“إسرائيل” .. آخر نظام أبارتايد ؟

في السابع من أيار (مايو) 1948 وجه شارل مالك، مندوب لبنان في الأمم المتحدة، برقية إلى الحكومة اللبنانية يقول فيها: ” لقد أتم اليهود استعدادهم لإقامة دولتهم بالقوة، وسيباشرون العمليات العسكرية خلال هذا الشهر، فإن لم يقض العرب على هذه الدولة في غضون سبعة أيام، ستدوم سبعة أشهر، فإن لم يقضوا عليها خلال سبعة أشهر ستدوم سبعة أعوام، فإن عجزوا عن إزالتها في سبعة أعوام فقد تدوم سبعين عاما وربما أكثر”.

وقف العالم الغربي بمعسكريه مع قيام دولة إسرائيل ورفض العرب والمسلمون هذه الدولة. كانت هزيمة حرب 1948 نكبة هزت أركان الدول العربية بعد الكولونيالية الناشئة. ومن المنافي ولدت هوية فلسطينية مشتركة لكل الفلسطينيين في الوعي الجماعي كمشروع سياسي وثقافي وحضاري لاستعادة الذات التي استلبتها دولة الاستيطان اليهودي في فلسطين.

لم تتعامل الحكومات الإسرائيلية المتتابعة يوما مع فكرة السلام، باعتبارها مسارا متبادلا وشراكة قائمة على قبول الآخر، أو بوصفها مشروعا سياسيا لدولة فلسطينية قابلة للعيش. وهنا نعود لجذور أسطورة التأسيس لدولة إسرائيل القائمة على رفض الآخر الفلسطيني ككيان سياسي. لم يكن الآباء المؤسسون يوما يهذبون الكلمات والعبارات في كل ما يتعلق بالترحيل والنفي القسري كوسائل “مشروعة” لبناء وطن قومي نقي. الدفاع العدواني aggressive defense، الذي جعل منه دافيد بن غوريون إنجيله العسكري، يربط باستمرار بين تحطيم الهدف العسكري وطرد السكان. حتى الحكومة الإسرائيلية التي وقعت اتفاقية أوسلو في 13 سبتمبر 1993، لم تكن بعيدة عن هذا النهج، حين ربطت بشكل عضوي بين بناء المستوطنات والعملية السياسية. وتركت لما عرف بالحل النهائي ملفات تسمح بالضم والقضم فيما تبقى للفلسطينيين من قدس وأرض ومياه وبيوت ومزارع برسم الهدم. هناك طرق معبدة محمية للمستوطنين وأشباه طرق تحت وطأة الحواجز والمراقبة للفلسطينيين. وقد بنت من المستوطنات في فترة يفترض أنها لتعزيز إجراءات الثقة ما فاق حقب المواجهة المفتوحة مع شعب. حطمت البنيات التحتية للاقتصاد الفلسطيني، بنت جدار فصل عنصري في أرض الفلسطينيين وفق ما أقرته هي نفسها أرضا فلسطينية… ومع وصول نتنياهو للسلطة قبل أكثر من عقدين من الزمن، لم تعد سياسة بناء منظومة أبارتايد، سرا من أسرار الدولة العبرية. وقد تنبهت المنظمات الحقوقية الفلسطينية لهذه السياسات المدمرة البعيدة المدى. ونشر الدكتور محمد حافظ يعقوب قبل دخول القرن الجديد “بيان ضد الأبارتايد”. وعلينا انتظار عشرين عاما ليقدم ريتشارد فولك Richard Faik وفرجينيا تيلي Virginia Tilley وثيقة أممية للإسكوا حول قضية الأبارتايد. بالطبع سيرفض الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريس أن يذيلها بتوقيع منظمته، ففي ذاكرة غوتيريس قصة أول مبعوث دولي للأمم المتحدة السويدي فولك برنادوت الذي اتفقت منظمتا “أرغون” التي يرأسها مناحيم بيغن و”شتيرن” برئاسة إسحق شامير على اغتياله في 17 سبتمبر/أيلول 1948 في القطاع الغربي لمدينة القدس.

هل تستحق القضية الفلسطينية أن يضحي أمينها العام بمستقبله الدبلوماسي، بل حتى ولاية ثانية في منصبه؟

لقد وصل المشروع الإسرائيلي إلى مداه الأوضح: توظيف المأساة اليهودية في ظل النازية- في مركب صناعي complexe industriel  متكامل يعطي بالضرورة نظام أبارتايد متكامل الأوصاف، يبدأ بتعزيز عقدة الذنب، وتأصيل فكرة “أمة وظيفية” في خدمة رأس المنظومة العالمية، والإبن “المدلل” فوق القوانين والشرعية الدولية.

 كل مدارس التحليل التقدمية تقول بأن المنظومة العالمية World-System تستغل ما سواها، وتتناسى أن المنظومة الوحيدة التي نجحت في استغلال وابتزاز هذه المنظومة اسمها “دولة إسرائيل”.

تعيد الدولة “الطائفية” الطابع، التي قدمت نفسها للعالم باعتبارها النقيض المعنوي لمأساة اليهود في ألمانيا، تعيد إنتاج السيناريو بصيغة تناسب الزمان والمكان. في لحظة “اكتمال” التفوق العسكري الإسرائيلي التقني بكل المعاني، ونجاح اللوبي الموالي لإسرائيل على الصعيد العالمي في جعل صاحب شعار “أمريكا أولا”، يزاود على اليمين المتطرف الإسرائيلي بحماقاته المعتوهة و”صفقاته”. تنال الحكومة الإسرائيلية تفويضا مفتوحا بالقتل والهدم والضم والنهب من الإدارة الأمريكية. مستغلة فرصة التواطؤ الغربي الرسمي وتعفّن دول الثروة العربية، وانحطاط إيديولوجيات التلوث المذهبي التي تروج لمركزية الصراع مع الإرهاب ومعسكرات الشر المرسومة حسب الطلب والرافضة ولا مركزية الصراع العربي الإسرائيلي. يستثمر اليمين المتطرف الإسرائيلي في هذه السوق-المستنقع، ليخرج كمون رغباته الدفينة في إلغاء ما يمكن تسميته كيانا فلسطينيا قابلا للحياة.

لكن نيران إلغاء الآخر الحاقد نفسها، هي التي تضع المجتمع الإسرائيلي وتضعنا أمام أسئلة مركزية تعيدنا إلى المساءلة الأولى حول شرعنة الكيان الصهيوني:

– ما هي الفكرة التي تحملها الجماعة الإسرائيلية اليهودية عن تنظيم العلاقة مع المكونات الذاتية للدولة وجيرانها؟

– هل يمكن أن يتحرر المجتمع اليهودي الإسرائيلي من فكرة العصبية الممزوجة بالتفوق كأساس لأمنه، هذه الفكرة الخلدونية التي تترجم في كل أزمة بارتكاز مفهوم الشعب على القوة المسلحة وقداسة تفوق النحن وكراهية الآخر؟

– هل يمكن لهنجهية القوة والسيطرة أن تكون عنصر توازن داخلي وتعايش خارجي؟

– هل بإمكان هياكل الدولة حماية عملية إعادة إنتاج الغيتو “الموسع في كيان سياسي” من الخوف والحقد؟

– هل يمكن للمجتمع الإسرائيلي الاستمرار اليوم دون أرضية باثولوجية منجبة للعقد النفسية داخل الجماعة،  وللجرائم الجسيمة من حولها، باعتبار إرهاب وإذلال الآخر عنصر اطمئنان أساسي للذات المهزوزة ؟

أصبحت تعبئة لوبي المناصرة لمشروع يعيش أزمة معممة، ترتبط أكثر فأكثر بتعزيز التعصب والعصبية اليهودية والإنجيلية المتطرفة. أما مناهضة كل اندماج لليهود في مجتمعاتهم خارج إسرائيل، فتحولت اليوم إلى سياسة رسمية للدولة العبرية. ومع كل فشل في خوض معركة العلمنة الضرورية للخروج من الجماعة المتسلطة إلى الدولة الديمقراطية، مع كل فشل في التعامل المتكافئ مع الجيران، أو في الخروج من ثقافة العنف الضروري للأمن إلى ثقافة الاعتراف بالآخر كأساس لأي استقرار أمني وسياسي، أو في بناء علاقة بشرية خارج منطق العربات المصفحة والطائرات المسيرة القادرة على التحطيم والاغتيال بذكاء.. مع كل إخفاق جديد، لا تنحسر النتيجة فقط في فقدان الاستقرار السياسي موضوعيا والاستقرار النفسي ذاتيا. بل تتعدى ذلك لتكوين جماعة مغلقة تسلطية بتعريف طبيب الأمراض النفسية لوسيان إسرائيل: “جماعة محمولة بالطباع التسلطية(الأوتوريتارية) تفرز ميثولوجيا تكوينية، تأسيسية، مسارية وأصلية. الأب المشترك، الإله، الطوطم.. يؤسسون الاعتراف المتبادل بينهم عبر مراجع بيولوجية كاذبة: نحن من نفس اللحم، لقد استهلكنا الضحية عينها، نفس الدم يجري في عروقنا.. تتشكل الجماعة بالتعارض مع الخارج (الآخر)، وهكذا ينبثق الطبع التسلطي. إذا كنا داخل الجماعة بين أخوة الدم، فالآخر الخارجي يتحدد بعلامات وصفات تختلف عن صفات الجماعة. وهذا الاختلاف يصبح حاملا لقيم، والآخر خارج الجماعة يصبح حاملا للشر. التجمع يسمح للطبع التسلطي بأن يحمل دون توجس ولا قلق حكما تحقيريا حول الآخر، حكما يسمح بكل العداوات وكل المظالم” (مدخل إلى الأمراض النفسية، ص 37، 1984).

لا تحمل السلطة في ذاتها تبريرها النهائي مرة واحدة وإلى الأبد. فشرعية الدولة ترتبط أولاً بما تعنيه بالنسبة للجماعات التي تشكل إطارها البشري. أي بالفكرة التي تحملها الجماعة عنها وقدرة هذه الفكرة على أن تكون قاسما مشتركا أدنى مع محيطها الجغرافي. فلا يكفي أن يطمئن المواطن الإسرائيلي على تفهّم الأمريكي أو الإنجليزي  لدوافعه المعلنة لاعتماد العقوبات الجماعية في فلسطين ولبنان والمنطقة استراتيجية عسكرية: حصار اقتصادي واجتماعي وبشري، قصف البنية التحتية واستهداف القرى والمدن، تحويل فلسطين المحتلة لسجن محاصر بترسانة عسكرية تصول الزنانات والدوريات وتجول فوق سمائه وبين بيوته وعلى الشاطئ وفي البيارات المحطمة والإدارات والمنشآت الاقتصادية المدمرة: المجتمع إرهابي والقيادة إرهابية، خطف القيادات السياسية الفلسطينية والتبرير القانوني للتعذيب مهمة نبيلة!!..  لا اعتذار ولا هزة جفن إن أدى قصف بيت مقاتل إلى خسارة ثلاثين مدنيا. أليست “الحرب على الإرهاب” في قراءتها الأمريكية الإسرائيلية أيضا، إلغاء تفريد المسئولية بدعوى عزل الإرهابي عن “حاضنته الاجتماعية”؟؟ أي العودة إلى ما قبل مفهوم القانون، إلى قانون الغاب.

في وضع كهذا، يتأصل يوما بعد يوم، تصدع وجودي زرعته عقلية التفوق وأصلته القناعة بالقدرة على الفعل دون محاسبة والجريمة دون عقاب. لكن الفارق الأساسي بين الحيوان والإنسان تكمن في وعي الفعل ووظيفة الذاكرة المتجسدة، كما يقول جيرار ميريه “في بناء المسئولية؛ فحيث تنتفي المسئولية تنتفي الإنسانية، وتنتفي الحرية”.. الدولة الخارجة عن العرف والقانون (إسرائيل)، تقود الوعي الجماعي لضحاياها إلى قواعد بسيطة ستعيد صياغة المفاهيم والتصورات والمواقف السياسية في كل ما يتعلق بكينونتها: النفي ينجب النفي، والعنف ينتج العنف، وبربرية القوة تشّرع لكل أشكال المقاومة.

مهما كانت طريقة نقل وتصوير الجرائم الإسرائيلية في الإعلام ووسائل مجموعات الضغط الموالية للدولة العبرية إلى المجتمع الغربي، فإن الصورة التي يكونها هذا المجتمع لا تغير الكثير في المقومات الداخلية للاستقرار الإقليمي الذي يسمح للجماعة الإسرائيلية بتجديد شروط إنتاجها كجماعة سياسية في الزمان، أي التاريخ، وفي المكان، أي الفضاء البشري المجاور.  فمهما كانت بنية الدولة أو حجمها أو قدراتها أو عقيدتها المعلنة، تنهار أسطورة التأسيس مع تقلص هامش العمل السياسي مع المحيط وصيرورة العمل العسكري التعبير الأسمى للسياسة. إن أي إزمان لحالة عدم التوازن لا يعني اضطراب الوجود الفلسطيني تحت الإحتلال وفي ظل العدوان وحسب، بل اضطراب في حالة الاستقرار السياسي للمحتل المعتدي نتيجة التداخل الإجباري بين الجماعة الفلسطينية والجماعة الإسرائيلية، بين الهجرة إلى فلسطين والتغييرات الديمغرافية في حدودها التاريخية، بين صورة فلسطين والجولان عند ملايين البشر في الجوار المباشر وصورتهما في ذهن الإسرائيلي.  ها قد ماتت صورة الكيبوتز (الاشتراكية)، وغابت ضرورة الدولة الأخلاقية التي لا يحق لها تكرار ما حصل مع مؤسسيها بحق ضحايا جدد. “الديمقراطية” الطائفية لم تعد أنموذجا يمكن التحدث فيه. ومع العسكرة الدائمة للمجتمع والدولة، اختزل المشروع الصهيوني في أسطورة جيش فوق الجيوش.. قوة متفوقة وأسلحة متميزة ومساعدات أمريكية بلا حدود، تحقن هذا الوجود الذي اختار العنف شرطا واجب الوجوب لاستمراره.

في عوالم الذاكرة القصيرة، لن نذكر بمأساوية مسار جنوب إفريقيا للخروج من الأبارتايد، فعلى مقربة من الجميع، الدرس الأهم من محرقة داعش: إدارة التوحش هي أولا وأخيرا، عملية تحطيم ذاتي، وليس فقط منهج تدمير للآخرين.

هيثم مناع

Scroll to Top