الدكتور رامي الشاعر من أسرة فلسطينية عاش في سوريا حقبة من عمره وشغل منصب السفير الفلسطيني في موسكو قبل أن يصبح من أهم مستشاري الخارجية الروسية العارفين بالملفين السوري الفلسطيني وقضايا الشرق الأوسط، صدر له قبل عام كتاب “سوريا المقاتلة”. زمان الوصل القطري و”حسن الجوار” الموسادي يختصرون مسيرته بعلاقته الوطيدة بعائلة الأسد، وشريك عائلة جميل في البزنس والمقرب من بريماكوف وبوغدانوف والرئيس بوتين، وليس هذا بغريب عن مستوى “المعارضين” بالقطعة. قد نختلف وقد نتفق مع هذا السياسي المخضرم، ولكن بالتأكيد، أمام الصعاليك الذين اتحفتنا بهم معارضة “أعدقاء الشعب السوري”، نعتبر أية مناظرة جدية مع رامي الشاعر، ضرورة لإنضاج تحليل أفضل للأوضاع في سوريا والمنطقة، وفرصة لإنضاج تصورات وطنية للخروج من الحالة السورية الراهنة.
لذا تنشر كركدن.نت وجهة نظر الدكتور رامي الشاعر مع ملاحظات نقدية لهيئة تحرير كركدن عليها
حول الوحدة والسيادة… هيبة بوتين أنقذت آلاف الأرواح
الدكتور السفير رامي الشاعر
كرس لقاء سوتشي بين الزعيم الروسي (فلاديمير بوتين) ورئيس تركيا (رجب أردوغان) في 22 أكتوبر من العام الجاري لبحث الوضع في سوريا. وصرح أردوغان قبلها بأنه عقب مباحثاته مع (بوتين) في سوتشي «سيتخذ خطوات ملموسة» أليست هذه تغييرات ملموسة؟
امتدت المباحثات بين (بوتين) و(أردوغان) لأكثر من ست ساعات، ناقشا خلالها العملية العسكرية المسماة (نبع السلام)، والتي شنتها تركيا شمال سوريا في التاسع من أكتوبر الجاري (2019). وهدفها المعلن هو إقامة منطقة عازلة كحزام أمن على الحدود التركية تخطط (أنقرة) من ورائه لتوطين 3،5 مليون لاجئ سوري في هذه الأرض، لكن هذه الفكرة قوبلت بالرفض الشديد، وكادت أن تشعل الوضع والخلافات بشدة أو هددت بوقوع صدامات خطيرة بين الأكراد والجيشين التركي والسوري. ومما يلفت النظر هنا توصل الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا عقب أسبوع إلى اتفاق بوقف العملية من أجل السماح للتشكيلات الكردية، التي حظيت سابقاً بدعم الأمريكان، بمغادرة هذه المنطقة الآمنة التي أقامها الأتراك، وقدمت واشنطن وعداً بضمان انسحاب الفصائل الكردية لمسافة 30 كم من الحدود التركية. إلا أن موعد الهدنة انتهى يوم 22 أكتوبر دون حدوث أي تغيير تقريباً، سوى إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على إجلاء قواتها من قواعدها في سوريا إلى العراق، الأمر الذي دفع (أردوغان) إلى اتهام الولايات المتحدة الأمريكية بحنث وعودها. وإزاء ذلك لم تستبعد أنقرة الإقدام على اتخاذ خطوات جديدة لمكافحة الإرهابيين.
أما عن ردود الفعل تجاه عملية (نبع السلام)، فقد عارضها رئيس سوريا، ووصفتها جامعة الدول العربية بـ (العدوان)، ومنعاً لإراقة الدم التي كان من الممكن أن تسفر عنها هذه العملية، اضطرت روسيا للتدخل من أجل عدم تطورها إلى حرب، لتثبت بذلك أنها البلد الوحيد الذي يحظى باحترام الكل.
وبالفعل، في وقت لاحق من يوم 22 أكتوبر توصل (فلاديمير بوتين) و(رجب طيب أردوغان) خلال لقائهما في سوتشي إلى عقد مذكرة تفاهم بشأن القضايا المتعلقة بالتسوية السورية بين روسيا وتركيا، والتي تنص -حسب فحواها- على تولي البوليس العسكري الروسي والقوات السورية مهمة الحراسة المشتركة في تلك المنطقة المحاذية للأراضي التي دارت فيها عملية (نبع السلام). ونتيجة لذلك أعلنت تركيا عن الوقوف النهائي لهذه العملية. علماً بأن المذكرة لم تغفل في ذات الوقت عن تثبيت سلامة الأراضي السورية، والتأكيد على سيادتها، ومنع وقوع أية مخططات إنفصالية فيها.
أما عن الأكراد فهم شعب تعداده بالملايين. ولهم تطلعاتهم الخاصة بإعادة تقسيم المنطقة، الأمر الذي قد يسفر عن وقوع التمرد والعصيان من جانب العرب. ومهما يكن من أمر، دعونا نتعرف على الأكراد عن قرب. هي منطقة جبلية تسمى (كردستان) تضم جنوب شرقي تركيا وشمال غربي إيران والمنطقة الشمالية من العراق وشمال سوريا، كما يقطن الأكراد منطقتي الأناضول وخراسان، وكذلك المدن الواقعة غرب تركيا بما فيها إسطنبول. ويبلغ تعداد هذه الأمة أكثر من 45 مليون نسمة، بما في ذلك الأكراد المقيمين في أوروبا الغربية. ولذا يضفي موقع كردستان أهمية استراتيجية بالغة على هذه المنطقة.
ولذلك لم يسلم هذا الشعب من ملاحقة الدعاية الغربية له، واستطاعت البلدان الغربية خداع الأكراد عدة مرات دون رأفة أو شفقة، بل وبأساليب لا أخلاقية بالمرة. فمن نافل القول أن نذكر أن الإمبراطورية العثمانية انهارت وانقسمت عقب الحرب العالمية الأولى إلى عدة دول، وقدمت آنذاك الوعود للأكراد بمنحهم وطناً مستقلاً، بل وأبرت سنة 1920 اتفاقية خاصة بإقامة (كردستان) المستقلة، لكن لم يتم التصديق عليها لأن البريطانيين آنذاك اكتشفوا أن هذه المنطقة غنية بالنفط، وبالتالي سرعان ما تناسوا وعودهم بمنح الأكراد وطناً مستقلاً لهم. وعقب ثلاثة أعوام أبرمت (اتفاقية لوزان) التي بموجبها رسمت حدود تركيا، وتحول الأكراد إلى أقليات قومية في عدة دول، شهدت تمردهم وانتفاضاتهم في كل من إيران والعراق وتركيا، وكلها تجمع على المطالبة بالاستقلال. وهنا يجب التنويه أن الولايات المتحدة الأمريكية خانت الأكراد مرتين في السبعينات، الأولى سنة 1972 عندما حرضت واشنطن الأكراد العراقيين على التمرد ضد النظام في بغداد، ووعدتهم بتقديم شحنات كبيرة من الأسلحة مع دعم مالي كبير من خلال شاه إيران الذي كان في ذلك الوقت حليفاً مقرباً من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان في ذات الوقت على خلاف مع العراق على الأراضي بينهما. لكن بعد مرور ثلاثة أعوام وقع الشاه اتفاقية حدودية مع العراق، نصت على وقف تزويد الأكراد بالأسلحة. وحاول الزعيم الكردي (مصطفى برزاني) وقتها الحصول على مساعدات من واشنطن، لكن غزل الأمريكان للأكراد سرعان ما توقف، وقامت بغداد بقمع وإخماد التمرد الكردي.
لكن ما يثير الدهشة والغرابة هو تعاون الأمريكان مع الأكراد أثناء غزو العراق للكويت، وخلال وقوع (عاصفة الصحراء). وتمكن الأكراد في عام 2003 من الحصول على حكم ذاتي واسع الصلاحيات، ورغما عن ذلك لم تف الدول الغربية بوعدها الأساسي وهو إقامة كردستان المستقلة.
أما اتفاقية (سايكس بيكو) التي عقدت أثناء الحرب العالمية الأولى، فقد كانت صفقة أبرمت وراء الكواليس، ولم تكن أبداً اتفاقية رسمية. حيث شرعت دول التحالف –بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا- في العمل على تقرير مصير المناطق التي كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. ووقتها طالب الحلفاء روسيا الاعتراف بحق إنكلترا وفرنسا في احتلال أراضي الإمبراطورية التي يقطنها العرب، مقابل الاعتراف بالأطماع الروسية في الأستانة والمضائق، إلا أن الرئيس الأمريكي (وودرو ويسلون) – (1856-1924) الذي حكم الولايات المتحدة من عام 1913 حتى عام 1921، أعلن وقتها بأن عهد احتلال واغتصاب الأراضي قد ولى بلا رجعة. لكن من المفارقات المثيرة للدهشة، أن قامت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بترسيم الحدود بين بلدان المنطقة بشكل متعنت ودون أي عدل، معلنة بملأ الفم بإن الإدارة الأجنبية هي وحدها القادرة على حل المنازعات المحلية بين العشائر، وفض الخلافات الإثنية.
ولا أكون مغالياً إن احتسبت هذه الاتفاقية المبرمة قبل مائة عام نافذة المفعول حتى الآن،
وما زالت تنعكس بالتأثير على القضية الكردية، وعلى السياسة الجيوبولوتيكية في الشرق الأوسط الحديث.
فرغم اختلاف الحدود التي قاموا بترسيمها، عن تلك التي نراها في الخرائط السياسية المعاصرة، إلا أن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وكذلك الوضع الحالي في سورية يعتبران بدرجة كبيرة نتيجة بينة لهذا الترسيم الظالم للحدود، الذي وضعته هذه الاتفاقية.
أما بالنسبة للزعيم الكردي (عبد الله اوجلان)، وما يتردد حول دوره في الحركة الكردية، وحول فشله في توحيد أمته المقسمة، فإنني أود التنويه الى لقائي به شخصيا قبل عشرين سنة.
في ذلك الوقت أبرمت اتفاقية أضنة بين تركيا وسورية، وبموجبها تم إعلان عدم شرعية حزبه المسمى بـ (حزب العمال الكردستاني)، والمطالبة بحله، وتم إخطار (اوجلان) نفسه بضرورة مغادرة سورية. وللحق عرض عليه تقديم اللجوء السياسي له مدى الحياة، لكن بشرط الامتناع عن ممارسة النشاط السياسي. وبالطبع، رفض (اوجلان) هذا العرض، مؤكدا استحالة التوقف عن ممارسة العمل الموجه نحو تحقيق حلم شعبه. وسرعان ما ألقي القبض على (اوجلان) أثناء عبوره الحدود، وجرى تسليمه إلى تركيا، حيث أصدرت المحكمة حكمها عليه بالسجن المؤبد، وكانت ذريعة تركيا آنذاك لإصدار مثل هذا الحكم عليه هي خطورة نشاطه على الأمن القومي التركي. وعلى أية حال، وأيا كان الأمر يعتبر (اوجلان) بالنسبة للكثيرين من الأكراد بطلا قوميا، وضع مصالح شعبه فوق مصلحته الشخصية. ولكن ما يهمنا هنا هو التنويه إلى تقدم سنه بدرجة كبيرة، وتدهور صحته بشكل ملموس، ولذا فإن الافراج عن هذا السجين من شأنه أن يصبح ـ بلا شك ـ رمزا لبداية نهج نحو تحسين علاقات الأكراد مع الحكومة التركية.
وأستميح القارئ عذرا في أن أشير أيضا إلى لقاءاتي الأخرى مع زعماء مختلف التشكيلات والتنظيمات الكردية خلال السنوات السبع الأخيرة، ومن بينها لقاء ترك أثر في نفسي، وكان مع (صالح مسلم) زعيم أحد الأحزاب الكردية، الذي حذرته من عدم استغلال الوضع المعقد في سورية بأي حال من الأحوال من أجل تحقيق المصالح القومية للأكراد. لكن كان ينظر للأمور من زاوية أخرى، تغريه بعدم تفويت هذه الفرصة. وأعلن لي (مسلم) صراحة بأن الإدارة الكردية ستعتمد على مقاتليها، وعلى كل ما لديها من إمكانيات للدفاع عن مدينة (منبج) الواقعة شمال سورية، والتي يقطنها أكراد كثيرون، للتصدي لأي هجوم من جانب تركيا. وعلل ذلك بالقول باستحالة الثقة بأي من أطراف النزاع الذين يملكون مصالحهم وحساباتهم، على حد سواء. لكنه أضاف القول لي بأنه إذا لم تقدم روسيا المساعدة للأكراد في الحصول على استقلالهم، فإنهم سيضطرون إلى قبول عرض الولايات المتحدة الامريكية بتقديم الدعم لهم. فبادرت بتحذيره، وقلت له بأن هذا سيكون خطأ جسيما، قد يكلف الأكراد السوريين ثمنا باهظا.
وبمرور الوقت تبين بأنني كنت على صواب: خان الأمريكان الاكراد من جديد، وقبلها قاموا بتسليح التشكيلات الكردية التي استفزت تركيا، ودفعها إلى شن عمليتها عبر الحدود بشمال سورية، وأعطتها العذر للإعلان بأن الفصائل الكردية تهاجم المدن والقرى التركية، وتهدد أمن السكان العزل. وللحق تعرض العسكريون الأتراك لهذه الاعتداءات مرارا.
لكن عندما اعترف الاكراد بسيادة سورية، ردت الأخيرة بحماية أراضيهم، وسهرت على أمنهم.
ولما فضل الاكراد السوريون شن الحرب على الشعب السوري، والتحالف مع أعدائه، فقد حكموا على أنفسهم بالتعرض لوضع بالغ الصعوبة، أشبه بالمأزق. فقد تعقدت الأوضاع وتردت ليس في شمال سورية فحسب، بل وانعكست سلبا أيضا على الموقف في كل أنحاء البلاد.
ولعله من المفيد أن نذكر بأن حل هذه المشكلة قد تيسر بالذات في سوتشي، حيث جرى إحياء (اتفاق اضنه) بين سورية وتركيا لعام 1999، وسرى مفعوله من جديد، مما أسفر عن موافقة رئيس سورية على ما تم التوصل إليه من اتفاقات، وهذا بدوره لقي قبولا إيجابيا لدى الشعب السوري القاطن بشمال البلاد. حيث شعر العرب والاكراد عل حد سواء باستقرار وأمن معيشتهم، مما شجع الاكراد على تسليم أسلحتهم الثقيلة، وبفضل الوساطة الروسية ازدادت مناطق انفراج التوتر واستقرار الامن في الانحاء الأخرى بالبلاد. ولذا اود ان أؤكد بعد تحليل موضوعي قائم على التقصي والتدقيق بأن اتفاق سوتشي سيعود بأثر إيجابي على حل المشكلة السورية، وسوف يساعد كثيرا في التمهيد لبدء عمل اللجنة الدستورية، الأمر الذي يزيد ويرفع من مكانة روسيا في المنطقة بدرجة كبيرة. فلقد أدركت شعوب المشرق بأن روسيا تنتهج سياسة عادلة، موجهة نحو حل المشاكل بشكل نزيه، دون السعي الى تحقيق أية أهداف مغرضة.
ولعله من المفيد الآن إطلاق الحوار الواسع بين حكومة سورية والاكراد القاطنين بالمناطق الشمالية الشرقية للبلاد، حيث يمكن أن يؤدي مثل هذا الحوار بالذات الى مراعاة حقوق ومصالح الاكراد بشكل كامل باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من الشعب السوري.
وعلى أية حال، قمت بدراسة متأنية لما يجري اليوم من أحداث، وعقب تقييمي لها وجهت رسالة مفتوحة إلى المسؤولين السوريين، وعلى رأسهم الرئيس (بشار الأسد) أعربت فيها عن قناعتي الكاملة بضرورة بذل كل ما في الوسع من أجل عدم السماح بتكرار وقوع أي نزاع سوري داخلي مرة أخرى، والعمل على اختيار الدرب الصائب المؤدي إلى المصالحة الوطنية. وهذا الدرب سيحقق الهدف المنشود فقط عبر سياسة حكيمة ومتزنة من قبل القيادة السورية، وعبر إصلاحات سياسية واقتصادية آن الأوان لاتخاذها بجرأة وحسم، وهذا يعني بأن المطلب الملح الآن هو إعداد دستور جديد، يلقى القبول والاعتراف لدى الشعب. وهذه خطوة ضرورية بالدرجة الأولى ليس لأن الدستور السابق لا يلبي أماني الغالبية من الشعب فحسب، وإنما لأن العالم لا يقف محله، بل يتطور بسرعة لا بد من مواكبتها.
والدستور الجديد ليس مجرد وثيقة، بل هو نمط جديد للحياة. فقد آن الأوان لأن تتخلص سورية من أثقال ماضيها، لتعود من جديد إلى تسطير صفحات بطولاتها الناصعة والملهمة لتاريخها المجيد. لا يوجد أي فارق بين السلطة الحالية والمعارضة –كلاهما يملك نفس الأبطال، وذات التاريخ، والأهم من هذا وذاك –أرضهما واحدة ومشركة. ان الطريق نحو توحيد الأمة يرسمه ويحدده القانون الأساسي للبلاد، أي الدستور، الذي يضمن مساواة الحقوق لكل المواطنين الذين يتوجب عليهم، بدورهم، أن يتعاملوا فيما بينهم باحترام وثقة، وبما يليق بهم كمواطنين لوطن واحد مشترك. وأود أن أضيف بهذا الصدد بأن الوقت لا ينتظر! يجب الآن التعجيل بإنجاز ما يمكن تحقيقه من إبداع ونجاح من أجل التوصل إلى المصالحة الوطنية لعموم الشعب السوري، واغتنام كل الفرص والإمكانيات التفاوضية والدبلوماسية والاقتصادية من خلال الحوار السوري الداخلي أو الحوار الدولي مع كل طرف، تجنباً لفوات الفرصة، وتجنباً لما هو أبشع بالعودة مرة أخرى لحمل السلاح.
وفي الختام أود التطرق إلى أهمية لقاء (بوتين) و(أردوغان) في سوتشي، ليؤكد من جديد بأن هذا اللقاء يعد انتصاراً للدبلوماسية، وهزيمة لسياسة التهديد والعقوبات. حيث أكدت روسيا من جديد قدرتها ليس على تنفيذ المهام العسكرية وحدها، بل والدبلوماسية أيضاً في الشأن السوري. فقد أثبتت هذه المفاوضات من جديد الحقيقة القائلة بأن ممثلي مختلف الدول قادرون على الجلوس إلى مائدة واحدة للتفاوض، والتوصل خلالها إلى حل يرضي الجميع ويستجيب لمصالح كل منهم.
مذكرة التفاهم، التي تم التوصل إليها في سوتشي، تعكس رد الفعل تجاه واحدة من أخطر مشاكل الوضع الحالي في شمال شرقي سوريا، والتي تثير القلق البالغ في شتى بقاع العالم. لكن أهم ما فيها، من وجهة نظري، هو، أولاً، تأكيدها على احترام سيادة سوريا، وسلامة أراضيها، وثانياً، تمسكها الحازم بالتصدي بقوة لأية توجهات انفصالية داخل أراضيها، وثالثاً، تأكيدها على الالتزام (باتفاق أضنة) الذي يهدف ويسعى إلى ضمان أمن الحدود السورية.
ومن هذا المنطلق أقيم الاتفاقية المبرمة بين روسيا وتركيا كخطوة بالغة الأهمية من أجل وقف إطلاق النار في شمال سوريا أو على امتداد الحدود السورية التركية، وكذلك من أجل مواصلة التعقب الناجح لشراذم الجماعات الإرهابية والقضاء عليها، وتحرير (إدلب) وضواحيها من الانفصاليين.
وأود بكل فخر وسرور أن أكون بين أوائل المهنئين للقيادة السورية بحلول السلم في ديارها، لأن السلم هو أعلى درجات النصر في أي حرب، حتى لو كانت من الأشد دموية.
حلول السلم متى وكيف ؟
هيئة تحرير كركدن.نت
ينهي الدكتور رامي الشاعر مذكرة السلام التي نشرها بادئ الأمر باللغة الروسية بالقول: “أود بكل فخر وسرور أن أكون بين أوائل المهنئين للقيادة السورية بحلول السلم في ديارها”. ننظر إلى الخارطة من شمال اللاذقية إلى البوكمال والقامشلي، فنرى أوضاعا عجائبية لا علاقة لها لا بالسلام ولا بالأمان، ونتابع العدد اليومي للضحايا على كافة “جبهات” القتال، فنلاحظ أن الحملة العسكرية على الإرهاب في إدلب لم تمس حتى اليوم “الإرهاب”، لأن هيئة تحرير الشام وحراس الدين وفصائل الأجانب مازالوا يملكون أكثر من 90 بالمئة من قدراتهم العسكرية في المنطقة، بحيث استضافوا في وضح النهار البغدادي وعددا من مرافقيه ومقاتليه. أما شرقي الفرات فنحن على أعتاب أكبر عملية تغيير ديمغرافي في سوريا منذ 1920. اختصر الأمريكي بقاءه في الأراضي السورية بعملية hold up للنفط السوري، وتعبث مجموعات “أبو عمشة” و”أبو طمشة” في مناطق سيطرة الجيش التركي. “الجنرال” مظلوم كوباني (فرحات عبدي شاهين) سعيد بالإتصالات عالية المستوى مع البنتاغون ووزارة الدفاع الروسية، وفي الميدان لا يعرف كيف يصطف مقاتليه وأين ولماذا؟ نحن سعادة السفير نتحدث عن 40 بالمئة من الأراضي السورية ؟
قبل عام، جاء في كتابك “سوريا المقاتلة”: “الولايات المتحدة الأمريكية وخلفها الدول الغربية موّهت أهدافها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية تحت ستار (مكافحة الإرهاب)، لكنها في الواقع يسّرت ودفعت تركيا وغيرها لاستقبال آلاف الإرهابيين من شتى أنحاء العالم للدخول إلى سورية والعمل على تدمير مؤسساتها الحكومية والمدنية، وتحطيم ونهب أوابدها وآثارها التاريخية التي تعود إلى آلاف السنين. “. وكانت أكثر من دراسة موثقة، بعضها لمراكز بحث تركية مستقلة، قد بينت عبور أكثر من 120 ألف مقاتل أجنبي إلى سوريا والعراق عبر الحدود التركية. لنقل معك بأن الرئيس التركي قد “استتاب” عن جريمته، ولكن أخبرنا ماذا يجري عمليا في الميدان؟ هل استتب الأمر في منطقة عفرين وقد تم تهجير أكثر من 350 ألف مواطن سوري كردي؟
منذ جلسات فيينا، عبر الدكتور هيثم مناع للسيد ميخائيل بوغدانوف في آخر لقاء بينهما، عن مخاوفه من أية صفقات تركية-روسية على حساب المشروع الوطني الديمقراطي في سوريا. وقد حاول السيد لافروف، وزير الخارجية الروسية تبديد هذه المخاوف يوم صدور القرار 2254 حين قال في مجلس الأمن: “قرار مجلس الأمن يشمل المعارضة في مؤتمر القاهرة وملتقى موسكو ومؤتمر ديريك وآخرين”. إلا أننا تفاجئنا بقبول الطرفين الروسي والأمريكي للفيتو على أية أسماء كردية من خارج ائتلاف اسطنبول. وحاول السفيران غاتيلوف وراتني إقناع التيار الوطني الديمقراطي بتقديم قائمة مشتركة بدون أي اسم كردي. الأمر الذي أدى لانسحاب جماعي من المفاوضات. للأسف صالح مسلم وافق على هذا الشرط مع وعد من مايكل راتني بالإلتحاق بالمفاوضات بعد عدة جلسات، لكن الأغلبية سريانية وعربية رفضت المشاركة في المفاوضات بدون مناضلين كورد. ألم تشارك روسيا في هذا الموقف في عزل الأحزاب الكردية ودفعها نحو سياسات انعزالية أكثر؟ ألا يدفع السوريون ثمنا اليوم لهذا التنازل للحكومة التركية؟
أطلق الرئيس الروسي مبادرة مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي. وبعد مفاوضات بين فريق من وزارتي الخارجية والدفاع والمؤتمر الوطني الديمقراطي وتيار قمح، تم التوصل إلى مشتركات جرت المشاركة على أساسها في المؤتمر. عشية انعقاد المؤتمر فشل الطرف الروسي في إقناع السلطات السورية بخروج أكثر من 120 مشارك من المعارضة في المؤتمر. ومع ذلك، شارك من استطاع الوصول. لحرصنا على الحوار والتفاوض السلميين. وتمكنا “بمعجزة” من تثبيت مخرجات أساسية لتعبيد الطريق لحل سياسي يعتمد القرار 2254. وقد تواصل الوطنيون الديمقراطيون مع الطرف الروسي والسيد ديميستورا وما سمي باللجنة “المصغرة” طالبين منهم دعم تطبيق هذه المخرجات. إلا أن ديميستورا والطرف الروسي توافقا على العمل بمخرج واحد هو “اللجنة الدستورية”. وكان من السهل إقناع الطرف التركي بالموضوع في صفقة تعطي الحكومة التركية حق التسمية والرقابة لوفد المعارضة. كانت الفرصة ممتازة لحكومة أردوغان لوضع مجموعة من الأسماء في اللجنة الدستورية لتبييض صفحتها وفتح المجال لأن تكون نواة تأسيسية لأحزاب إخوانية سورية وشرعنة فصائل مثل “فيلق الشام”. وبالفعل تحول سماسرة مال وسلاح إلى كتبة دستور. بالنسبة للحكومة السورية، هذه فرصة ذهبية للقول بأن المعارضة المدعومة خليجيا وتركيا وغربيا هي هذه “الحفنة” من الأميين، لذا نتفق معكم في أن هذا أول نصر سياسي للنظام منذ 2011. ولكن نختلف في اعتباره نصرا لسوريا الغد أليس كذلك ؟. أولا لأن السلة الدستورية هي واحد من عشرة مطالب في قرار مجلس الأمن ومخرجات سوتشي، وثانيا، لأن الملفات الأخرى تم سحبها من يد السوريين لتناقش في الأستانة وقمم الرؤساء من فوق ظهر السوريين وعلى حسابهم.
خلال ثماني سنوات، تقطعت أوصال المؤسسة العسكرية السورية. ووفق تقارير روسية واسكندنافية فقد الجيش السوري قرابة 40 بالمئة من قوامه بين فقيد ومعاق ومنشق. وقد تنبهت المعارضة الوطنية لحالة العطب هذه، بل صرح أكثر من مسؤول روسي وإيراني أنه دون تدخل “الدول الحليفة” لكانت العاصمة قد سقطت منذ سنوات. كان موقف الوطنيين السوريين من المؤسسة العسكرية واضحا. وقد أقنعت ستافان ديميستورا وغيره باعتبارها سلة أساسية للحل السياسي عبر بناء جيش وطني. وفي مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي تم تثبيت هذا المبدأ “بناء جيش وطني قوي وموحد يقوم على الكفاءة ويمارس واجباته وفقاً للدستور ولأعلى المعايير. وتتمثل مهامه في حماية الحدود الوطنية والسكان من التهديدات الخارجية ومن الإرهاب. وبناء مؤسسات أمنية ومخابرات تحفظ الأمن الوطني وتخضع لسيادة القانون وتعمل وفقا للدستور والقانون وتحترم حقوق الإنسان. وتكون ممارسة القوة إحتكاراً حصرياًّ لمؤسسات الدولة ذات الإختصاص.
إلا أن الطرف الروسي لم يعط هذا الموضوع حقه، بل اختار طريقة “الفيلق الخامس” عوضا عن ذلك. ويضع الضباط الروس المسؤولية على النظام في حين يقول الدبلوماسيون بأن هذا الملف سيفتح في وقته. إن العمر الزمني لتكزين جنرال في الجيش السوري يعادل عشرين عاما تقريبا، فكيف يمكن بناء جيش وطني مهني دون الاستفادة من أكثر من 8000 ضابط منشق، رغم نكد العيش والمضايقات، رفضوا أن يعملوا مع أي دولة خارجية؟ وهل يمكن الحديث عن مصالحة وطنية شاملة دون مؤسسة وطنية قوية تحمي سيادة البلاد وكرامة العباد؟
نتوجه للدكتور رامي بهذه الأسئلة، مع استعداد كوادر أساسية من التيار الوطني الديمقراطي للخوض في حوار جاد وشفاف من أجل سوريا مدنية ديمقراطية وطن سيد ومواطنة متساوية.