أنس العبدة : الرئاسة الثانية، والأخيرة للائتلاف؟

بعد أن كان عام 2005 عام الهزات والتخبطات الكبيرة للنظام السوري، في مجموعة العقابيل الكبيرة التي نجمت عن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان واجتماع المعارضة السورية على صيغة مرنة للتحالف (إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي).. شكل عام 2006 عام التخبطات والاضطرابات الكبرى في المعارضة السورية. فقد قرّر الإخوان المسلمون التحالف مع نائب الرئيس السوري المنشق عبد الحليم خدام فيما سمي “جبهة الخلاص الوطني” في منتصف آذار/مارس 2006، وطالب قطاع هام من “إعلان دمشق” القيادة بموقف واضح من هذه الجبهة، فانقسمت الآراء بين اتجاه يقول (هي ورقة سياسية يمكن استثمارها دون تحمل تبعاتها) واتجاه شن هجوما إعلاميا عليها عبر توزيع مقالين لهيثم مناع (من يعوّل على من؟) اعتبر اتفاق الإخوان مع خدام مثلا صارخا على سطحية وشكلية انتسابهم لإعلان دمشق وخطابهم المزدوج مع المعارضة الوطنية الديمقراطية، واتجاه ثالث يختصر بجملة (لننتظر ونرى).

اتصل أنس العبدة بالدكتور هيثم مناع بعد أسبوعين من إعلان جبهة الخلاص وأعلمه بأنه مع السيد مسعف الحلفاوي بصدد تشكيل حركة إسلامية سورية على نمط حزب العدالة والتنمية في تركيا وهي مستقلة عن الإخوان المسلمين وتتبنى إعلان دمشق وترغب فور الإعلان عن نفسها الإنتساب رسميا إليه. وأن الحركة ترغب بحضوره الإعلان عن التأسيس خلال مؤتمر صحفي في لندن ووجه له الدعوة للمؤتمر.

كان مناع يزور لندن إسبوعيا من أجل برنامج تلفزيوني للجنة العربية لحقوق الإنسان “حقوق الناس”، وفي حالة استياء من مواقف الإخوان المسلمين منذ لقاء البيانوني والغادري تتوجت بقطيعة معهم عند إعلان جبهة الخلاص، فوعد بحضور المؤتمر الصحفي.

بالفعل في 10 أيار/مايو 2006 شارك مناع في الإفتتاح مع آخرين منهم محمود السيد دغيم، الذي ألقى قصيدة مذهبية في هجاء النظام. الأمر الذي أثار استياء مناع، إلا أن أنس العبدة طمأنه إلى أن الحركة ضد المذهبية وهي بمثابة حزب سوري محافظ لكل السوريين. بعدها زار أنس العبدة مناع في باريس وسلّمه طلب انتساب رسمي لإعلان دمشق، حمله لقيادة الإعلان أحد قياديي حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في زيارة له لباريس. وبعد ذلك بقليل تم تنظيم زيارة إلى واشنطن لأسامة المنجد وأنس العبدة حسب أحد المنشقين من حركة العدالة والبناء (كانت بداية العلاقة مع المنظمات الأمريكية ولا علم لنا قبل ذلك بالموضوع)، في حين تقول مصادر أخرى تؤكدها وثائق ويكيليكس، أنها تبعت اتصالات عديدة بالسفارة الأمريكية وتلقي مساعدات كانت محدودة وهدفت الزيارة إلى مساعدات جدية تشمل إطلاق محطة فضائية ومساعدة عدد من النشطاء في الداخل ودعم عائلات المعتقلين ومن يتم تفرغه داخل البلاد. وكانت الشروط الأمريكية واضحة، فلم يلبث أهم كوادر الحركة (مسعف حلفاوي) أن اتصل بعدد من الشخصيات الوطنية في المعارضة لإعلامهم بالأمر.

أعلم هيثم مناع قيادة الاتحاد الاشتراكي العربي وعدد من قياديي إعلان دمشق بما أخبره حلفاوي، فأخبره قريبه حسين العودات أن العبدة قد بنى شبكة مع عدد من المؤيدين للتحالف مع الأمريكان وهو يشرف على مساعدات تصل لعدد منهم، ولهذا السبب هناك شبه شلل في الإعلان وقد تنفجر الأمور في أية لحظة. فابتعد وأصدقائه عن كل اجتماعات إعلان دمشق في الخارج. قبل أن يخرج بيان ماجد حبو وناصر الغزالي وهيثم مناع بتجميد عضويتهم في إعلان دمشق بعد قيام حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي بالخطوة نفسها.

 توجهنا بالسؤال لهيثم مناع عن قصة حضوره مؤتمر العدالة والبناء فأجاب:

“سألت كاتبا إسلاميا التقيته في قناة الحوار عن أنس العبدة بعد اتصاله بي، فقال لي:””لا أعرف عنه شيئا لكنني أعرف والده محمد العبدة، وهو من جماعة محمد سرور زين العابدين الذين يسمون بالسرورية، وقد انشق عن الإخوان المسلمين قبل 1978 ولا أظن له علاقة بقيادتهم اللهم صداقة مع بعضهم. وعلى حد علمي أولاده ليسوا سروريين ولا إخوان، بتقدر تسميهم اسلام لايت”. كنت قد قرأت كتاب سرور “وعاد المجوس” وكتب أخرى يخلط فيها بين الشعوذة والحقد المذهبي وتقديس ابن تيمية وسيد ومحمد قطب، ولم أقرأ لوالده محمد العبدة لبعد أربعة أعوام عند كتابتي (السلفية والإخوان وحقوق الإنسان). كان أنس يؤكد على أنه يسعى لبناء حزب محافظ وأن هناك مد إسلامي محافظ في سوريا من الضروري أن يجري التعبير عنه سياسيا وأن يكون جزءا من إعلان دمشق، ولكنه لم يبد أي ميول غربية أو أمريكية. ويوم دعاني لمؤتمر حركته كنت أقود حملة دولية ضد القوائم السوداء والسجون السرية وغوانتانامو ومعروفة مواقفي من إدارة بوش-شيني. من هنا الإحباط الكبير الذي أصابني يوم عرفت بعلاقته بالسفارة الأمريكية ودوره في سمسرة التمويل الأمريكي. قاطعته تماما وقتها ولسنوات، وأول مرة التقيته في مظاهرة نظمناها أمام السفارة السورية  بعد أسبوعين من الحراك الشعبي في سورية في 2011 طلبت من الشرطة الفرنسية إبعاده عن المظاهرة”.

في العام 2007، وعبر وزارة الخارجية الأميركية، حصل “العبدة” على تمويل شبه سري جديد بقيمة 6   ملايين دولار لإنشاء قناة “بردى” وكان الاتفاق على أن تكون ناطقة باسم”إعلان دمشق”. وتمويل لمركز أبحاث باسم ” المعهد الدولي للدراسات السورية ” الذي لم يصدر منذ إنشائه في العام 2007 سوى تقرير واحد بعنوان ” البعث الشيعي في سورية 1991 ـ 2007 “.

(يوم الإثنين 18 / 4 / 2011/ أكدت صحيفة”واشنطن بوست”، نقلا عن البرقيات السرية لوزارة الخارجية الأميركية التي نشرتها “ويكيليكس” كل ما كان يقال في مقالات على موقعي “الحقيقة” و”الحوار المتمدن” وغيرهما، أو تعليقات وتسريبات في أوساط المعارضة في لندن وباريس.

في مقالته “السوريون الأمريكيون: قراءات في السيرة الذاتية” كتب المعارض السوري شبلي شمايل:

“لم تستجوبه المحطات المحبة للأمريكان يوم فضحت وثائق ويكيليكس علاقته والتمويل الذي حصل عليه من الخارجية الأمريكية. وبعد فترة عاد يتنقل من محطة تلفزيونية لأخرى بألقاب مختلفة. واليوم مع بدء الحديث عن تدخل خارجي في سورية يعود إلى واجهة الجزيرة والإعلام الخليجي. هو السيد أنس العبدة، الإسلامي الأمريكي صاحب شهادة سمسار دولي من الطراز الأول. وكما تصفه الخنساء العربية تقول: قليل الفهم قليل الثقافة، يغطي بلحيته شخصية عدوانية لا يقل عنفها الباطن عن ماهر الأسد، متعمق الفهم في الكذب والنصب والتمويل والتدويل، قام بإخفاء نتائج زيارة مندوبه أسامة المنجد لواشنطن عن القيادي والمنظر في حركة العدالة والبناء مسعف الحلفاوي رئيس المكتب السياسي للحركة لواشنطن خاصة وأن الاتفاق الذي وقعه المنجد لتلقي مساعدات أمريكية كان من منظمات محافظة جديدة وصهيونية بروتستنتية مشروطة بأن يصبح تعريف حركة العدالة والبناء: حركة إسلامية ليبرالية محافظة وأن يعتبر حماس وحزب الله منظمات إرهابية، وكان الوسيط المباشر في ذلك عمار عبد الحميد (الذي التقى بوش الإبن مع مأمون الحمصي وتنصل إعلان دمشق يومها من أية علاقة بهما). ومن المفيد التذكير بالملاحظات التي كتبها مسعف الحلفاوي بعد بداية التنسيق بين العبدة والمنجد ومنظمات أمريكية محافظة جديدة وكيف انعكس ذلك في منشورات العدل والبناء:”1- تبني منطق ومواقف الإدارة الأمريكية والمحافظين الجدد عند التطرق للأحداث الجارية في فلسطين والعراق كالحديث عن “مجموعات الإرهاب الفلسطيني” و”المتمردين” على “النظام الديموقراطي” الذي تنشئه سلطة الاحتلال في العراق، وأنظر كمثال ما ورد في نشرة الأخبار الانكليزية الخامسة الموجودة على موقع الحركة.

2- التنكر للإسلام كمرجعية معتمدة للحركة عبر تحاشي ذكره في القسم الإنكليزي لموقع الحركة ونشر مقالات تدعو لما يتناقض معه في القسم العربي.

3- مقاومة أي مسعى جاد للانتقال بالحركة من صيغة العمل الفردي إلى العمل المؤسساتي والخروج من حالة التسيب التنظيمي والإرتجال في إتخاذ القرار، وذلك بهدف ضمان الإستمرار في التسلط وحرف المسيرة عن توجهها العربي الإسلامي الأصيل.

4- التهويل والمبالغة والبعد عن الموضوعية فيما يصدر عن الحركة من نشرات وأخبار.

5- انفراد الرئيس (أي العبدة) بالمال بعيداً عن الجميع حتى المسؤول المالي وعدم وضوح مصادره”.

أمسك العبدة بالأساس من المساعدات المالية الأمريكية لإعلان دمشق الأمر الذي سمح له باستلام بقايا إعلان دمشق في الخارج والإمساك برقبة ضحايا الإعلان من مناضلين دخلوا السجن وخرجوا دون عمل أو مورد. واعتمد في ذلك على ما صار يعرف (العبدة إخوان) أي شقيق يمسك الحركة ومشروع قناة بردى وآخر في الدوحة (الجزيرة الإنجليزية). وباسم “إعلان دمشق” كان في المجلس الوطني السوري والائتلاف، العين الساهرة لمن يموله. لهذا لا يستغرب أن يكون ودود رياض سيف والساهر على سهير، أو أن يعتبره الجربا مستشاره السياسي أو ينسق مع “شلة لندن الرمضانية” وداعم أحمد الطعمة. فكلما يصفه الدكتور مطانيوس حبيب:

“لم يختلف أنس مع أي فريق سيطر على المجلس وحافظ بسبب عدم امتلاكه لأي مبدأ على علاقة جيدة مع الجميع ، فهو ليس له عدو لأنه ليس لديه مبدأ ولا موقف من أي شيء، المهم مصالحه الخاصة التي تتطلب استمرار تواجده في مكانه … فأي شيء وكل شيء ممكن بطريقة براغماتية بطريقة تجعله يشبه المتحول الزحاري … تلك الصفة التي طغت على من تبقى في الائتلاف الذي استقال منه تباعا كل من لديه حد أدنى من الثوابت … فلم يتبق إلا المتحولين المتطفلين الذين لا مبدأ ولا قيم ولا فكر ، والذين أعطوه صورته التي يعرفها الشعب جيدا … و يستقبلهم في المناطق المحررة بالأحذية وكشاشات الذباب لكراهة شكلهم ونتانة رائحتهم … إنهم طفليات الثورة وعلقها وطحالبها وضفادعها الذين يشكلون اليوم قادتها ومؤسساتها ويكتبون دستورها”.

لا تعتمد الدول الكبرى على بيادق صغيرة إلا بقدر قدرتها على القيام بخدمات أكبر من حجمها. لذا فهي تلعب كل الأوراق بنسب متفاوتة وفقا لمصالها الآنية في لحظة محددة، ضمن مبدأ واحد هو تحديد من هو التابع ومن هو المتبوع. هكذا اعتمدت السياسة الأمريكية في حقبة القحط التي تلت احتلال العراق على شخصيات هزيلة وكلما انضم لركبها أشخاص جدد، استغنت عن الأضعف على مبدأ “محارم الكلينكس” التي تستخدم لمرة واحدة، وأحيانا أكثر مرة.

تراجع اعتماد الأمريكيين على أنس العبدة بعد تبرع عدد من السوريين لتقديم الخدمات معهم بدءا من نساء واشنطن ورضوان زيادة ولؤي صافي ومنير الغضبان وأيمن عبد النور وغسان عبود بدءا من ملف The Day after وانتهاء بالتعاون “الإنساني”، وتثبيت بيادق في المجلس والإئتلاف. إلا أن الإحباط الأمريكي من فشل تشكيل فصيل عسكري مدرب أمريكيا وانهيار “حزم” قد انعكس على باقي الملفات. وقد توافق ذلك مع نجاح وساطة السليمانية بين “وحدات حماية الشعب” والقوات الأمريكية في التحالف الدولي ضد داعش.

حرص الأمريكيون على حصر علاقاتهم بما أصبح “قسد” بالجانب العسكري. وأصروا على تغييب حليفهم الكردي عن أية مباحثات سياسية. وقد أقنع السفير الأمريكي مايكل راتني صالح مسلم في لوزان، بأن هذا الإبعاد مؤقت وعن الجلسات الأولى للتفاوض (مؤقت منذ ثلاثة أعوام ونصف؟)، وكذلك فعل الطرف الروسي. وبالفعل رضخت قسد للإبعاد السياسي الكامل عن مسار الرياض والوفود التفاوضية المختلفة، الأمر الذي سمح للأمريكي بامتلاك ورقة إبقاء علاقة الحد الأدنى مع أنقرة، رغم شراكتها روسيا وإيران في ترتيبات الأستانة، ولكن أيضا، تهشيم ما أسمته الإدارة الذاتية (روج آفا) عبر الصمت الأمريكي عن احتلال عفرين وما رافق ذلك من تطهير عرقي نال قرابة نصف مليون كردي سوري. الأمر الذي حدد جغرافية قسد شرقي الفرات في ثلاث محافظات (الرقة، الحسكة ودير الزور) خارج خارطة “الكانتونات” الكردية الثلاثة وفي أرض يشكل العرب والسريان والتركمان إلخ أغلبية سكانية واضحة فيها.

حاول الإئتلافيون عبر انتخاب رياض سيف استعادة ثقة الأمريكي في فترة استهلك فيها الإئتلاف والسيد سيف، وفشلت المحاولة. ولم يعد عندهم إلا ورقة أنس العبدة، للقول بأنهم ليسوا تحت الطلب التركي، وأنهم يعتمدون على من يثق بالتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. إلا أن أحد الباحثين في مركز الأزمات الدولية لخص الوضع عند انتخاب العبدة بالقول: “إدارة ترامب لا تشتري من سوق البالة”.

من مآسي الوضع السوري اليوم أن يصل أحد النشطاء للقول: “رحم الله هيلاري كلنتون، كانت تعرف كيف تُغلق محلات البالة”.

Scroll to Top