هيثم مناع
في 6 ديسمبر 2008، نشر هيثم مناع مقالا بعنوان: “وزارات الإعلام، جثث تحكم الأنام”. نشر في “الحوار المتمدن” ومنابر أخرى. وفي 17 كانون الثاني/يناير 2009، ألقى محاضرة في مالاكوف بعنوان “وزارات الإعلام وأشكال البروباغندا الجديدة” كانت توسيعا للمقالة المذكورة، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي على غزة. في الذكرى الحادية عشرة لولادة اللجنة العربية لحقوق الإنسان. اليوم، وحيث أصبحت طبول الحرب الأمريكية- الإيرانية مادة الإفطار والغداء والعشاء للإعلام الدولي والإقليمي، وانطلاقا من قناعتنا بأن “الشيطان الأكبر” بحاجة إلى “الشر الأكبر” لتمكين قواعده العسكرية والمالية، وحاجته إلى “عدو” يرعب به إمارات وممالك الخليج ويجعلها تشتري أسلحة أكثر وتستجلب أساطيل أكثر، فإن “الشيطان الأكبر” يُمكن أن يقرص إذن “الشر الأكبر”، ولكنه لن يقوم بكسر بيضة ذهبية تدرّ عليه ما لا يحلم به. إدارة البروباغندا في وضع كهذا، أهم بكثير من قيادة عمليات سقفها معروف سلفا. الأمر الذي يعيد لما قاله مناع في 2009 قوة حضور. لذا نقتطف من محاضرته هذه المقاطع (كركدن):
“وزارات الإعلام وأشكال البروباغندا الجديدة”
“جاء في مجلة “أممية مبدعي الأوضاع”، أكثر الأطراف جذرية في أحداث فرنسا 1968 وأقلها عددا وعدة: “تعيش السلطة من بيع المسروقات الخفية، فهي لا تبدع شيئا وتستولي على كل شيء وتحتويه. ولو كان لها أن تبدع معنى الكلمات لصار الشعر في خبر كان، ولما بقي غير “الإعلام” المفيد.. لا تعطي السلطة للكلمات إلا هويتها المزيفة. إنها ترغمها على حمل جواز مرور وتحدد لها مكانتها في الرؤوس … في ظل رقابة السلطة يدل الكلام دوما على شيء مغاير لما نحياه.. تضارع هيمنة السلطة على اللغة هيمنتها على كل شيء. وحدها اللغة التي أضاعت أي استحضار ثائر للحياة في شمولها، تستطيع أن تكون حجر أساس للإعلام. الإعلام هو شعر السلطة، إنه التزوير وقد بات وسيلة لما هو قائم”.
لم تعط الماركسية الأولى لقضية الإعلام والبروباغندا ما تستحق من النقد، خاصة وأن الدمامل التي سببتها للرأسمالية جاءت من تفكيك المنظومة الرأسمالية ونقدها أكثر منه مما أطلق عليه فريدريك إنجلز “أحد تعبيرات البنية الفوقية”. “الصحفي” المتمرد كارل كراوس كان من أوائل من شرح آلية توظيف المطبعة في تزوير الوعي عبر الإعلام، وكتب في ذلك رسالة “ضد الصحافة”. أما المدرسة الدادائية ومن ثم السريالية فقد اعتبرت إعلام السلطة، مالية كانت أو سياسية، وسيلة تزوير علنية لوعي الناس الفردي والجماعي. وقد أعطت مدرسة فرانكفورت للفكر النقدي حجما هاما لنقد الآلة الإعلامية الجهنمية التي تحولت في نظرها إلى صناعة لتزييف الوعي وقولبته.
في خضم الحرب العالمية الثانية، نشرت “المجلة الجديدة” في مصر مقالة بعنوان “فن الدعاية كما وضعه هتلر في كتاب كفاحي”. ومن الاستشهادات الواردة للفوهرر الألماني حول “البروباغندا”: “الدعاية سلاح جبار في يد من يستطيع حمله، ولا يصلح لذلك إلا الخبير بدقائق النفس الإنسانية العارف بخفاياها وأسرارها”. “وظيفة الدعاية الأساسية هي الإيحاء إلى الناس بأن يموتوا”. “الجماهير هي شراذم وأفواج من الناس لا قدرة عندهم للفهم ولا صبر لديهم لتحريك الأفكار وتنشيط العقول ولا يملكون سوى الشك والارتياب… طبيعة الجماهير عاطفية وأمزجتهم تتلون دائما بألوان الشعور والانفعال.. الدعاية الناجحة هي التي تقدم إلى الجماهير في أساليب سهلة مستساغة.. من خصائص الجماهير أنها قليلة الفهم ضعيفة الذكاء ولكنها سريعة النسيان.. في كل كذبة ما ناحية يمكن تصديقها وعقلية الجماهير تصدق الكذبة الكبيرة قبل الكذبة الصغيرة.. معظم القراء لا يكلفون أنفسهم مشقة فحص وتمحيص ما يقرأون من أخبار وهم بهذا يصدقون كل شئ..”. “فطاحل المشرعين وكبار رجال القانون والعلماء النابهون والقادرون على الفهم الصحيح، كل أولئك بعيدون عن الجماهير… الجماهير هي شراذم وأفواج من الناس لا قدرة عندهم للفهم ولا صبر لديهم لتحريك الأفكار وتنشيط العقول ولا يملكون سوى الشك والإرتياب. من أجل هذا يكفي لتقويض عقيدة من عقائدهم أن تلوح لهم بشعاع واحد من الحق في الصفوف الأخرى… معظم القراء لا يكلفون أنفسهم مشقة فحص وتمحيص ما يقرأون (نضيف في عهد الثورة السمعية البصرية وما يشاهدون!) فالصحافة المنتشرة بين الجماهير لمن أقوى الوسائل لنشر ما تريده البروباغندا (يمكن اليوم إضافة:المذياع والتلفزيون والشبكات الاجتماعية..)…
في 1984، أعادت مجلة “النقطة” في باريس نشر “فن الدعاية كما وضعه هتلر في كتاب كفاحي مضيفة: “وكما يطبقه وبشكل أغبى، تلاميذه من حكام التسلط الشرقي وخطبائه يساريين كانوا أو يمينيين”. وكوني كنت في هيئة التحرير، أستطيع أن أجزم بأن أحدا من الأربعة في هيئة التحرير، وهم جميعا على قيد الحياة اليوم، لم يخطر على باله أن يضع: وكما يطبقه مشايخه وخطبائه سنّة كانوا أو شيعة…). بما في ذلك آخر السرياليين العرب عبد القادر الجنابي.
تعيدنا البروباغندا إلى أكثر الأحاسيس الغريزية عدوانية عند البشر. يبصر صناعها الوجود من خلال ثنائيات مغلقة للخير والشر، وهم بالتأكيد لم يكتشفوا بعد كتاب نيتشه “ما وراء الخير والشر”، لأن مجرد عنوان الكتاب يقوض منظومتهم الإيديولوجية المغلقة. العالم عندهم مثل الرئيس التافه جورج دبليو بوش الذي يقود معسكر الخير المطلق في وجه معسكر الشر المطلق. وبمجرد أن يتحدد العدو الأكبر، في التعبير الأمريكي، أو الشيطان الأكبر، بتعبير الملالي، فإن كل المعارك والدماء والخطب والمليارات المخصصة للموازنات الحربية جهاد مقدس. ومن مضحكات ومبكيات الأيام أن تعبير “الجهاد المقدس” قد تخطى حدود العالم الإسلامي ليصبح عولميا. لكن المشكلة أن هذه العولمة لن تحول دون عودته إلى مربض خيله الأول، ليكون وقوده جيل كامل من الشباب الضائع، الرافض، بوعي أو دون وعي، للاستبداد الداخلي والاستعباد الخارجي.
لعل ستالين وهتلر من أوائل المعلمين في الأداء الإعلامي لعبادة الشخصية وتمجيد الحاكم وتأليه السائد وتحقير محاولات الخروج عن المنظومات الحاكمة وتعميم البلاهة. وكون الثورة المعلوماتية، أي الثورة المفترض أن تسمح لكل إنسان بتداول أية معلومة، قد سخّفت مهمة وزارة الإعلام الكلاسيكية، صار من الضروري تقييد وحجب ومنع واعتقال ومعاقبة من يستعمل هذه الآلات الجهنمية للتعبير حفاظا على “الذوق العام” وعدم الشعور بالدونية عند وزراء الإعلام. إلا أن هذه المهمة أيضا شبه مستحيلة لأن “المجرم كما يقول ماركس قوة إنتاجية”، وسيبتكر العصاة والصعاليك ألف وسيلة ووسيلة لكسر حصار وزارتي الإعلام والداخلية على المعلومة.
منذ صعود الإعلام السمعي البصري للفضاء، وانتشار الشبكة العنكبوتية، أصبح الصوت الحر كابوس الحكام العرب، وإخراسه المهمة الأولى لوزراء أعلامهم، ويبدو أن الوسيلة الأفضل لتفتيت الإعلام هي التكاثر الأميبي وإغراق السوق بمئات الفضائيات ليختلط الحابل بالنابل وتمسك الحكومات ليس فقط بمحطات إعلامية ضخمة، وإنما بالسلعة الإعلامية والمادة الإعلامية للطحالب السائدة ومعارضات ضرورية على مقاسها. فهي تصنع النجوم وتقزم الخصوم وتشوه صورة من تشاء وترفع قدر من تشاء.. ولكنها أيضا، وضمن صراعاتها السطحية والسخيفة للسيطرة على سوق المستهلكين، تسخف أساليبها نفسها، وتدخل في دوامة صناعة الكذب والتكذيب للحفاظ على حد أدنى من المصداقية.
لكن هل يمكن لإعلام يعتبر الصمت عن جرائم الحرب التي ارتكبت في غزة جزءا من عملية تخدير الناس وإبعادهم عن قضاياهم الفعلية كبشر، أن يعيش طويلا؟ نعم، وللأسف سيعيش أكثر مما نتصور… لأنه ابن منظومة أخطبوطية لم تنته بعد سيطرتها على أهم مفاصل القوة الاقتصادية والجيوسياسية والثقافية في العالم. رغم أن معالم انحدارها بدأت تتجلى للعيان أكثر فأكثر.
هل يمكن لبروباغندا تعتبر الحرب على حرية التعبير قضية تضاهي في أهميتها الحرب على الإرهاب، مع الاحتماء الثعلبي بعباءة الأخيرة؟ أن تستمر دون قليل من بهارات “التجديد”؟ هل يمكن للطاعون الإعلامي الملوث بالمذهبية وكُفر الرافضة أو ثارات الحسين أن يستمر طويلا في التدجين والتوظيف دون أن يولد عند ضحاياه الحاجة الباثولوجية التي ينتجها: Le passage à l’acte
رغم كل عمليات الشحن لوعي مزيف، ستبقى فوبيا “العصاة” تمنع أجهزة الأمن العربية من النوم، لذا لن يتوقفوا عن تصعيد الملاحقات والتغريم والإغلاق والحجب واللوائح السوداء، وأخيرا وليس آخرا، الاتفاقيات الثنائية لمنع استعمال إعلام الغير لأغراض عدائية.
وتبقى المشكلة الجوهرية في أن التسطيح المنظّم للثقافة والتزييف العدواني للوعي عبر أسلحة الدمار المشار لها أعلاه، تخلق جيلا لا يملك ما يخسر، حتى على صعيد الإدراك المعرفي. وبالتالي لا يبحث عن طريق عقلاني وسلمي لما يريد.. وذلك بغض النظر عن طموحاته.