لم يعد موضوع المقاتل المحترف والمقاتل بدون حدود ظاهرة ثانوية. بل صارا جزءا أساسيا في كبرى الصراعات المسلحة في العقدين الماضيين.
لأسباب جيو سياسية معروفة، لم يطرح موضوع التوجه إلى أفغانستان لقتال القوات السوفيتية موضوعا إشكاليا في القانون الدولي الإنساني. فقد تعاملت الدول الغربية ومن تحالف معها من الدول العربية تطوعا لمقاتلين من أجل الحرية Freedom Fighters في الدفاع عن الشعب الأفغاني. وقامت أجهزة المخابرات الأمريكية والسعودية والباكستانية والمصرية وقتئذ بتقديم التسهيلات والدعم المادي واللوجستي لهذه الجماعات، التي كان الإعلام اليميني في الغرب يقارنها بالمقاتلين الأجانب في إسبانيا أثناء الحرب الأهلية الإسبانية أو الثوار الذين انضموا لحركات التحرر الوطني في عدد من الدول الإفريقية. والحقيقة أن وضع هؤلاء المقاتلين لم يكن مؤسسيا. فالعديد منه كان يقتل أو يجرح قبل أن يتلقى مرتبا واحدا يسهل شؤون عيشه اليومية. ومع انفراط حقبة “الجهاد ضد الشيوعية” وسقوط الاتحاد السوفييتي، اعتبرت التكوينات الأكثر تنظيما وتمويلا بين المقاتلين في أفغانستان نفسها الخاسر الأكبر فيما حدث. فارتد جام حقدها على وظفّها واستعملها في الحرب ثم تخلى عنها. فبعد أن كان المقاتل يستقبل في بلده مجاهدا أكبر ومدافعا عن الإسلام والمسلمين تتمسح به عمائم السلفية الوهابية لكسب البركة، تم التعامل مع هذه الفئات باعتبارها مصدر خطر لبلدانها باعتبارها قد احترفت القتال بوعي إسلامي بدائي في معظم الأحيان وصار القتال بالنسبة لها، كل ما تملكه من رصيد شخصي. حيث ينطبق على قطاعات واسعة منها القول (تعرف كيف تقاتل ولا تعرف لماذا تقاتل اللهم إلا القناعة بمضاجعة الحور قبل حساب يوم القيامة وعذاب القبر). الأمر الذي جعل من الجماعات الأكثر إيديولوجية وتنظيما تتمكن من الاستثمار في هذه التربة التي وظفتها في بناء جيش متعدد الجنسيات، يعود لبلدانه أو يتوجه لمناطق الصراع الأخرى. ولم يكن من الصعب التغرير والتشويه بمسيرة الآلاف من الشباب الذين ذهبوا لأفغانستان تطوعا برصيد ثقافي ومعرفي وسياسي جد متواضع أن يتم استغلالهم من العناصر المؤدلجة والحاملة لمشروع توتاليتاري منغلق فشلت في إيجاد حاضنة اجتماعية له في بلدانها فهاجرت “مجاهدة” إلى أفغانستان. من المعروف كيف كان المحاولات الأولى لهذه التجربة في أفغانستان نفسها عبر طالبان، الذين مولتهم وسلحتهم ودعمتهم المخبرات الباكستانية، ثم في يوغسلافيا السابقة والجزائر، حيث حاولت هذه الجماعات الخروج من الغيتو الأفغاني إلى أوربة وإفريقيا. ومن المعروف أن مشاركتها في العقد الدموي الجزائري في تسعينيات القرن الماضي تمت عبر شبكة تواجدت شخصياتها الأساسية في بريطانيا ودول أوربية أخرى تحت سمع وبصر المخابرات الأوربية. وينوه رينيه نبعة إلى هذه الظاهرة بالقول: “جمعت لندن في وقت أو آخر هيئة تحرير مجلة الأنصار الجهادية السلفية التي كانت تصدر من لندن وعنوانها في السويد (عند اللاجئ السياسي عبد الكريم دنيش) حيث عاش في العاصمة البريطانية أبو مصعب السوري (مصطفى عبد القادر ست مريم) صاحب نظرية الذئاب المنفردة وأبو حمزة المصري (مصطفى كمال مصطفى) وأبو قتادة الفلسطيني (عمر محمود عثمان) وأبو فارس (الجزائري رشيد الرمرة) والجزائري فاروق دنيش ولفترة قصيرة أسامة بن لادن. وفي قراءة لائحة الضيوف الكرام لأوربة، تبدو “الحرب على الإرهاب” قضية مثيرة للضحك. مؤشر النفاق والازدواجية في الدبلوماسية الغربية يثير الرثاء سواء في العالم العربي أو الغربي. من مشاهير اللاجئين أيضا:
1-أيمن الظواهري، الذي خلف أسامة بن لادن على رأس تنظيم القاعدة. في ذلك الوقت، كان يتولى منصب “قائد الجماعات الإسلامية في أوروبا”، وعاش في سويسرا.
2- طلعت فؤاد قاسم، المتحدث باسم الحركة الإسلامية في أوروبا، المستفيد من حق اللجوء السياسي في الدنمارك. حكم عليه بالسجن لمدة 7 سنوات في السجن في وقت اغتيال السادات، وكان أوائل الملتحقين بالمجاهدين الأفغان وميز نفسه في فرق الموت في عمليات فدائية ضد السوفيات.
3-محمد شوقي الإسلامبولي، شقيق قاتل السادات خالد الإسلامبولي. تبرأ في محاكمة اغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات، انضم الى صفوف المقاتلين المناهضين لإسرائيل في جنوب لبنان قبل السفر إلى بيشاور. يعيش في كابول، حكم غيابيا في قضية “المصريون الأفغان”. (محاضرة في ندوة: التطرف المذهبي في الشرق الأوسط، جنيف 5-6 سبتمبر 2015).
ما يذكره نبعة يشكل مثلا مصغرا لما كان يحدث. ولدينا في عمليات التوثيق التي قام بها “المركز العربي الأوربي لمكافحة التطرف” قوائم أكبر بكثير تعطي فكرة عن التورط الأوربي في التعامل السلس مع الجماعات الأفغانية المسلحة قبل مأساة 11 سبتمبر 2001.
شكل الهجوم الإرهابي للقاعدة على برجي التجارة العالمي والبنتاغون منعطفا في التعامل مع ظاهرة المجاهدين الأفغان بكل تلاوينها. ودخلت الولايات المتحدة حربا في أفغانستان بغطاء من الأمم المتحدة ودعم من دول تحالف واسع. لم يعد بإمكان المخابرات الباكستانية الاستمرار في لعبتها المزدوجة. وبدأت أكبر حرب على الإرهاب بعد الحرب العالمية الثانية.
لم تخض الإدارة الأمريكية في ظل حكم الرئيس جورج بوش الإبن مع ديك شيني نائبا له ورونالد رامسفيلد وزيرا للدفاع وفريق من المحافظين الجدد الحرب بأدنى قواعد التقيد أو الاحترام لميثاق الأمم المتحدة والتزاماتها في القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني. وقد شهد العالم بأكمله تراجعات هائلة على هذا الصعيد. فقد وضعت في الثلاجة كل محاولات ومقترحات إصلاح الأمم المتحدة، وتعطلت الجهود من أجل توطيد وتحقيق مفهوم الأمن الإنساني. وتوقفت الإقتراحات الجوهرية في مجال حق التنمية ومشاريع التنمية المستدامة في أهم البلدان المحتاجة لها.
اعتبرت الإدارة الأمريكية نفسها فوق المحاسبة وخارج موضوعة العقاب، وقد خرجت علينا بمصطلح غير موجود في القانون الإنساني الدولي (المحاربون غير الشرعيين) لكي تتمكن من تحويل أسرى الحرب في أفغانستان إلى محاكم عسكرية استثنائية. حيث يعفيها ذلك من التزامين أساسيين :
الأول، إطلاق سراح أسرى الحرب عند انتهاء الأعمال العدوانية، عملا باتفاقيات جنيف في حال غياب الأدلة على تورطهم في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
الثاني، احترام التحقيق مع الأسير الذي يمنع السلطات الأمريكية العسكرية من إجراء أي استجواب لأسرى أفغانستان أثناء فترة احتجازهم.
وتمثلت القراءة العملية لذلك بأربعة إجراءات مناهضة للحقوق الإنسانية:
- إقامة سجن خارج القواعد في قاعدة باغرام وسجن خارج الوضع القانوني الأمريكي في غوانتانامو
- اعتماد القوائم السوداء لملاحقة وضرب الأشخاص والهيئات المتهمة بالتعاون مع الإرهاب
- بناء عدد من السجون السرية في أوربة والشرق الأوسط
- اعتماد الإجراءات السرية في التحقيق والمحاكمات
تصاعدت أصوات الإحتجاج على هذه السياسة المتهورة وذات النتائج الكارثة على أوضاع حقوق الإنسان في العالم. وقد حذرت المفوضة السامية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة لويز أربور من أن “الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على ما يسمى الإرهاب أدت إلى تقويض الحظر العالمي على التعذيب وأضعفت المرجعية الأدبية الأميركية بشأن حقوق الإنسان في كل أنحاء العالم. واعتبرت أربور أن البحث عن الأمن “بأي ثمن يمكن أن يخلق عالما لا نعود فيه لا أكثر أمنا ولا أكثر حرية”. وأضافت ستكون هذه هي الحال اذا كان “الخيار الوحيد بين الإرهابيين أو الجلادين”.
طبعا أثارت هذه الانتقادات غضب سفير الولايات المتحدة في الأمم المتحدة جون بولتون الذي سارع بالرد قائلا إن انتقاداتها ما هي إلا تخمينات غير مشروعة. واعتبر أن تصريحات أربور تقوض عملية الإصلاح في الأمم المتحدة. وعقّب بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تأخذ نصائحها من منظمة الأمم المتحدة أو غيرها.
بعد أقل من عامين على خوض ما سمي “الحرب على الإرهاب” قامت الولايات المتحدة وبريطانيا باحتلال العراق دون غطاء من الأمم المتحدة بدعوى امتلاك صدام حسين لأسلحة دمار شامل. تختلف الأرقام حول ضحايا هذه الحرب ويقدرها البعض بحوالي 600 ألف ضحية. وفي العراق قامت الإدارة الأمريكية بكل ما يمكن تخفيف الخسائر وعدد القتلى. ولجأت من أجل ذلك إلى الشركات الخاصة التي تنظم مشاركة فرق من المرتزقة في الحرب.
وكما يذكر الباحث العراقي رائد الحامد: فإن “موظفي الشركات العسكريّة الأمنية الخاصّة، شركات الحماية الأمنية، المتعاقدون، المقاولون الأمنيون، أيّاً كانت تسمياتهم، هم ليسوا أكثر من عناصر ارتزاق أو مرتزقة، أفراداً كانوا أم مجاميع ظهروا بوضوح في الثلث الأخير من القرن الماضي كظاهرة ملموسة، وكمهنة احترافية، خاصّة في الدول الأفريقية التي غادرها الاستعمار الفرنسي أو البريطاني، لكن تاريخهم الحقيقي يمتد إلى (الأيام التي سبقت الثورة الفرنسية 1789م، إذ كانت المطاعم والفنادق عادة ما تعلّق لوحات تحمل كتابات مثل – يمنع دخول الساقطات والكلاب – في إشارة إلى المرتزقة، ذلك أنّ سلوك الجنود المرتزقة وممارساتهم غير المقبولة وغير المسئولة جعلت منهم عنصراً مرفوضاً من المجتمعات الأوربية بصورة عامة). بل إنّ البعض قد أرّخ لظهورهم إلى (إمبراطور اليونان كوزينوفون الذي جنّد عشرة آلاف يونانياً للمحاربة في بلاد فارس مقابل المال)”.
منحت سلطات الاحتلال في العراق منح الحصانة لكافة (المرتزقة) المتعاقدين مع شركات الحماية الأمنية العاملين لحساب قوات متعددة الجنسيات، وذلك في القرار الصادر عن سلطة الائتلاف رقم (17) الذي أصدره الحاكم المدني السفير بول بريمر في حزيران/يونيو 2004 قبل نقل السيادة للعراقيين في 28/6/2004، حيث لا يتمّ إخضاعهم لأيّة ملاحقات قضائية بشأن تصرفاتهم. وعلى الرغم من أنّ جنوداً نظاميين مثلوا أمام محاكم عسكرية أمريكية أو بريطانية لمقاضاتهم بشأن الجرائم التي ارتكبوها في العراق، فمن المؤكد عدم خضوع أحد من المرتزقة لأيّ شكل من أشكال الملاحقات القضائيّة. رغم أن عددهم أصبح في أقل من عامين بعشرات الآلاف وشملت شركات الأمن العاملة قائمة كبيرة نذكر على سبيل المثال لا الحصر: دايني كروب، كيلوج براون ورت، آرنيس للخدمات الأمنية، ساندلاين انترناشيونال، بلاك ووتر، فينيل كورب، كوستر باتلز للخدمات الأمنية، كلوبال ريسكس استراتيجز، آرمور كروب، انترناشيونال لعمليات الأمن الدفاعي والتدريب، ستيل ماونديش، ايجيز ديفنس سيرفيسيز، إيرفيز، كونترول ريكس كروب.
اخترع وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد (حسبما أوردت صحيفة Le Temps السويسرية)، مفهوم الـ OUT-sourcing المقصود به عمليا “التجنيد من خارج صفوف الجيش”، كما ظهر مصطلح “الميليشيات الصديقة” التي طالب نائب وزير الدفاع الأمريكي بول فولفوفيتز في العاشر من أغسطس 2004 الكونغرس بتخصيص ميزانية لفائدتها بحوالي 500 مليون دولار، من أجل محاربة “الإرهاب والثورات” على حد قوله. ولم يتأخر طوني بلير عن دخول معركة المصطلحات مطالبا بخصخصة ما يمكن في الحرب في العراق تحديدا للخسائر في صفوف الجيش.
في المثل العراقي يصعب التمييز بين القوات الأمريكيّة النظامية وبين المرتزقة من ناحية التسلّح، فهذه الشركات تمتلك أسطولاً من طائرات الهليكوبتر كما تقول صحيفة نيويورك تايمز في 20/4/2004، وتعقد التحالفات مع بعض العشائر المحلية (تشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من عشرين ألف مرتزق في العراق عام 2004 إلى مئة وعشرين ألف عام 2006)، وتضيف الصحيفة إلى ( أنّ وجودهم الآن أصبح واضحاً في العراق حيث يتجولون في عربات مدرعة، وكثير منهم مدجج بأسلحة قتال بالغة التقدّم، وقد شكلت بعض شركات الحماية الأمنية قوات للرد السريع، بل ووحدات مخابرات خاصّة بها تصدر يومياً تقاريرها الاستخبارية التي تعتمد فيها على خريطة تواجدها في المناطق الساخنة). وهذه في حقيقتها مهام تناط بالجيوش النظامية وليس بشركات الحماية الأمنية وعناصرها المرتزقة، مما يزيل الحدود بين ما هو مدني وما هو حربي في عمل هذه الشركات. رغم كل هذه الإنتهاكات، والتنصب فوق القانون الدولي الإنساني وفوق أوليات الحقوق الإنسانية، فشلت الإدارة الأمريكية في مشروع احتلال العراق رغم كلفة تقدرها وزراة الخزانة الأمريكية بتليريوني دولار. ولكنها نجحت في عولمة التطبيع مع انتهاك القانون الدولي الإنساني وحولت ظاهرة المرتزقة الجدد إلى ظاهرة عولمية تعج بها دول أوربة الشرقية وروسيا وأخيرا وليس آخرا إيران وتركيا.
لن نتوقف أكثر عند ظاهرة “المرتزقة الجدد” التي شكلت انتهاكا صارخا للقانون الدولي الإنساني وسابقة هزّت قواعد احترام اتفاقيات جنيف الأربع. ولكننا من خلال هذا العرض أردنا توضيح دور الإدارة الأمريكية في ظل سنوات الرئيس جورج بوش الإبن في وضع اللبنات الصلبة لتجاوز فكرة الحقوق والقانون والأعراف الأولية الضامنة لكرامة الإنسان في أوضاع النزاع المسلح. وكون المغلوب مولعا بالغالب، كانت الميليشيات الشيعية العراقية أول من قلد هذه الأساليب سواء في تشكيلاتها أو في ممارساتها. وكذلك فعلت طلائع تنظيم التوحيد والجهاد تحت راية “Caïd” هرب من الملاحقات القضائية في الأردن إلى أفغانستان ليعود إلى العراق “أميرا” للجهاد ضد الاحتلال والرافضة. وبالطبع، فإن أجهزة صدام العسكرية والأمنية التي تم حلها، لم تكن بحاجة إلى هذه المدرسة من أجل جلب مقاتلين من كل حدب وصوب، ولكن هذه المرة باسم الجهاد العالمي وعودة الخلافة الراشدة والالتحاق السريع بالحور العين في جوار رب العالمين.
بنفس الآليات ولكن بيافطات مختلفة ومساعدة عدة أجهزة مخابرات إقليمية، تم تجنيد آلاف الشبان العرب والمسلمين من سورية وفلسطين ولبنان ودول الخليج والمغرب الكبير إلخ. للالتحاق بالمقاومة في العراق. ومع ازدياد خطر الظاهرة، تعاونت الحكومة العراقية والإدارة الأمريكية وأطراف عربية في تشكيل “الصحوات” مجموعات عسكرية من العشائر العراقية لمواجهة ما سمي بالدولة الإسلامية في العراق. وقد كان لهذه الصحوات مع انسحاب القوات الأمريكية والبريطانية دورا في تراجع هذه الظاهرة بشكل كبير. إلا أن الحكومة العراقية التي دخلت في منطق المحاصصة المذهبية وطيفت قوات الأمن والجيش، ورفضت دمج مقاتلي الصحوات في القوات المسلحة والأمنية تركت الأرض خصبة لمعاودة العرض والمرض. ومع بداية تسلح الحركة الاحتجاجية في سورية وإفراج النظام السوري في شهر مايو 2011 عن قيادات الجهاديين والقاعدة وعودة نشاطهم في الأراضي السورية، عادت ظاهرة المقاتلين الأجانب إلى السطح. واستنفرت المنابر في عدة بلدان تدعو إلى الجهاد في سورية باعتباره كما يقول مفتي قطر يوسف القرضاوي “فرض عين على كل قادر”. توحدت البروباغندا الإخوانية مع البروباغندا السلفية الجهادية في تعبئة الشبيبة للتوجه إلى سورية لإنقاذ “أطفال سورية المسلمين من القتل والنساء الطاهرات من الإغتصاب”. وصارت قنوات مثل الجزيرة وصفا ووصال تخوض الحرب الجهادية بشكل مفضوح. وليس سرا تورط عدد من الدول مباشرة في تمويل وتسليح ومساعدة الجموع المتوجهة للإنضمام إلى داعش وجبهة النصرة وجيش المهاجرين والأنصار وأحرار الشام إلخ. لقد عبر الحدود التركية السورية 120 ألف مقاتل من أكثر من سبعين دولة، وكان جهاز المخابرات التركي MIT بقيادة الكوردي حقان فيدان يشرف مباشرة على عمليات النقل والتواصل والتنسيق مع الجماعات المتطرفة، بعد أن طالب البرلمان التركي والحكومة بإعطائه صلاحية التواصل مع كل المجموعات المسلحة بما فيها تلك التي تصنفها تركيا إرهابية.
كل أساليب الإدارة الأمريكية في استحضار مقاتلين تحت الطلب تكررت في ثوب جهادي ديني هذه المرة. وجرى استعمالها من “العثمانية الجديدة” و “وولاية الحرس”. فقد صارت الجماعات الإرهابية تدفع للمقاتل أحيانا ثلاثة أو أربعة أضعاف ما يدفع لمقاتل الجيش الحر أو الجندي السوري. وكانت غرفة العمليات في تركيا تقدم القسم الأكبر من مساعداتها للفصائل الأكثر تطرفا وتأثرا بالخطاب المذهبي تحت ذريعة أنها الأكثر كفاءة في القتال. ولعبت حكومة أردوغان وبعدها أوغلو دورا كبيرا في تنظيم وتدريب وتسهيل مرور المقاتلين إلى سورية والعراق. وحصلت من قطر على مئات ملايين الدولارات لمساعدة هذه الجماعات من أجل زعزعة وإسقاط نظامي الحكم في سورية والعراق. وبعد سقوط “خلافة داعش”، بدأ الإستثمار في الجماعات الإسلامية المتطرفة في المشروع التركي للتغيير الديمغرافي على الحدود السورية-التركية وبدأ ذلك باحتلال عفرين وتهجير سكانها واستبدالهم بالقادمين من وسط سوريا والغوطة والقلمون، ثم بدأ مشروع “المنطقة الآمنة” شرقي الفرات. ولم تتوانى السلطات التركية في وضح النهار عن إرسال أكثر من خمسة آلاف مرتزق من هؤلاء السوريين والأجانب المتواجدين في مناطق السيطرة التركية إلى ليبيا.
بالنسبة للنظام الإيراني هناك حرب شاملة لقصقصة نفوذه الإقليمي وضرب حليفيه في سورية والعراق. لهذا خاض هجوما مضادا بالوسائل نفسها: تجنيد من يستطيع من الشيعة للدفاع عن نظامي الحكم في سورية والعراق. وهكذا بدأت بالظهور إعلانات في عدة بلدان مثل أفغانستان وباكستان وإيران للتطوع للقتال في سورية والعراق لمواجهة الجماعات التكفيرية. وكما تدفع جبهة النصرة وداعش لمقاتليها، هناك مخصصات مالية مغرية لكل من يأتي للقتال دفاعا عن “العتبات المقدسة”. لقد جاوز عدد القتلى في الصراع الدائر في البلدين المليون ضحية وجاوزت الخسائر 400 مليار دولار. أكثر من 16 مليون إنسان بين نازح ولاجئ. تحالف دولي واسع ضد الإرهاب، قرارات لمجلس الأمن ووجود عسكري أمريكي وروسي… ومع ذلك وفي وضح النهار، نشهد تواطؤا مفضوحا من عدة أجهزة مخابرات إقليمية ودولية في موضوع المرتزقة الجدد.. أما الإنسان وحقوقه، فلا أحد يتطرق لهذا الموضوع.
خرجت ظاهرة المقاتلين بلا حدود وقيود عن السيطرة. ولا شك بأن الاستمرار في توظيف هذه الجماعة أو تلك، وهذا المذهب أو ذاك، وهذا الشباب الضائع في عالم لم يعطه أفقا للحياة الكريمة سيجعل من الصراعات الدائرة صراعات قاتلة للإنسان والحضارة والحقوق والقيم. وأية جريمة، أن يحدث كل هذا تحت سمع وبصر البشرية في عالم الصورة المباشرة وثورة التواصل والمعلومات، ولا نسمع بمحاسبة أو ردع، أو ضغط على الأطراف التي تشارك في هذه الصراعات المدمرة للبشر والشجر والحجر؟
إعداد فريق البحث في كركدن