ليس من قبيل المصادفة أن يربط عنوان هذه المقال بين عودة الفاشية فى المشهد السياسى وأزمة الرأسمالية المعاصرة؛ حيث تمثل الفاشية استجابة سياسية معينة للتحديات التى قد تواجه إدارة المجتمع الرأسمالى فى ظروف محددة.
وقد كانت الحركات السياسية التى يمكن أن تسمى بحق فاشية فى مقدمة المشهد السياسى فى عدد من البلدان الأوروبية، وتولت السلطة، خاصة خلال الثلاثينيات حتى 1945. واشتركت جميع هذه الأنظمة الفاشية فى خاصتين:
كانت جميعها فى تلك الظروف راغبة فى إدارة الحكومة والمجتمع على نحو لا يسمح بالتشكيك فى المبادئ الأساسية للرأسمالية، خاصة الملكية الرأسمالية الخاصة على وجه التحديد، بما فى ذلك الرأسمالية الاحتكارية الحديثة.
دائما ما يستند هذا الاختيار الفاشي لإدارة مجتمع رأسمالى فى أزمة، على رفض «الديمقراطية» فى إطار قيم تعارض الخضوع لمتطلبات الانضباط الجماعى وسلطة القائد الأعلى. ثم يصاحب هذا التحول عن القيم دائما عودة الفكر المتخلف القادر على إسباغ الشرعية على تدابير الإخضاع التى يتم تطبيقها. ويشكل إعلان الضرورة المفترضة للعودة إلى الماضى والخضوع لدين الدولة أو لبعض الخصائص المفترضة لـ«الأمة» المنتمية إلى «العنصر» أو «العرق»، غطاء للخطابات الأيديولوجية التى طرحتها القوى الفاشية.
أولا: فاشية القوى الرأسمالية «المتقدمة» الكبرى التى تطمح إلى الهيمنة:
وتعتبر النازية نموذجا لهذا النوع من الفاشية. حيث أصبحت ألمانيا قوة صناعية كبرى بداية من سبعينيات القرن التاسع عشر، وصارت منافسا للقوتين المهيمنتين فى تلك الفترة (بريطانيا وفرنسا) وللدولة التى تطمح للهيمنة (الولايات المتحدة). وبعد هزيمتها عام 1918، كان عليها أن تواجه تداعيات فشلها فى تحقيق تطلعات الهيمنة. فصاغ هتلر خطته بوضوح: فرض الهيمنة الألمانية على أنحاء أوروبا بما فى ذلك روسيا بمعنى هيمنة رأسمالية الاحتكارات التى دعمت صعود النازية. وكان يميل إلى قبول تسوية مع خصومه الرئيسيين: بحيث يسيطر هو على أوروبا وروسيا، ويتم منح الصين لليابان، وبقية دول آسيا وأفريقيا لبريطانيا العظمى، والأمريكتين إلى الولايات المتحدة. وتمثل خطؤه فى الاعتقاد أن مثل هذه التسوية كانت ممكنة: حيث لم تقبل ذلك بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، فى حين أيدته اليابان من ناحية أخرى. حيث تنتمى الفاشية اليابانية إلى نفس الفئة التى تنتمى إليها الفاشية الألمانية.
ثانيا: فاشية القوى الرأسمالية من الدرجة الثانية:
ويعتبر موسولينى فى إيطاليا، المثال الرئيسى عليها. فقد كانت الموسولينية هى استجابة اليمين الإيطالى (الأرستقراطية القديمة، البرجوازية الجديدة، والطبقات الوسطى) لأزمة العشرينيات وللخطر الشيوعى المتنامى. على أنه لم يكن للرأسمالية الإيطالية ولا أداتها السياسية فاشية موسولينى الطموح إلى الهيمنة على أوروبا، ناهيك عن العالم. فقد أدرك موسولينى أن استقرار نظامه يعتمد على تحالفه كتابع إما مع بريطانيا العظمى (سيدة البحر المتوسط) أو ألمانيا النازية. واستمر تردده بين التحالفين الممكنين حتى عشية الحرب العالمية الثانية. وتنتمى فاشية كل من سالازار وفرانكو إلى نفس هذا النوع.
ثالثا: فاشية القوى المهزومة:
على غرار حكومة فيشى فى فرنسا، حيث اختارت الطبقة العليا «هتلر بدلا من الجبهة الشعبية». وقد اضطر هذا النوع من الفاشية، المرتبط بالهزيمة والخضوع إلى «أوروبا الألمانية»، إلى التراجع إلى الوراء بعد هزيمة النازيين.
رؤية اليمين الغربى المؤيدة للفاشية فى الماضى والحاضر
كان اليمين فى أوروبا بين الحربين العالميتين مؤيدا دائما للفاشية. حتى إن تشرشل نفسه، لم يخف أبدا تعاطفه مع موسولينى. ولم يكتشف رؤساء الولايات المتحدة، والحزبان الديمقراطى والجمهورى، إلا فى وقت متأخر فقط، الخطر الذى تمثله ألمانيا هتلر وقبل كل شىء، إمبراطورية اليابان الفاشية. وقد اعترف ترومان؛ بالسخرية الأمريكية المعهودة بما يعترف به الآخرون سرا: ترك الحرب لتنهك أبطالها ألمانيا، روسيا السوفياتية، والدول الأوروبية المهزومة- والتدخل فى وقت متأخر للغاية من أجل جنى الفوائد. ولا يعتبر هذا، على الإطلاق، تعبيرا عن موقف مبدئى ضد الفاشية. ولم يظهر أى تردد فى إعادة الاعتبار لسالازار وفرانكو فى عام 1945.
ولم تثر معاداة هتلر للسامية الازدراء إلا بعد ذلك بكثير، عندما وصلت إلى أعلى مراحل الجنون القاتل. وكان التركيز على كراهية «البلشفية اليهودية» التى أثارتها خطب هتلر شائعا بين كثير من السياسيين. ولم تظهر ضرورة إدانة معاداة السامية من حيث المبدأ، إلا بعد هزيمة النازية. وصارت المهمة أسهل لأن من نصبوا أنفسهم ورثة «ضحايا المحرقة» أصبحوا الصهاينة فى إسرائيل، حلفاء الإمبريالية الغربية ضد الفلسطينيين والعرب الذين لم يكن لهم علاقة بأهوال معاداة أوروبا للسامية!
وفى ألمانيا الغربية، تركت الحكومة المحلية ورعاتها (الولايات المتحدة، وبشكل ثانوى بريطانيا العظمى وفرنسا) جميع من ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، باسم «المصالحة». ويعتبر تأييد الأحزاب الاشتراكية فى أوروبا الغربية، لحملات مناهضة الشيوعية، مسئولا عن عودة الفاشية، بعد ذلك. وفى بداية التسعينيات، سرعان ما أعيد الاعتبار للفاشية فى أوروبا الشرقية فى أوائل1990. فقد كانت جميع الحركات الفاشية فى البلدان المعنية، من الحلفاء المخلصين، أو المتعاونين بدرجات متفاوتة مع الهتلرية. فمع اقتراب الهزيمة، انتقل عدد كبير من قادتها النشطاء إلى الغرب وكان من الممكن، بالتالى، «أن يستسلموا» للقوات المسلحة الأمريكية. وقد وجدت جميعها ملاذا فى الولايات المتحدة وكندا. وحظيت بتدليل السلطات بسبب معاداتها الشرسة للشيوعية! وهناك دراسات جيدة توفر كل ما يلزم من أدلة لا تقبل الجدل على التواطؤ بين أهداف السياسة الأمريكية (ووراءها أوروبا) وأهداف الفاشيات المحلية فى أوروبا الشرقية (على وجه التحديد، أوكرانيا). وعلى سبيل المثال، كتب البروفيسور دميترو دونتسوف، جميع أعماله فى كندا حتى وفاته (عام 1975)، ولم تكن أعماله تهاجم الشيوعية بعنف فقط، حيث كانت «اليهودية البلشفية» مصطلحه المعتاد، ولكنها أيضا كانت فى جوهرها معادية للديمقراطية. وأيدت حكومات ما يسمى الدول الديمقراطية فى الغرب (بل إنها مولت ونظمت) «الثورة البرتقالية»، أى الثورة المضادة الفاشية فى أوكرانيا. وفى وقت سابق، فى يوغوسلافيا، وكانت قد مهدت أيضا الطريق للمجازر الكرواتية.
سمير أمين
نشر فى : السبت 23 أغسطس 2014 – 7:20 ص |