هيثم مناع
ثمة ذكريات قاتلة يتمنى المرء أحيانا أن يصاب بفقدان الذاكرة حتى يتحمل الآلام والخطايا بحق شعب قام من أجل الحرية والكرامة في 18 آذار/مارس 2011، لنشهد بعد تسع سنوات أكبر مأساة إنسانية حلت ببلد واحد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كسرنا كل الأرقام القياسية للاجئين والنازحين، سبقنا الحروب الأهلية الإفريقية بعدد القتلى والمعاقين، ما هو عدد الجيوش و”الجهاديين” والميليشيات غير السورية على الأراضي السورية؟ وهل هناك بصيص أمل في الخروج من هذا المستنقع؟ كنت في قصر قرطاج عند منصف المرزوقي قبيل جلسة افتتاح ما سمي بمؤتمر “أصدقاء الشعب السوري”. طلب مني المنصف أن أدخل معه قاعة المؤتمر وأن ألقي كلمة توضح وجهة نظر المعارضة الوطنية السورية الرافضة لأي تدخل خارجي ومناهضة لأي شكل من أشكال العنف ومستنكرة لأي مذهبة أو تطييف لنضال الشعب السوري. فقلت له: “لقد أعدوا الطبخة ومجرد الحضور يعني الموافقة عليها.. لن ندخل في صراع محاور توظف السوريين دافعا لضريبة الدم والهدم”. طلب منصف أن يحضروا لي طعام الغداء وذهب إلى المؤتمر. وللأمانة، فقد دافع في كلمته عن الأفكار التي تحدثنا بها. سعود الفيصل لم تمنعه “رجفات باركنسون” من أن يطالب بتسليح السوريين لإسقاط النظام، أما القطري، فكان قد باشر عبر قنوات غير رسمية إرسال المساعدات العسكرية للفصائل “الإسلامية”.
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2011، قلنا للمجلس الوطني: “تمضي الخراف حياتها تخشى الذئب، وفي آخر المطاف يأكلها الراعي”. تعالوا إلى كلمة سواء وبرنامج مشترك للتغيير نتحرّك به من أجل إنقاذ سوريا، انسحب الإخوان المسلمون من المفاوضات في أول ديسمبر واستمر وفد من المجلس يقوده الوطني الليبرالي وليد البني بالمفاوضات. وتمكّنا من صوغ ورقة عمل مشتركة في نهاية ديسمبر 2011. لكن أسياد “المجلس” ألقوا بها في القمامة في أقل من 12 ساعة من توقيعها، لأن غايتهم لم تكن التغيير الديمقراطي بل قبر الحراك الشعبي في مسبح الدم. عدنا في مؤتمر الجامعة العربية للمعارضة السورية في تموز/يوليو 2012 عبد العزيز الخير وأنا نفسي، نطالب الحاضرين بالموافقة على “بيان جنيف” الموقّع قبل أيام، أو على الأقل وضعه على جدول الأعمال، فإذا بالفرنسي والبريطاني العائدين من جنيف للتوّ يحدّثاننا عن الخطة باء.
بدأت دولة قطر التحضير لهيكل جديد في الدوحة، طلبنا ممن نثق بوطنيّته ممن قرّر المشاركة، بأن يدافع عن تثبيت فكرة الحل السياسي على أساس “بيان جنيف” في وثائق الائتلاف، وألقى الشيخ معاذ الخطيب محاضرة في الدوحة قبل الاجتماع بأيام بعنوان (التفاوض واجب شرعي وسياسي). إلا أن الأسياد الفعليين (الممولين) للمشروع ثبتوا عوضا عن ذلك مادة تقول: ”لا للتفاوض ولا للحوار“. وزاد حزب المسعورين عليها في اجتماع مراكش استنكارا لتصنيف (جبهة النصرة- تنظيم القاعدة في بلاد الشام) من وزارة الخزانة الأمريكية على لائحة الإرهاب. فكان أن دعونا لمؤتمر في جنيف في آخر يناير 2013″من أجلس سوريا ديمقراطية ودولة مدنية”. لوران فابيوس، وزير الخارجية الفرنسية، لم يجد أكثر من خمسة “أسماء” معارضة لدعوتها إلى باريس لمؤتمر صحفي في لحظة افتتاح مؤتمرنا، طالب فيه برحيل الأسد ودعم المقاتلين “من أجل الحرية”، وتدخلت الخارجية الفرنسية للحؤول دون نيل 67 تأشيرة دخول للمشاركين في المؤتمر. إلا أن بهلوانيّات لوران فابيوس وفريقه لم تنجح، ويوم صدور البيان الختامي لمؤتمرنا في جنيف، أعلن رئيس الائتلاف قبوله بالتفاوض على أساس “بيان جنيف 2012″، فأبُعد معاذ الخطيب عن قيادة الائتلاف.
انفجرت حنجرتنا وجفّت أقلامنا ونحن نقول “إذا استقبلتم ألفا من الشيشان فسيأتيكم ألفان من لبنان، التطبيع مع فكرة المقاتل الأجنبي والتدخّل الخارجي والعنف في أي لبوس كان، ستدمّر البلاد والعباد”، كان ردّ بعض السُفهاء: “منّاع وجماعته يريدون بقاء الأسد في السلطة”..
لقد كتبت في مخاطر الثورة المضادة منذ تموز/يوليو 2011 في “الموند ديبلوماتيك”. كانت السلطة الأمنية قد فشلت في مواجهة الحركة المدنية السلمية، لذا وعوضا عن إطلاق سراح من اعتقلتهم في المظاهرات السلمية، قامت بإصدار عفو عن 1400 جهادي سوري وأجنبي من سجن صيدنايا. رموز الحركة المدنية السلمية كان يجري اغتيالهم وقتلهم في وضح النهار ولا يطلب من قدماء أفغانستان حتى مراجعة أمنية. تساقط من حولنا المهندس جهاد شلهوب والمهندس معن العودات والدكتور عدنان وهبة وعشرات المناضلين في وقت كانت خلايا أحرار الشام وصقور الشام ولواء الإسلام تتشكل تحت أنظار أجهزة الأمن السورية. العسكرة كانت السبيل الوحيد للسلطة لتبرير قمعها الوحشي لمظاهرات شملت وفق تقرير أمني رسمي، أكثر من مليون شخص في الجمعة الأخيرة من شهر تموز/يوليو 2011.
أشهر وسنوات قاتمة مرت علينا. من نراهم اليوم ينبحون على القنوات الخليجية والتركية، من “إخوان” و”إعلان” وأرباب “الحمدان”، للحديث عن قرارات “الشرعية الدولية”، رأيناهم يزعقون مطالبين بما أسميناه الأساطير الثلاثة (تغيير موازين القوى، السلاح النوعي والتدخل الخارجي)، هم من طالب بتدخل الناتو ومناطق حظر جوي وقصف المواقع الإستراتيجية للقوات الخاصة للنظام ووضع سوريا تحت الفصل السابع ونسخ الأنموذج الليبي إلخ. دخلنا في حقبة الحمدين القطرية ثم حقبة بندر المغرور وشقيقه المخمور السعودية، مرورا بحقبة الخطوط الحمر التركية، واجتماعات “أصدقاء الشعب السوري” المكوكية وغرف “الموم” و “الموك” غير السورية، التي تشرف على فصائل زاد عددها عن الثلاثة آلاف “فصيل”، فصائل قتلت في صراعاتها البينية أكثر مما سقط لها في المواجهة مع الجيش السوري وحلفائه. حتى الجهادي الراديكالي حسان عبود أصبح يتمزق ألما لحالة الانحطاط الأخلاقية والتبعية السياسية والفوضى العسكرية وخطاب التطرف. فعمل مع رهط من الجهاديين والجيش الحر على صياغة “ميثاق الشرف الثوري”. وطالب بكل جرأة، يوم كانت الأسطوانة الإخوانية- الجهادية قد انحسرت في “جمعة نصرة جبهة النصرة” وشعار “من جهز غازيا فقد غزا”، بوقف سيلان المقاتلين الأجانب إلى سوريا. كان ثمن صحوة مؤسس حركة أحرار الشام الإسلامية اغتياله مع قيادة تنظيمه.
في هذه الأجواء الملوثة بالعنف والتدخل الخارجي ومذهبة الصراع، دعا الممثل الخاص للأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي إلى مؤتمر جنيف 2. في نهاية 2013. طلبتُ من الأخضر بحضور الدكتور غسان سلامة في اجتماع في بيته، تدريب المعارضة السورية على التفاوض. في البدء استغرب الطلب، فقلت له: “من يضع في ميثاقه الأساسي لا تفاوض لا يعرف أن التفاوض لا يشكل حالة اعتراف. يا أستاذي الكبير، الشباب في حالة أمية حقيقية بكل ما يتعلق بالتفاوض”. وافق على المقترح وتم تنظيم دورتي تدريب واحدة في مونترو والثانية في اسطنبول لهيئة التنسيق الوطنية والائتلاف. لكن السيد روبرت فورد و”أصدقاء الشعب السوري” قرروا أن وفد المعارضة سيتشكل حصرا من الائتلاف. طلب أحمد الجربا الاجتماع معي ومع حسن عبد العظيم في ليلة العاشر من ديسمبر 2013، وأعلمنا في هذا الاجتماع بأنه شخصيا مع وفد يمثل الطيف الأوسع للمعارضة. وتوصلنا لصيغة وطنية معقولة، لكن حزب المسعورين في الائتلاف رفض ما توافقنا عليه، وأعلمني مساعد روبرت فورد بعدها بأسبوع في باريس أنهم على استعداد لوجود اسمين أو ثلاثة من خارج الائتلاف ولكن تحت مظلته وباسمه. فقلت له: “معلمك بعده خارج التغطية.. نحن لا نريد مقاعد، نريد أن يكون اسم الوفد: وفد المعارضة الوطنية السورية ولن نشارك باسم ائتلاف تحت سيطرتكم”.
ومهزلة جنيف 2 أصبحت بتفاصيلها معروفة.
تمزق الحراك المدني بين الاغتيالات والاعتقالات والمنفى، وسقطت كل رهانات النصر العسكري على النظام. تدخّل الأمريكي، ولكن لدعم “وحدات حماية الشعب” الكردية، وتدخل الروسي لدعم الجيش السوري. تربع التركستان في إدلب مع النصرة وقاتل الهازار مع الإيراني في البوكمال ضد داعش. طائرات النظام تقصف المدنيين في دوما، وفصائل دوما تقصف المدنيين في دمشق! وبقيت قناة “العربية” تتحدث عن “سوريا الثورة”! ونجومها من حركة الإخوان المسلمين حتى أزمة الرباعية مع الدوحة؟؟؟
حتى بعد خبر بثته عن تصنيف دول الرباعية لحركة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، أجرت في اليوم نفسه ثلاث مقابلات مع أسماء إخوانية سورية معروفة. “الممولون قطريا” يدخلون حرب المزايدات الإعلامية، والجميع يتحدث باعتباره ممثل الشعب السوري الشرعي والوحيد؟؟ مشهد درامي يصيب بالجلطة الدماغية كل من يتابع هذا الصورة السريالية المخضبة بدماء السوريين.
لقد أصيب النخاع الشوكي السياسي لمعارضة الارتهان بالعُطب التام، وكما قلت دائما: “في التحليل النفسي التبعية تخلق حالة قصور ذهني وضيق أفق بالضرورة”. لم يعد بإمكان المنصّبين أولياء على الثورة والشعب أن يشكّلوا رافعة سياسية للسوريين أو لحل سياسي قابل للتحقق. هرمت أشباه البرامج والمفاهيم، وبكل أسف لم يعد الكثير يميّز بين هذا البرنامج السياسي أو ذاك أو هذا المشروع وذاك. لقد أعلن عزرائيل المعرفة سقوط جيل من أدعياء الديمقراطية الذين تساقطوا في الحقبتين الحمدية والبندرية، كما أعلن تهافت الحركة الإخوانية الوصولية والانتهازية، وانحطاط الحركة الجهادية إلى فقه الدم. وكونهم لم يتوقفوا عن الحديث عن تغيير موازين القوى والسلاح النوعي والنصر العسكري، فقد قدّموا على طبق من فضة لمن حرص على هذه الثلاثية في الميدان، وليس في فنادق الخمس نجوم، معركة حلب، وهزيمة داعش في دير الزور والرقة والبوكمال والغوطة وعفرين ومحارق إدلب.
تحدثنا مع السيدين ديميستورا ورمزي منذ الدعوة لاستعادة مباحثات جنيف بكل صراحة وأمانة: “لا يمكن لمباحثات أممية تحت السيطرة، وبشروط إقليمية ودولية مُسبقة لتحديد مَن يُشارك ومن يتم إبعاده، أن تنجح”. إلا أن فريق ديميستورا، طوعا أو كرها، سار وفق ما توافق عليه أصحاب القرار. جاء وفد الرياض الأول برئاسة عسكري مع كبير مفاوضين: ميليشياوي من تجار الحرب. أرسلت لوزير سابق في الهيئة العليا للمفاوضات رسالة: “يا رجل أنت تعرف النظام وخدمته ثلاثين سنة، الجعفري دبلوماسي من 30 سنة لو كان أميا تعلّم، ترسلون له حمارين؟”.
ربما تعلم “الثوار” فنون التسليح والتمويل ولكنهم للأسف اعتبروا التفاوض عمالة وخيانة. عندما بدأت إيران مفاوضاتها مع 5+1 أرسلت أهم كادرين في البلاد ذوي خبرة بالتفاوض (صالحي وظريف) رغم اعتراض المحافظين والحرس الثوري عليهما، أما الرياض فقد نظمت بمساعدة خبراء غربيين دورة تفاوض سريعة للشباب، وكأن بالإمكان بعد دورة 3 أيام طبية أن يقوم متدرب لا علاقة له بالطب بإجراء عملية قلب مفتوح؟
رغم معرفتنا بكل نقاط الضعف السعودية، وضعنا المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، وكان “المؤتمر الوطني الديمقراطي السوري” أول من طالب بانعقاد مؤتمر الرياض 2. وقد طلبت شخصيا من السفير رمزي رمزي إيصال وجهة نظرنا إلى أصحاب العلاقة. ونشر الدكتور خالد المحاميد مقالة بعنوان: “بعد فشل المعارضة، ما العمل؟” طالب به بعقد هذا المؤتمر. عله يعيد هيكلة المعارضة السورية على أسس تمثيلية حقيقية ويسمح لشخصيات وطنية معروفة بتاريخها النضالي وخبرتها وسمعتها بخوض المعركة السياسية مع وفد الحكومة السورية بشكل متكافيء بعد الهزائم العسكرية والصراعات البينية التي أهلكت المعارضة المسلحة على اختلاف فصائلها، ناهيكم عن المستجدات التي مزقت توافقات الرياض 1 “القطرية السعودية التركية” منذ الأزمة القطرية. وقد أوصلنا للمنظمين رسالة واضحة مفادها أن فكرة جمع المنصات لا تشكل إلا ترقيعا محدود الأثر والفعل. فالجميع يعرف أن “منتدى موسكو” مجرّد اجتماع تشاوري بين وفد الحكومة ومَن يحضر من المعارضة، ومن الأفضل أن يطلق على المنصة اسم منصة “قاسيون”. وقد جرى اختطاف مؤتمر القاهرة من صانعيه الحقيقيين في وضح النهار، وتهزيل تمثيله ودوره من قبل السلطات المصرية. أسماء مؤسِسة أساسية في الائتلاف استقالت منه، أما هيئة التنسيق فقد تحولت إلى شبه مكتب تنفيذي بدون جنود بعد الاستقالات الواسعة التي طالت أكثر من 27 شخصا كانوا في مكاتبها التنفيذية وقيادتها والعشرات من خيرة شبابها. ومع الأستانة ومعارك الميدان، أصبح تمثيل الفصائل المسلحة في الهيئة التفاوضية رهن الصراعات الإقليمية وقدرتها على البقاء في الميدان دون أي اعتبار لبرنامجها أو مدى التزامها ببرنامج مشترك.
لقد تغيرت الخارطة السياسية لعام 2012، تركيبة “أصدقاء الشعب السوري” أصبحت جزءا من التاريخ، وباستعارة تعبير صحفي بريطاني متابع: Old fashion. ومعظم الكوادر والشخصيات الوطنية أصبحت خارج الهياكل التي اعتمدت في الرياض 2. إضافة إلى قرار “الرباعية” إبعاد مجموعات “الدوحة” عن المؤتمر. ثمة نقمة مجتمعية واسعة على الإخوان المسلمين وبقايا إعلان دمشق، وقد تحول الائتلافيون إلى موظفين يطلب منهم الحديث لاستنكار عمل هذا الطرف أو تأييد السياسات التركية بشكل فاضح ومفضوح.بل صاروا يصرخون كالغربان: وأردوغاناه… في يوم يقول الرئيس السابق لتركيا عبد الله غول: لقد انتهى الإسلام السياسي وعلى الصعيد العالمي! فعن أي قرار سوري معارض نتحدث وعن أي تمثيل واسع للمعارضة يثرثرون؟
إن أية مفاوضات جدّية، داخل أو خارج قصر الأمم، تحتاج إلى أطراف جدّية تتمتع باحترام وثقة السوريين، أطراف تحمل الحد الأدنى من كافات ثلاثة: الكفاءة والكرامة والكاريزما، وقناعة راسخة بأن الحلّ في سوريا سيكون سياسياً أو لن يكون، وأن الحل السياسي لن يكون باستمرار ما أوصلنا إلى ما نحن فيه، كما أنه يستحيل أن ينجز، بمن أسميتهم يوما “وليمة المتسولين وعش الدبابير” من حملة الحقائب ومأجوري هذه الدولة أو تلك.
قام الطرف السعودي بتحجيم الائتلاف إلى 22 من 143 مشاركا في المؤتمر، محررا الشعب السوري من تفاهة “الممثل الشرعي والوحيد لقوى الثورة والمعارضة”، وأعطى المستقلين نصف مقاعد المؤتمر. إلا أن خوفه المبالغ به من التيار الوطني الديمقراطي المستقل القرار وشخصياته الوطنية واستبعادهم عن المؤتمر، مكّن حزب المزاودين من السيطرة على الرياض2، وفرض بيانا ختاميا ناصع الشهادة على أن أغلبية المدعوين للرياض ما زالوا دون مستوى فلسفة سياسة ناضجة ومتماسكة مع حامل يتمتع بالحد الأدنى من المصداقية الشعبية. تعبر إحدى المشاركات في المؤتمر عن هذه المعضلة بالقول:”باتت نقطة الضعف الكبرى في هذا الوفد هي عدم وجود كتلة من روافع الثورة الفكرية المدنية وحوامل التغيير الكامل في المجتمع، ممن كانوا ضد تسليح الثورة، وضد أسلمتها، وضد ارتهانها لتيارات حزبية معينة. هذه الكتلة الغائبة -وهي تُشكّل أغلبية في الشارع الثوري اليوم- هي صمام الأمان الوحيد لعدم استمرارية الأسد؛ إذ إنها تشكل صوتًا غير قابل للمساومة السياسية مقابل نفوذ وسلطة، على عكس التكتلات السياسية الموجودة في الوفد اليوم، وغير قابل للمساومة القانونية مقابل جرائم مرتكبة، أي أن الغائب هو كتلة لا تُباع ولا تُشترى، وكان يُفترض أن تؤدي كتلة المستقلين هذا الدور؛ لولا أن تم اختطافها وتحويلها إلى كتلة تابعة لا معنى لوجودها. التكتلات السياسية منفصلة عن الشارع والواقع والأرض، وكتلة السلاح تسير نحو الانتهاء، بعد أن أضرت بأهلها وبثورتهم أكثر مما قدّمَت لهم” (سميرة المبيض، المفاوضات السورية، غياب الروافع الفكرية المدنية وحوامل التغيير 28 نوفمبر 2018).
دعا السيد ديميستورا القوم إلى جنيف 8، فتهاطل 155 مشاركا (11 منهم فقط من طرف النظام)، قامت بعض الدول بتغطية نفقات من لا تغطيه الأمم المتحدة. وعادت الحياة للفندق الملكي في شارع لوزان: اصطف السفراء الغربيون والعرب والترك كشجيرات عيد الميلاد في بهو الفندق، الحرس السويسري يتقاسم البرد مع الصحفيين على الباب الخارجي، أما مومسات شارع بيرن، فقد احتفلن بزبائن فوق العادة. الأمر الذي لم يمنع انطلاق حرب الحناجر لإسقاط بشار الأسد بالضربة الإعلامية القاضية. حرب تستعيد في لا وعيها، نجوى “المومس العمياء” لبدر شاكر السياب:
“لا تتركوني يا سكارى،
من ضاجع العربية السمراء لا يلقى خسارة”.
تقاسم الموظفون الجدد المرتبات والمكاتب… ورتبوا أوضاعهم الإدارية لتنظيم صرف ثمانية ملايين يورو مخصصة للمتفرغين في مكاتب الرياض وجنيف وبروكسل.. وفي حين لا يتعدى مرتب اللاجئ الذي يقاتل في عملية غصن الزيتون 150 دولار، فإن مرتب أي موظف منهم لا يقل عن مرتبه عن 9 آلاف دولار.
مع تراجيديا “الغوطة” عاد حزب “بانتظار اليانكي” إلى الظهور، وكلّف أحد أعضاء الهيئة التفاوضية بالعزف على أنغام كلمة نيكي هيلي في مجلس الأمن مطالبا بالتحرك العسكري خارج مجلس الأمن قبل أسطوانة الكيماوي. واجتمعت الهيئة التفاوضية في الرياض لإعلان الحرب على المحتل الروسي والإيراني… دون كلمة واحدة عن المحتل الأمريكي مع تقريظ للحملة التركية على عفرين. فهناك احتلال محمود واحتلال مذموم. ورغم أن تسعين بالمئة من وقائع عفرين لا تختلف عن يوميات الغوطة، تقف الهيئة التفاوضية كالأعور الدجال بعين واحدة… بعض الشخصيات الوطنية المستقلة أصابها الغثيان من سياسات الإرتهان عند هذا الائتلاف أو ذاك الفصيل فأطلقت صرخة تحذير: “الهيئة التفاوضية بسياستها الحالية تطلق النار على نفسها.. وبعد أن سكتنا عن كل حماقاتها، بل وأعطيناها صوتنا مقابل الإنخراط الجدي في المفاوضات، نتوصل اليوم إلى قناعة راسخة، وهي أن هذه الهيئة لا علاقة لها بالتفاوض ولا بالحل السياسي”.. عندما قيل هذا الكلام في 2018، قامت الدنيا ولم تقعد. اليوم بعد 24 شهرا ترفض الخارجية السعودية إعطاء تأشيرة دخول لنصر الحريري باعتبار ولايته قد انتهت وتستدعي أسماء جديدة لتضعها بدل بعض أصحاب الولاء التركي من المعارضين وتتحدث عن الرياض 3 خارج تأثير التابعين للعثمانية الجديدة؟
من هو الممثل الشرعي للشعب السوري اليوم؟ وهل احتضار ما ركبّه الآخرون من أشباه دبلوماسيين مع أشباه مفاوضين يعني أن الوطنيين السوريين قد خسروا معركة الحل السياسي وفق القرارات الأممية؟
عندما اعتبرتُ في بداية حملة “من جهز غازيا فقد غزا”، “أن كل من يطبّع مع فكرة التدخل الخارجي يرتكب جريمة وطنية بحق الشعب السوري وليس مجرد خطأ في التقدير السياسي”، قامت الدنيا ولم تقعد. سارت الأمور بما لا تشتهي السفن، دخل الأمريكي حيث لم يخطر على بال من ناجاه التدخل عشية الكيماوي الأول، ودخل الروسي حين لم يتوقع أحد أن يغامر بأفغانستان ثانية، وعبر الإيراني الحدود مثلما فعلت القاعدة وداعش قبلا… وهاهو التركي يحتل عفرين ومنطقة آمنة شرقي الفرات بل ويقاتل مع هتش أيضا باسم أمنه القومي وإعادة اللاجئين…
عوضا عن تنظيم شعائر جنازة “الهيئة التفاوضية” ودعوة المعارضة الوطنية الديمقراطية لاجتماع مستقل الإرادة والقرار (بدون دولارات ولا موبايلات ولا خواجات) لتكوين وفد تفاوضي سوري ينال الحد الأدنى من احترام المجتمع السوري والناس. ذهب أبو الخير إلى اليابان وأم الخير إلى الفاتيكان، والسابقون واللاحقون في الإئتلاف إلى فولارات جديد بني عثمان، وأرسل الآلاف من إدلب إلى ليبيا، في وقت يشتكي العبدة والعبيد من توقيف الدعم الغربي المالي للإئتلاف؟
للخروج من هذا الوضع المأساوي، نتوجه لكل الوطنيين الديمقراطيين من أجل مؤتمر وطني سوري، من مستقلي القرار والإرادة من أبناء شعبنا الذين لم يتلوثوا بالإرتزاق والتبعية، لقاء يضم كل الفئات والمكونات المقهورة والتي ناضلت بصدق من أجل دولة مدنية، دولة قانون وعدل، دستورها عقد اجتماعي ديمقراطي يضمن حقوق المواطنة والمكونات، في سوريا حرة موحدة ذات سيادة.. تخوض بحزم وكرامة المقاومة المدنية في الداخل والخارج، بما في ذلك خوض مفاوضات جدية تحت إشراف الأمم المتحدة، لوضع حد للحروب ومنظومات الفساد والاستبداد التي كانت سببا فيها أو ولّدتها من رحم مشوه.