر ومجتمعات الدول النامية في جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصحية، حتى أصبح مصطلح ” الفارق الحضاري” غير كاف للمقارنة أمام صدمة حضارية انعكست بشكل سلبي ومريع على جميع البنى في الدول النامية/ الفاشلة/ الممزقة، وهو الانعكاس ذاته الذي شكل رحماً حاضناً للعديد من الولادات المشوهة، التي أفرزت في مراحل ما بعد العولمة أشكالاً جديدة من البؤر والصراعات التي أصبحت تهدد العالم أجمع.

الآن وفي عالم ما بعد كورونا، تقف العولمة أمام استحقاقات جديدة، فالظاهرة التي يُسجل لها تحويل العالم إلى قرية صغيرة زادت من حاجات أفراد هذه القرية في جميع مناحي الحياة، دون قدرتها على تحقيق إنماء متوازن لجميع أفراد هذه القرية، ما زاد من اتساع الهوة أكثر فأكثر.

يجتاح كورونا العالم في الوقت الذي مازالت تعصف فيه الحروب، ويحكم الاستبداد، وتتفشى الآفات الاجتماعية، ويسود الجهل والأمية، ويتصاعد الحرمان، وتنقص الخدمات الأساسية، فيغيب الأمن ليحل محله الانتقام والفوضى، التي تعشعش في المناطق النائية والأزقة الفقيرة، والسكن العشوائي، مولدات التطرف، الذي لم يعد تهديداً أمنياً داخل حدود الدولة الوطنية الهشة وحسب، إنما ألقى بتداعياته على شوارع جيرمن ستريت، والشانزليزيه، ومسرح البتاكلون.

وفي خضم كل هذه التحديات والتهديدات يثبت فايروس كورونا – وبما لا يدعو للشك- أنه قادر على خلق أنواع جديدة من التهديد الذي يرعب العولمة في قعر دارها، ما يضع العالم – أكثر من أي وقت مضى- أمام استحقاقات تتعلق بعولمة الأمن والتنمية كمسارين متلازمين، وذلك بالقفز فوق مفهوم المنح والمساعدات ليتعداه إلى ديناميات ترتبط ارتبطاً وثيقاً بسياسات الحكومات الديمقراطية وبميزانياتها واستراتيجياتها، سياسيا،ً واقتصادياً، وتنموياً، وصحياً، وتعليمياً، ومجتمعياً. وبالتالي فعالم ما بعد كورونا، يعيد صياغات جديدة للعولمة ويضعها أيضاً أمام مقاربات أمنية جديدة، لا تعفي حكومات النظم الديمقراطية في العالم المتحضر من أن تستمد شرعيّتها الديمقراطية من شعوبها وداخل حدودها وحسب، بقدر ما أصبحت فكرة تجنح لأنواع جديدة من الأمن خارج مجتمعات الخريطة الهندسية للدول، وبما يحقق إمكانية إعادة إنتاج خصوصيات المجتمعات الأخرى، كأدنى حد من مستويات الأمن والتنمية، سواء في اختيار آليات إدارة أمورها ديمقراطياً، أو من خلال إشراكها في اختيار شكل الدولة و شكل النظام السياسي، وبما يحافظ على لغتها، وثقافتها، وهويتها، وعاداتها وتقاليدها، ويأتي في مقدمة ذلك تحقيق أمن المجتمعات المحلية كأساس لكل الأنشطة الإنسانية. فلا عالم آمن بدون إنسان آمن، ولا أمن بدون تنمية، ولا دول آمنة بدون نمو. وماعدا ذلك، فإن البشرية جمعاء أمام تهديدات جديدة لن يكون كورونا آخرها.

د. محمد خالد الشاكر

أكاديمي سوري؛ أستاذ في القانون الدولي

خاص – الناس نيوز

Karkadan.net

Scroll to Top