مصطفى الفرحات
الساحة السورية شاغلة الدنيا وحديث الناس، بؤرة توتر اجتمع فيها القاصي والداني، وكل من له حساب لدى الغير.
البعض انسحب من مسؤولياته بعد أن رسم المسارات، مسارات المسموح والممنوع، ومن تبقى يجهد للسير على هذه الخطوط، فالجميع يدرك أن أي انحراف عن المسارات المرسومة سيؤدي إلى الانزلاق نحو المحظور الكبير، وبالتالي فإن جميع الفرقاء ضبطوا ساعاتهم البيولوجية على موعد الخطر وكل ما نسمعه من صراخ وضجيج وإدانات وشجب وتقدم قوات النظام، والاتفاق بين قسد والنظام ، و و و الخ ) كل هذا الضجيج هو حتى اللحظة لم يخرج عن المسار المرسوم ولَم يتجاوز الخطوط الحمراء بعد، ويندرج فقط في خانة توسيع رقعة التموضع في أقصر وقت ممكن قبل أن يتم التثبيت النهائي لمناطق النفوذ ، ويندرج أيضاً في خانة تحسين شروط التفاوض المنتظرة .
قسد أدت الدور الوظيفي المطلوب منها وقبض متنفذي قنديل فيها ثمن جهودهم في محاربة داعش، وكبندقية مأجورة قاموا بدورهم على أكمل وجه، لكن حلم ( روج آفا ) الذي كان يراودهم والذي جعلوا من شماعة محاربة الاٍرهاب غطاء للوصول إليه ذهب أدراج الرياح، ليس بفعل جيش النظام، ولكن بفعل الجيش التركي و”الجيش الوطني” المتحالف معه، فالدول والقوى الكبرى لا تفرط بمصالحها البينية من أجل ميليشيات وتنظيمات وظيفية وهذا ما كان يدركه زعماء قنديل إلا أنهم استمرؤا لعبة الثراء على حساب الشبان الذين جندوهم بالترغيب حيناً وبالترهيب أحياناً، واليوم عاد قياديوا قنديل إلى حضن النظام الذي لم يغادروه أصلاً، فقنوات تواصلهم مع النظام لم تنقطع، ووفد قسد الذي التقى ممثلي النظام في الربع الأول من هذا العام في قاعدة حميميم بإشراف روسي عاد اليوم ليلتقي النظام هناك لكن هذه المرة بشروط النظام وهذا ماصرح به قادة قسد ((بأنهم اضطروا لتقديم تنازلات مؤلمة))، فعملية نبع السلام التركية التي انطلقت في التاسع من شهر تشرين الأول الحالي أنهت حلم قادة قنديل بالانفصال وبكيان روج آفا المأمول وجنى النظام ثمار التدخل التركي دون أن يخسر طلقة واحدة وبثلاث مئة عسكري حديثي العهد في الجيش وبشاحنات نقل الأعلاف تمكن من استعادة مناطق لم يكن له موطئ قدم فيها، واستطاع أن يفرض شروطه على قسد.
بوتين الرابح الأكبر من كل ما جرى ويجري استطاع إقناع قسد بالعودة إلى حضن النظام من جهة وزاد في تعميق الشرخ بين تركيا والغرب من جهة أخرى، بل كان يأمل أن تؤتي العملية التركية أكلها أبعد من ذلك فقد كان يطمح بأن يتم تعليق عضوية تركيا في حلف الناتو وأن لا يبقَ أمام القيادة في تركيا خيار للتحالفات سوى روسيا.
كما أن بوتين ومن خلال جولته الخليجية متعددة الأهداف يسعى اليوم إلى تعويم نظام بشار الأسد وقد يكون في جعبة الرجل تفويض إيراني بمقايضة سوريا باليمن، وقد لوحظ تغير الخطاب الروسي من عملية نبع السلام التركية بعد أن أقنع الروس قيادات قسد بالإذعان لشروط النظام مقابل حمايتهم من الهجوم التركي، فقد طالب المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا بوقف العملية التركية وأكد أن هذه العملية غير مقبولة والكرملن بدوره يقول (تركيا لا تملك الحق في التواجد الدائم في سوريا) ولفت المتحدث باسم الكرملن ( ديمتري بيسكوف ) إلى:
– قلق روسيا من تأثير على المشاريع الهامة لروسيا بينها اللجنة الدستورية وطلب من تركيا عدم عرقلة عمليتها العسكرية لمسار هذه اللجنة.
– كما طالب تركيا بالمحافظة على وحدة تراب سوريا بموجب مسار أستانا.
– وطالب أيضاً بانسحاب كل القوى الأجنبية بعد تحقيق الاستقرار والعودة لاتفاق أضنه.
ومع تغير الخطاب الروسي من العملية التركية تزايدت الأصوات الرافضه لهذه العملية على الساحة الدولية وتدرجت المواقف بين الرفض والإدانة والاتهام وسط إصرار تركي على انسحاب قسد إلى عمق ٣٣ كم كشرط لوقف الأعمال القتالية، ويأتي في هذا الإطار انعقاد مجلس الأمن الأسبوع الفائت لإدانة العملية حيث لم يتمكن من الوصول إلى نتيجة بسبب الموقف الروسي والصيني إلا أنه يعاود الانعقاد، وأيضاً تشهد العاصمة البلجيكية بروكسل قمة أوربية للبحث في ادانة العملية التركية، كما أن نائب الرئيس الأميركي (مايك بنس) يطير إلى تركيا للبحث في إمكانية إيجاد حل سياسي لهذه المسألة.
والجدير بالذكر أن كل ما حصل في سوريا من قتل وتهجير وتدمير لم تجتمع عليه الإرادة الدولية كما هي مجتمعة اليوم لمناصرة قوات سوريا الديمقراطية.
الموقف العربي متمثلاً بمن بقيَ في جامعة الدول العربية أيضاً أدان التدخل التركي شمال سوريا مع ملاحظة أنه لم يأت على ذكر التدخل الإيراني والروسي والأميركي و و و إلخ).
ورغم ماصرح به المسؤولون الروس بمنع الصدام بين جيش النظام والجيش التركي إلا أن هذه التصريحات والمواقف في السياسة والإعلام قد لا تجد مرتسم لها على الميدان، واقتراب قوات النظام من خطوط التماس مع القوات التركية قد لا يدرئ خطر المواجهة طالما أن الصوت الأقوى اليوم هو صوت الرصاص.
خطاب العقل غاب اليوم عن المشهد الملتبس، وإيقاظ الفتن المذهبية والطائفية والقومية وغيرها يلتهم آخر لغة للعقلاء.
إن غرس بذور الأحقاد في المجتمعات ذات النسيج المتعدد الألوان هو عبث أشد خطورة من أي غزو خارجي، فالشعوب والمكونات الوطنية لا تفنى ولا يمكن لطرف أن يفني طرف آخر فلماذا المضي في لعبة الفناء العبثية، ولماذا لا يحتكم الجميع إلى خطاب العقل وخطاب الاعتراف بالآخر طالما هو الصيغة الوحيدة التي سيتم العودة لها مهما طال أمد الاحتراب، فالجميع اليوم بارك وقف الأعمال القتالية ومنح الدبلوماسية فرصة التعبير عن ذاتها.
كاتب سوري