مالك العثامنة
طوال أسبوع مضى وأنا أحاول تجييش كل من أعرف من ناشطين وفنانين وحقوقيين وسياسيين مصريين لغاية الحصول على طريقة تواصل ما مع المقاول – الفنان محمد علي، وفشلت كما فشل كل هؤلاء في ذلك، حتى ساعة كتابة هذه السطور.
محمد علي، هذا الشاب المصري تحول إلى ظاهرة بين يوم وليلة مطلع سبتمبر الجاري، وصارت تسجيلاته المصورة ببساطة وعفوية وبدون أي تدخل فني ولو بالحد الأدنى تحصد ملايين المشاهدات في مصر والعالم، وهذا الشاب الأربعيني المولود لطبقة متوسطة في القاهرة وبذكائه الفطري أدرك أن تسجيلاته “البسيطة جدا من ناحية تقنية” صارت توازي في حضورها مجموع محطات تلفزيونية كاملة التأهيل من حيث عدد المشاهدات، وبحسه الأمني الحذر والذي يملي عليه التخفي فإنه يرفض على ما يبدو التواصل مع أي من وسائل الإعلام العالمية، وهم مثلي يحاولون الوصول إليه..ولا جدوى.
حتى ليلة أمس “الأحد” وأنا أتابع ما يبثه محمد علي من فيديوهات، وصل فيها التصعيد إلى أقصى درجاته من التحدي بدأها شاب أربعيني حاول ان يحصل على النجومية في مجال السينما فأخفق، ويعمل في المقاولات التي نجح بها عبر عقود تشغيل مع القوات المسلحة المصرية، واستهدف في تحديه رأس النظام المصري الحاكم، الجنرال عبد الفتاح السيسي الذي تلقى الضربة وحاول إعادة تمريرها في لقاء علني ومفتوح فتحدث مدافعا عن نفسه ليلتقط الشاب المصري المختفي في برشلونة دفاع السيسي كإقرار منه على التهم الموجهة بالفساد ونصل إلى كرة ثلج متدحرجة ضخمة لم يتوقعها أحد.
كرة ثلج، من أعلى منحدرات الفضاء الإلكتروني قام محمد علي بمنطق ابن الحارة الشعبية بدحرجتها على غفلة من كل النخب السياسية الحاكمة والمعارضة لتنتهي في حضن النظام المصري كرة عملاقة هزت الدولة المصرية والمصريين والعالم العربي.
الطريف والموجع أن الشاب المصري خارج عن كل حسابات كل الأطراف السياسية المعروفة، ويتحدث بمنطق ولغة ولهجة شعبية غير متداولة في الحوار السياسي، والأطرف أنه قدم مباديء العلوم السياسية وأصول الإقتصاد المعرفي بلغة مبسطة بدون تقعر ولا فذلكات بلاغية، ولم يجهد نفسه في أي فيديو بالبحث عن مصطلحات أو اصطلاحات، فكانت توضيحاته يتخللها شتائم وإهانات للنظام والفاسدين، وكثيرا ما وصف نفسه بالفاسد ضمن الفاسدين، وهو تصرف ذكي جدا في سياق عملية “تطهر” ذاتي تمنع أي هجوم مضاد عليه، بل حتى تهمة “الصياعة” لم ينكرها بل ردها بتساؤلات ارتدادية لمن اتهموه بها على طريقة عبارة المسيح الشهيرة كأنه يقول (من كان منكم بلا خطيئة فليرجمني بحجر).
الصديق والسينمائي الناشط سياسيا باسل رمسيس والمقيم في مدريد، وهو من معارضي نظام السيسي بشدة ويعتبر أن الفساد في عهد السيسي ليس استثنائيا لكن الاستثنائي في عهد السيسي هو حالة القمع البوليسي والأمني، وفي اتصال هاتفي مستعجل كان مشغولا فيه بهم اعتقالات متلاحقة تقوم بها الأجهزة المصرية لمعارف وأصدقاء له، كان له رأي مختلف في “عفوية” محمد علي فيذهب إلى أن الشاب لا بد من جهة ما تقف خلفه، وأن شهرة وانتشار فيديوهات وخطاب محمد علي بين الناس ليس في لغته المبسطة، لكن في درجة الابتذال التي استخدمها في خطابه، وهذا الابتذال – حسب رأي رمسيس- متناسب مع المرحلة السياسية برمتها، وهو ابتذال له جمهوره العريض مثل جمهور أفلام محمد رمضان أو جمهور واسع للأغاني الحديثة الشعبية المبتذلة.
ومع تقديري لرأي باسل رمسيس، إلا إن الهجوم على محمد علي وانتقاده كان محرجا للنظام، ولمعارضي النظام حتى من أحزاب منظمة وتيارات سياسية، والذين سحب الشاب القادم من حارات القاهرة الشعبية البساط من تحت أقدامهم، ولا يطرح الشاب نفسه صاحب أيدولوجيا ولا تيار سياسي بل هو يقدم نفسه كعضو سابق ضمن منظومة فساد مكتملة الأركان، تعرض للنصب من قبل رؤوس الفساد – حسب قوله- وخرج غاضبا وهو غضب لا يخفيه بل يظهره بعفوية تفوقت على كل محاولاته في التمثيل الذي أخفق فيه سابقا، وتفوق فيه على كل ماكينة الإعلام المصري المدجن بكل تقنياته ونجومه.
السيناريست والناقدة الفنية المعروفة ماجدة خير الله انتقدت الهجوم على محمد علي بهذه الشراسة بقولها ما معناه أن الجميع كان يحاول دفع باب ضخم لغايات فتحه ولم ينجح أحد رغم كل القوة المستخدمة، لكن وبعد تعب الجميع، مر شاب عادي جدا، دفع الباب بكتفه فانفتح ببساطة.
وتضيف خيرالله: ما الداعي والحال كذلك أن تضيع الوقت والجهد لإثبات أن الشاب تافه وصايع، أليس الأهم أن الباب صار مفتوحا؟
الباب الذي انفتح قليلا، تلك الفتحة هي بالضبط المساحة الكافية والمنشودة التي رغب فيها تيار الإخوان للتلصص، ووضع الأصابع في الفتحة وصولا إلى الادعاء بملكية الباب نفسه.
التيار الإخواني، وهو تيار عريق وخبير في اصطياد الفرص واقتناصها، لم يوفر وقتا بعد الصدمة من ظهور محمد علي أول مرة، فبدأ عبر أكثر من ستوديو ومحطات تلفزيونية تابعة له بمحاولة تبني ظاهرة محمد علي، طبعا مع استعصاء تجيير الرجل لصالح الإخوان ، وقد عبر علي في أكثر من فيديو عن معارضته بل وازدرائه لهم، لكن جماعة الإخوان المتمركزين في اسطنبول تحديدا، لهم وجهة نظر أخرى قائمة على مبدأ “عدو عدوي صديقي”، وهو مبدأ نفعي بحت، فالرجل استطاع أن يحدث هزة قوية للنظام ومؤسسات الدولة في مصر، هزة يمكن أن يعقبها حراك شعبي جارف شبيه بحراك 2011، والتيار الإخواني دوما جاهز لقطف ثمار الثورات.
الجماعة وعبر مؤسساتها المجهزة جيدا في اسطنبول، لم توفر وقتا بإنتاج أغنيات شعبية فيها نكتة وسخرية شعبية تدعم محمد علي وتشتم السيسي وتقدمها إهداءا للشاب الذي نشرها على صفحته، في إحدى الإغنيات هناك فقرة تدعو إلى إنهاء السيسي شنقا أو رميا “بطلقة”، وهي دعوة بعيدة عن كل مطالب الشاب الغاضب الذي قاد ثورة غضبه بسجائر متلاحقة وحقائق واقعية شهدها بنفسه، لكنه دوما كان يطالب السيسي بالرحيل، أو ترحيله إلى بيته لا أكثر.
المفارقة الأكبر، كانت في “نجوم ثورة يناير” الذين أقصى نظام السيسي الدكتاتوري أغلبهم، وعلى رأسهم المصري وائل غنيم، الذي اختفى لسنوات طويلة ليظهر في فيديو فانتازي غريب من نوعه ينتقد فيه محمد علي ويتغزل بنظام السيسي إلى حد ما.
ظهور غنيم في حالاته الغريبة وغير العادية والتي توحي بمؤثرات غير طبيعية في حالته الصحية، لم يتركها محمد علي تمر ببساطة، فرد عليه بفيديو ساخر ولاذع وأكثر تهذيبا من العادة، وكأن الحارة الشعبية الممثلة بمحمد علي تهاجم وتسخر وتزدري من قوى الليبرالية والإصلاح ولغتهم السياسية النخبوية الصعبة، والتي صنعت مسافات فارقة بينهم وبين الشارع المصري المنجذب نحو محمد علي بكل “صياعته”، وهو الذي ابتكر ما أطلق عليه الكاتب والمحلل المصري خالد فهمي تسمية “التنظير من الأسفل”.
لقد قدم محمد علي نفسه للجمهور، بكل ما يملك من خطايا لم ينكرها، لم يكلف نفسه حتى عناء أي مرافعة دفاعية عن أي تهمة فساد أخلاقي أو مالي موجهة إليه، بل قدم نفسه كابن الشارع المحمل بكل الخطايا التي يمكن لأي شخص أن يحملها من عموم الناس. ووضع الوزر كله على نظام قام بتشريحه ببساطة ليثبت نظريته أن الكل فاسد، والكل مخطيء بلا استثناء، فيصل إلى نتيجته النهائية بضرورة عزل السيسي وطي الصفحة، ووضع أسس جديدة لعقد اجتماعي وسياسي جديد بين المصريين، واقعي جدا يحدد العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وقد يكون هناك من يسرب له المعلومات، وتلك حالة طبيعية بعد انتشاره الواسع والمفاجيء.
لقد أعاد ابن الحارة المصرية المحمل بكل الأخطاء والبعيد كل البعد عن القداسة أو التنزيه، إنتاج نظرية حكم جديدة بعيدا عن فانتازيا سيد قطب المتطرفة، وأبسط بكثير من تنظيرات مريدي حوزات لوك وهوبز وروسو ومونتسكيو. كان فقط مزودا بغضب وكثير من المعطيات التي شهدها بنفسه وكان شريكا بها، وكثير من سجائر مارلبورو، وجهاز هاتف ذكي بكاميرا جيدة.
عن موقع “الحرة” .