في لقاء بين عدد من شخصيات الجالية السورية مع الخارجية الأمريكية في واشنطن، أوضحت الخارجية للوفد، بعد شهرين من انطلاق الحراك الشعبي في درعا، أن الملف السوري سيكون في عهدة تركيا، خاصة وأن الناتو قد اعتمد في ليبيا بشكل رئيسي على قطر والجامعة العربية. ومنذ ذلك التاريخ، كان واضحا أن فرنسا والإدارة الأمريكية تعول على دور رئيسي لحكومة أردوغان في إدارة الملف السوري.
جرى جلب عدد من قيادات الإخوان المسلمين من اليمن إلى الأراضي التركية وكذلك بعض من بقايا إعلان دمشق من الداخل وعدد من المنشقين الأوائل. عقد مؤتمر أنطاليا وعدة اجتماعات في تركيا بدعم من غزوان المصري نائب رئيس الأسياد (مجلس رجال الأعمال الإسلاميين في تركيا) ورجال أعمال سوريين. وعلينا انتظار النصف الثاني من حزيران/يونيو 2011 ليظهر الفرز بين محاولات بناء جبهة ديمقراطية وطنية في الداخل التي شارك فيها قرابة 12 حزبا وهيئة وشخصيات بارزة مثل حسين العودات وفايز ساره وعبد العزيز الخير وقاطعها رياض الترك ورياض سيف وهيثم المالح، ومحاولة شخصيات إسلامية (إخوانية وغير إخوانية) بناء هيكل مركزه المؤقت في تركيا وله امتداد تنظيمي في الداخل.
جرى الإعلان الإرتجالي عن “مؤتمر الإنقاذ” الذي عقد في اسطنبول في 16 تموز/يوليو 2011 وشارك فيه إعلان دمشق وبرهان غليون وغيرهما (بصفة مراقب!). كان هيثم المالح وعماد الدين الخطيب على قناعة بأن سقوط النظام قاب قوسين أو أدنى، وتؤكد التسجيلات الصوتية لهما وتصريحاتهما التي جمعناها هذه القناعة، حيث أكد عماد الدين الخطيب لمن اتصل بهم من المعارضة أن السيناريو الليبي (التدخل الخارجي) قادم لا محالة وعلينا أن نكون جاهزين حتى لا يكون هناك فراغ بعد سقوط النظام، في حين صرح هيثم المالح لفرانس برس في 16/7/2011 “هذا النظام سيسقط من الآن حتى بضعة أسابيع إنشاء الله”.
فشل مؤتمر الإنقاذ بكل معاني كلمة الفشل، فتأطرت مجموعة عماد الدين الرشيد (لقاء التنسيق الديمقراطي) من جديد للإعداد لمجلس انتقالي سوري، والتقت في هذا المشروع مع لؤي صافي (الذي غطى أهم تكاليف مؤتمر الإنقاذ باسم المجلس الأمريكي السوري) و”حركة العمل الوطني” بقيادة أحمد رمضان وعبيدة النحاس (ممن يسميهم البعض الإخوان الجدد، في حين يؤثرون تسمية الجيل الثاني في الأوساط الإخوانية). وقد تواصلت المجموعتان مع عبد الباسط سيدا وبسمة القضماني لتشكيل نواة تنظم الترشيحات والبرنامج للمجلس الوطني، كان لؤي صافي يضع أحمد داود أغلو بالأجواء لكسب الجانب التركي وكذلك الأمريكي عبر وزارة الخارجية، في حين تكفّل أحمد رمضان بتطمين الطرفين الخليجي والبريطاني لأن هذا المجلس سيشكل قوة سياسية وحليفا استراتيجيا لهم. جرى الإعلان عن أكثر من صيغة، مع شبه ثبات في 74 اسما مثبتا منذ شهر آب/ أغسطس من المؤسسين.
وفق شهادة مؤسس رئيس، “كان برهان غليون موافقا على الفكرة منذ فشل مؤتمر الإنقاذ، ولهذا فقد تفاجأ الستة القادمين من اسطنبول، الذين حضروا اجتماع الدوحة في مطلع سبتمبر 2011 من انحيازه لفكرة ائتلاف وطني سوري التي تم التوافق عليها. كذلك الأمر بالنسبة لحازم نهار الذي حضر لاسطنبول في 19-20 آب/أغسطس، والذي طلب منه أحمد رمضان أن يكتب مسودة البيان للمجلس ثم تجري مراجعتها”. في حين تنكر هيئة التنسيق الوطنية معرفتها بالأمر وقال لنا قيادي فيها أن “برهان غليون كان نائب المنسق العام حسن عبد العظيم في المهجر، ومازالت مقابلته على الجزيرة على اليوتوب وهو يقول أن اختياره لهذه المهمة أمر طبيعي لتمثيل هيئة التنسيق في الخارج، وفي اجتماع الدوحة قدم نفسه كهيئة تنسيق وإعلان دمشق ولم نكن نعرف بعلاقته المبكرة مع مجموعتي اسطنبول ولم يظهر ذلك في اجتماع الدوحة. أما مهمة حازم نهار فكانت الحوار من مجموعات اسطنبول وإعلان دمشق للالتحاق بهيئة التنسيق، وبأضعف الإيمان التوصل إلى صيغة عمل مشتركة تجنبا لبعثرة المعارضة، ثم ترك الهيئة واشتغل لحسابه مع الدوحة”. يؤكد أحد المؤسسين للمجلس، أن الطرفين التركي والفرنسي كانا على قناعة تامة بضرورة المشروع وكذلك هيلاري كلنتون. “لهذا شاركنا في اجتماع الدوحة لمعرفة إذا ما كان الاجتماع مجرد مبادرة أو تيست من الجانب القطري لإمكانية تنظيم المعارضة من قطر، أم مبادرة من عزمي بشارة لتوضيح صورة أوضاع المعارضة للديوان الأميري؟ وقد فهمنا من مسؤول قطري مهم أثناء وجودنا في الدوحة أن الأمر لا يتعدى مبادرة من عزمي، لذا صوتنا ضدها ولم نتابع الأمر البتة بعد مغادرتنا قطر”.
كان لالتحاق حركة الإخوان المسلمين وإعلان دمشق رسميا بالمشروع دورا حاسما ضمان تأييد التحالف الخليجي الغربي التركي للمجلس. والتحق برهان غليون باسطنبول مقابل تسلّم رئاسة المجلس في 2 تشرين الأول/أكتوبر 2011.
في نفس الوقت تواصلت السلطات التركية مع “حركة أحرار الشام” أول من أعلن الجهاد منذ شهر تموز/يوليو 2011، وبعد أكثر من شهر، جرى الإعلان عن ولادة الجيش الحر من الأراضي التركية وبإشراف تركي مباشر. بالنسبة لحكومة أردوغان، كان الملف السوري هو الباب إلى دور أكبر في الإقليم بعد أن أمسك الثلاثي البريطاني الأمريكي الفرنسي بمقدرات الملف الليبي بغطاء قطري عربي. وقد أعلن أحمد داود أوغلو ذلك في لقاء مع لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان التركي. وكان من الضروري تطمين البريطاني بمكانة مهمة لشلة لندن التي يقودها أحمد رمضان، والأمريكي عبر لؤي صافي وأنس العبدة ورضوان زيادة، والفرنسي عبر بسمة قضماني أول فرنسية في المجلس تبعها في اللحظات الأخيرة برهان غليون (بعد فشل المحاولات القطرية لتشكيل ائتلاف واسع للمعارضة في الدوحة ورفض هيئة التنسيق الوطنية ما أسمته “تكرار السيناريو الليبي في سوريا”). وهكذا وضعت تركيا يدها على ما أصبح بقدرة قادر الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري.
لم ينجح المجلس الوطني السوري، رغم الدعم الذي تلقاه والدعم الغربي والخليجي، إلا في الإعلام والشبكة العنكبوتية. وأدى تهميش الضباط المنشقين في غرف العمليات والتشكيلات المسلحة (بدعوى خلفيتهم البعثية والعلمانية) لتعزيز الفصائل الجهادية التي انهال عليها المال والسلاح والمقاتلين الأجانب. وقد شاركت أهم حكومات “أصدقاء الشعب السوري” في تسهيل سفر المقاتلين الأجانب لسوريا. “في اللحظات المصيرية، كنا نشعر بأن الدول الداعمة للمجلس، تريده شكليا وبدون سلطات فعلية. لهذا أشرفت بنفسها على غرف العمليات في الشمال والجنوب وبعثرت الفصائل المسلحة في ولاءات لها أكثر منها للقضية السورية أو تحت سقف المجلس. واتضح لنا أنهم لا يريدون قرارا سوريا مستقلا. نحن كنا نريد أن نشتغل معهم وهم أرادوا أن نشتغل عندهم، و كما قال حمد بن جاسم يتهاوشون علينا كصيدة. لهذا استقلت مع عدد من الوطنيين بعد أن تحولنا إلى فترينة للآخرين لا حول لها ولا قوة”.
بذلت المعارضة الوطنية المستطاع من أجل إحباط هذه السياسات المدمرة، وخاضت في حوار مفتوح مع المجلس الوطني. وقد طلبت لأهم قيادييها (الدكتور عبد العزيز الخير والمحامي رجاء الناصر والدكتور هيثم مناع) البقاء في القاهرة للتوصل لصيغة سورية لتعاون مختلف أطراف المعارضة على ورقة عمل مشتركة. انسحب الإخوان المسلمون وشلة لندن وواشنطن الإسلاميتين من المباحثات في أول ديسمبر/ك1 2011، وقاد الدكتور وليد البني وفد المجلس بعد ذلك، وتمكن الوفدان من التوصل إلى ورقة عمل مشتركة وصيغة أولية لتكوين تحالف وطني سوري مستقل القرار. إلا أن تحالف “الإخونجية” وأسياده كانوا بالمرصاد، وأجبروا رئيس المجلس الوطني على سحب توقيعه. هنا ظهر عطب الذات الغليونية التي قبلت المذلة الإخوانية، والاستمرار في لعب دور التابع والمنفذ.
وصلت الدول الغربية والجامعة العربية لقناعة بأن المجلس الوطني لا يمثل إلا قطاعا من المعارضة وأن عمليات حقنه لم تعد مجدية، وعملية نفخه قد تؤدي إلى الإنفجار. فطرحت فكرة مؤتمر وطني جامع للمعارضة السورية في القاهرة تحت إشراف الجامعة العربية والثلاثي الغربي. ولم تعترض أطراف المعارضة المختلفة داخل سوريا على هذه الفكرة على أمل جمع أكبر قدر من السوريين في جسم سياسي واحد.
بعد إعلان رفضها للمؤتمر، عادت الكتل الإخوانية والإسلامية ووافقت على حضور اجتماع القاهرة للمعارضة السورية في 2 يوليو/ تموز 2012. إلا أن الإسلاميين حملوا معهم ثلاثة مطالب نجحوا في فرضها على المؤتمر، بالديماغوجية حينا، والتواطؤ التركي القطري حينا آخر:
- عدم قيام جسم معارض موحد بل حتى لجنة متابعة لمؤتمر القاهرة، ونجحوا في ذلك.
- سحب جملة “الدين لله والوطن للجميع” من العهد الوطني.
- تثبيت جملة “دعم المقاومة المسلحة للنظام” وليس فقط فصائل الجيش الحر، هذه الجملة التي شرعنت الدعم الحكومي وغير الحكومي الخارجي لكل الفصائل المسلحة بما في ذلك التنظيمات المصنفة إرهابية في الأمم المتحدة والغرب.
لذا انسحب فرع الخارج لهيئة التنسيق الوطنية من المؤتمر كذلك أحزاب كردية وشخصيات وطنية مستقلة وأعربوا عن عدم قبولهم بمخرجات المؤتمر.
لم يعد سرا أن قياديين في المجلس الوطني أصبحوا حملة حقائب للمنظمات المتطرفة من الكويت وقطر. وقد قال جون ويلكس السفير البريطاني بصراحة بعد أسبوع من مؤتمر جنيف الأول في لقاء مع هيئة التنسيق الوطنية في منزل السفير البريطاني في باريس: “لقد انتقلنا للخطة باء”. وبعد أيام دخلت الفصائل المسلحة المشتركة من الجهاديين والجيش الحر إلى مدينة حلب. وفي المؤتمر الصحفي نرى بجانب العقيد عبد الجبار العكيدي، قيادي معروف مما أصبح يعرف بداعش. وفي تصوير آخر نراه مع “أبو جندل” من التنظيم الإرهابي في مطار منغ العسكري؟
لم يكترث التحالف الغربي كل هذا الوقت، للصعود الكبير لدور “الجهاديين” المتصاعد على حساب فصائل الجيش الحر والمعارضة السياسية بمختلف تكويناتها. وأغمض العين عن التحاق مئات الأوربيين وعشرات آلاف الآسيويين والأفارقة للقتال في سوريا. وكانت المخابرات السورية في حالة نشوة عارمة، لتطبيع المعارضة الخارجية مع فكرة التدخل الخارجي وإعلان الجهاد في سوريا. فقطاعات واسعة من السوريين تخاف التطرف الإسلامي، وترفض التدخل الأجنبي، كما ترفض الأفغنة والصوملة، وستتحول من أغلبية ثائرة إلى أغلبية مضطربة، ومبعدة عن الفعل في تقرير مصيرها. الفقيد حسين العودات كتب بعد خطبة مرسي العصماء في ستاد القاهرة: “الحل الأمني العسكري وإعلان الجهاد في سوريا، جعلا حزب ضبو الشناتي (الهجرة والنزوح)، الحزب الأكبر في البلاد”. فالجميع يعرف أن هناك قرار للناتو بعدم التدخل العسكري في سوريا، وأن الجهاديين، المخترقين من عدة مخابرات إقليمية، يتكاثرون بالصراعات البينية والمزاودة المذهبية وتجارة الحرب، ولن يحصروا قتالهم داخل الحدود السورية. وأن التطبيع مع فكرة المقاتلين غير السوريين ليس حصرا بالمعارضة وداعميها.
بقي المجلس الوطني ينكر وجود “مقاتلين وجهاديين أجانب” في سوريا. وقد صرح خالد الصالح عضو المكتب التنفيذي في المجلس، في 18/10/2012، لمندوب صحيفة الأنباء الكويتية أن “العمل العسكري الفعلي بدأ مع تشكيل الكتائب في اغسطس عام 2011 وبطريقة غير منظمة وعلى حسب مدى توافر السلاح مع كل مجموعة”. لافتا إلى أن تعداد الجيش الحر يتراوح بين 67 و77 ألف جندي، الجنود السابقون يمثلون من 12 الى 15 ألف جندي والباقون من المدنيين. وفيما يتعلق بالمقاتلين العرب في الداخل السوري، قال الصالح “نعم لدينا مقاتلون عرب بعضهم منخرطون في لواء المجالس العسكرية والبعض الآخر يعمل مع جبهة النصرة، لافتا الى أن عدد المقاتلين العرب لا يتجاوز الـ 500 مقاتل”.
كان عدد المقاتلين من تونس وليبيا فقط، يومها، ضعفي هذا الرقم؟؟
فيما يتعلق بميزانية وتمويل المجلس فهو أمر يصعب رصده بدقة إلا من بعض تصريحات أعضائه. فحسب تصريح لسمير نشار للأنباء الكويتية: “المجلس الوطني لم يتلق من الدول العربية غير 40 مليون دولار خلال عام ونصف العام من عمر الثورة، 20 مليونا منها من قطر والمملكة العربية السعودية و20 مليون دولار من ليبيا”. قيادي آخر علقّ على هذا التصريح “المقصود المساعدات الحكومية العربية، ويضاف لها أربعة ملايين قدمتها الإمارات تسلمتها بسمة القضماني، وهناك المساعدات الغربية بأشكال مختلفة”. لم يعط روبرت فورد أي مبلغ محدد، لكنه قال بأن ثلثي المساعدات الأمريكية كانت إنسانية وبعضها عن طريق الأمم المتحدة وليست عن طريق المعارضة. مسؤول في الخارجية الفرنسية قال بأن “مساعدات فرنسا كانت لوجستية ووثائق سفر ومساعدات من الخارجية لجمعيات مدنية وإنسانية يزكيها المجلس، مع التكفل بكل الزيارات والدعوات لفرنسا لوفود المجلس. ووضع حماية أمنية شخصية لبرهان غليون وبسمة قضماني. ليس لدي أي علم بمساعدات مالية مباشرة، وعلى حسب علمنا، قطر هي المكلفة بهذا الموضوع”. قيادي مستقيل من المجلس قال لنا: “كان الملف الإنساني هو الغطاء لكل المساعدات غير المعلنة، والمبالغ التي قدمت كمساعدات للأغراض الإنسانية تفوق هذه الأرقام بكثير. لقد أمسك الإخوان بملف المساعدات الإنسانية منذ مؤتمر تونس، وعليكم سؤال فاروق طيفور وجماعته كذلك عماد الدين الرشيد عن هذا الموضوع”.
بدأ الحديث عن فشل المجلس في القيام بدور يتناسب مع الدعم والإعتراف الدولي به، والعديد من الدول بنت خطوطا مباشرة مع الفصائل والمجالس العسكرية دون المرور به. وفي حالة “الموت السريري” هذه، أعلنت هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية أن المجلس الوطني expired وطلب الثلاثي الأمريكي البريطاني الفرنسي من عدد من الشخصيات الموثوقة الإعداد لتكوين معارض جديد يحل محله. وطُلب من رياض سيف الإشراف على هذه المهمة من الدوحة.
بعد ذلك، لم يعد للمجلس الوطني دور يذكر، إلا في الظهور الإعلامي لجورج صبرا، الرئيس الدائم والأخير، ومنح السلطات التركية الجنسية لمن يريد من أعضائه.
- هذه الدراسة فصل من كتاب جماعي قيد الإعداد: “القوى السياسية والمدنية والعسكرية في سوريا 2011-2019. الشهادات الواردة ستنشر في الكتاب بأسماء أصحابها. (كركدن.نت)