العدالة المفقودة وجذور الأزمة السورية

تتكئ  أسس الأزمة  السورية على مرتكزات تتمحور في جلّها على مسألة  انعدام العدالة والشعور العميق بالظلم بكافة  أنواعه، وعلى جميع مستوياته في الهرم الاجتماعي السوري. إذ تتبدى مظاهر هذا الظلم في  أشكال عديدة،  وعندما نتكلم عن الظلم فنحن لا نتكلم عن ظلم الحاكم حصرياً، وإنما الظلم الذي يرتكبه كل إنسان –لا شعورياً- تجاه نفسه، أو تجاه الآخرين، باسم العادات والتقاليد، أو باسم الدين، أو باسم الطائفة بشكل فجّ صريح،  أو  باسم الحاجة او وصولاً للاغتناء والصعود في السلم الاجتماعي، وكذلك الظلم داخل العمل، وفي المدرسة أو حتى داخل الأسرة والمجتمع كظلم المرأة وظلم الطفل. 

فالظلم، بشكل عام، هو نتاج لغياب الضوابط الأخلاقية او الدينية التي بدأت تنحسر مع تعقد العلاقات الاجتماعية في مجتمعاتنا المعاصرة وأصبحت قوننة العلاقات مطلب أساسي  لسلامة المجتمعات،  وإلا سيكون الظلم  بوابة  لتجاوزات من نوع آخر  ولظلم جديد أساسه كبت الفكر والحريات. 
إن انعدام العدالة  عبر عملية تعطيل القوانين أو حتى غيابها أو قصورها أو عدم تطويرها  بما يتماشى مع متطلبات العصر والمجتمع، والى جانب حظر وحجب وسائل الاحتجاج السلمي، ليكون صمام أمان، أدى إلى رد فعل عكسي تجلّى عبر ازدياد الاحتقان الشعبي وإغلاق أفق الإصلاح  وجعل الغضب الشعبي وغليانه يصل إلى حد الانفجار ولو ببصيص شرارة ليشتعل ويصبح قابل للتلقف من أي طرف  كان داخليا” او خارجيا” مشبوه النوايا..

وهذا الانفجار حدث ولم يكن اشتعاله بالضرورة ذاتياً،  وإنما عبر دوافع وعوامل خارجية كانت متواجدة وبقوة  ، تحمل صبغة  إقليمية وعربية ودولية، وهي في  أساسها نتاج للصراعات الاقتصادية والإستراتيجية والسياسية والوجودية عبر تاريخ سورية والمنطقة المعاصر. 

فعلى الصعيد الإقليمي كان الصراع العربي/الإسرائيلي،  وطبيعة التحالفات القائمة حوله،  عاملاً مركزياً  ورئيسياً لهذا الانفجار  الذي اتخذ أبعاداً جديدة مع ظهور محور المقاومه والذي غير من ميزان القوى في المنطقة تجاه الصراع العربي الاسرائيلي بعد خروج مصر ودمار العراق كلاعب اساسي في هذا الملف أضف الى التطور الملحوظ في البرامج الاستراتيجية لايران على جميع المستويات التكنولوجية وبالذات  البرنامج ” النووي الإيراني المدني” حيث رأت فيه “إسرائيل” تهديداً وجودياً حقيقياً  لها، وخوفا من عملية تطويره لبرنامج نووي عسكري، الأمر  الذي ترفضه قطعيا، تماشياً مع إستراتيجيتها الدفاعية القائمة على أساس ” الوقاية خير من العلاج ”  والتي تتقاطع مع المخاوف الأمريكية  بإنحسار تأثيرها ونفوذها العالمي على منابع البترول وأسعاره والأسواق المالية المتعلقة به، يضاف إلى هذا الأمر ، عملية الابتزاز التي تلعبها “إسرائيل” بمهارة على أساس كونها “الدولة الديمقراطية ” الوحيدة في الشرق الأوسط ، وخط الدفاع الأول للحضارة الغربية أمام “الهمجية الإسلامية” بشقيها السني والشيعي، وصدًها للنزعة القومية العربية الماثلة بسلبيتها في العقل الجمعي الغربي والتي كان الصعود القومي من مسببات الحرب العالمية الأولى والثانية من جهة وتحالفها مع حركات التحرر العالمي المناهضة لسياسات الغرب الاستعمارية إبان الحرب الباردة لاحقا من جهة أخرى… من هنا  ومع استقلال وسيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية  على مصادر طاقتها الذاتية و التي تمثل 25% من احتياطي العالم،  أصبحت إدارة هذه الطاقة على المدى المتوسط والبعيد واردة بوجود الطاقة النووية السلمية البديلة مما يساعد في تأثيرها المتزايد  على أسعار النفط العالمية  مع تطوير قدراتها الدفاعية التي ستحمي أمنها الوطني ضد اي اعتداءات خارجية لتلغي هذا الطموح،  فتطوير الأسلحة الإستراتيجية كما فعلت سابقتها العراق أضحى واقعاً من الصعب تقبله من الكيان الصهيوني وحليفته الولايات المتحدة، وتحديداً عقب الانتصارات التي  حققها محور المقاومة وتغييره لمعادلات التوازن الاستراتيجي القائمة، حيث أصبح هذا المحور يمثل تهديداً حقيقياً لمصالح الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط والخليج ووجوديا لاسرائيل،  ويحدّ من إستراتيجية الهيمنة المباشرة التي أصبحت واقعا بعد حرب ” تحرير الكويت” .. هذا الصراع كان المحرك الاساسي لتحول الحراك الشعبي لصراع مسلح على الارض السورية وحرب بالوكالة لعدة قوى أقليمية ودولية محركها الاساسي أمن إسرائيل.

أضف إلى ذلك  التأزمات القائمة أو المحتملة على المدى المتوسط والبعيد من أزمات اقتصادية وانفجار سكاني وأمن غذائي، وشحّ للمصادر المائية ومخاطر التصحر  وانعكاساتها على دخل الفرد والمجتمع والدولة،  ومما  يزيد “الطين بله” انعدام العدالة الدولية، بسبب طبيعة علاقاتها والترابطات الاقتصادية والمالية والتجارية التي خلفتها العولمة، والتي عمقت بدورها هوّة الفوارق ليس بين الدول الغنية والدول النامية  فحسب، وإنما داخل مجتمعات هذه الدول أيضاً،  وبالذات في تلك  المجتمعات النامية، والتي تنعدم  فيها أصلا العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وهذا بدوره عرّض المجتمعات لتغييرات جذرية اجتماعية واقتصادية وسياسية سريعة، لم تشهد ترافق  التطويرات القانونية الملائمة، مما أدى إلى إنتاج طبقه سياسية أساسها الانتهازية، وكذلك طبقة “بورجوازية جديدة” فاسدة في معظمها. ترافقت  مع تطورات اجتماعية سلبية بسبب الانفتاح المعلوماتي على العالم عبر الشبكة العنكبوتية  “الانترنت” كل ذلك جاء بسبب انعدام المشرّع الحقيقي في محيط ديمقراطي  يواكب هذه المتغييرات ويضبطها في اطر الاخلاق والعدالة والقانون.

وهذا الفراغ القانوني لم تستطع  المؤسسة الدينية الاسلامية شغره كما يفترض  لسببين أساسيين:
أولاً :   أن الإسلام السياسي حمل السلاح، ووظّف لحساب أجندات خارجية من حيث -يدري أو لا يدري- فكانت إحدى أخطر نتاجاته الكارثية تلك  الحركات المتطرفة العنيفة، فبدل أن تعالج أسباب الأزمة، أمعنت في تعميقها  وتعقيدها، بحيث أصبح العامل الأمني يتصدّر سلم الأولويات  على حساب الحريات والعدالة..

ثانياً  :  أن الفقه الإسلامي لم يتطور بما فيه الكفاية عبر العصور الغابرة، ليواكب متغيرات العصر، فبدل أن يكون عامل تقدم وتطور إنساني أضحى، عامل تخلف وعودة إلى الوراء .. وبعبارة أخرى بدلاً من أن يخلق قوانين  تتلاءم و تطورات المجتمع ويعمل على تثبيت السلم الاهلي، أصبح يعمل على ملائمة المجتمع  مع القوانين السلفية التي اكل عليها الدهر وشرب وبإسلوب فج مهددا السلم الأهلي أصلا..

أضف إلى ذلك الخلل الذي تحدثه المنظمات الدولية، من منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في اقتصاديات الدول النامية. بالترافق مع الخلل الخطير  الذي شاب مسألة  العدالة الدولية المتمثل بالقرارات الدولية ذات الطابع المتحيز  والذي تكيل  الأمور بمكيالين كتلك الصادرة عن مجلس الامن الذي يتحكم بمساراته “حق الفيتو” ، مما شل النظام الدولي القائم أو جعله نظاماً جائراً وغير عادل، بحق الدول أولا، وبحق الشعوب ثانياً… هذا الخلل يبقى المحرك الأساسي لبؤر الصراعات الإقليمية والدولية والتي بدورها تغذي المافيا الدولية وشركات السلاح والبنوك والمصارف الدولية على حساب الإنسان والبيئة …

وبناء على ما تقدّم ، فإن مسألة انعدام العدالة الوطنية والإقليمية والدولية جعل من الأزمة السورية من أخطر الصراعات التي شهدها  القرن الواحد والعشرون والذي أوصل بدوره الجميع لحافة حرب عالمية نووية مدمرة  قد تهدد بمحو الحياة عن كوكب الأرض.

واليوم وبعدما اتضحت هذه الصورة، بشكل جلّي، لابد من محاربة الظلم بكل أشكاله من احتلال، لتطرف او استبداد وهذا لن يتم من دون نشر الوعي، وتحديداً أنماط الوعي الصحيح القائم على  الانفتاح الفكري وحرية التعبير،  والتي ستخلق، بالضرورة،  تفاعلات إبداعية، على مستوى الوطن وعلى مستوى المنطقة، وحدها الكفيلة  والقادرة على إيجاد الحلول الصحيحة.. بعدما أثبتت التجربة بأن التغيير والسعي للحرية عبر العنف ومن دون ضوابط دستورية يؤدي للفوضى، وبنفس الوقت العمل على استتباب الأمن ومن دون ضوابط دستورية يؤدي للاستبداد ..وفي كلا الحالتين يفتح الباب أمام التطرف والاجندات الخارجية وبالتالي فقدان للحرية  وللسيادة.

ومن هنا فإن مسألة  وصولنا اليوم  لعملية البدء بوضع حجر الأساس القائم على  الحل السياسي العادل عبر الإصلاح الدستوري ، أصبح من الضروري أن يتسم هذا المشروع بطابع المسؤولية الوطنية والإنسانية على حد سواء ً،  ليس على مستوى سورية فحسب وإنما على مستوى الإقليم والإنسانية أجمعين.

 لذلك وجب أن تكون مبادئ الدستور مرتكزة في عمادها العدالة وعلى جميع المستويات… والعدالة في جوهرها الأساسي ترتكز على مبدأ المساواة، والمساواة لا تتم إلا باحترام الحريات، حيث يكمن جوهر المواطنة الحقيقية..  فإن مسألة بناء كينونة  المواطن السوري على أساس المساواة، لابد وأن تجعل منه إنساناً راضياً  يساهم بقدراته الخلاقة في تطوير العدالة والسلام،  ليس على مستوى الوطن فحسب وإنما على مستوى الشرق الأوسط والعالم و خاصة لمواجهة النزعات القومية أو الدينية الصاعدة التي خلفتها النزاعات المسلحه في العراق وسورية والتي تتلاقى مع مشروع قانون يهودية دولة اسرائيل العنصري والذي سيشكل بؤرة صراع لسنين قادمه ويبعد أمل السلام عن  المنطقة، لذلك علمانية سورية وديموقراطيتها الإنسانية ستكون ضربة قاصمة لمشروع اسرائيل “الدولة اليهودية” العنصرية الاستعمارية في المنطقة وستكون بداية سلام وبدعم عالمي …وأي دولة على أساس ديني او قومي في المنطقة تعزز مشروع اسرائيل الاستعماري والعدائي من حيث تدري أو لاتدري..

وإذا كان محرك الوطنية السورية عبر العهود الغابرة قد ارتكز على  وحدة الأمة العربية ووحدة الأمة الإسلامي، فلابد أن يكون اليوم مع تحول العالم إلى قرية صغيرة  مبنياً على مبدأ “الوحدة الإنسانية”…  فالإنسانية تبقى أعلى درجات الوطنية وأعلى درجات الإيمان،  الذي يتمثل بأجمل قول للرسول محمد (ص)  : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ..وقوله : ( لافرق بين عربي على أعجمي الا بالتقوى).

ولا يخفى على أحد أن في سورية حيث ولد التاريخ هناك مسؤولية كبيرة تقع على عاتق أبنائها حتى لا يكون في سورية نهايته.

ولن يكون غريباً ولا من دواعي الصدفة ، أن تكون الديمقراطية السورية القادمة شعارها : الحرية، والعدالة والإخاء شعار الثورة الفرنسية 1789 شعار أعرق الديمقراطيات في  العالم.

حسان فرج

علوم دبلوماسية واستراتيجية

Scroll to Top