إعلام على رقعة شطرنج

مالك العثامنة

من زاوية رؤيتي الشخصية، فإن أي حكم منصته دينية هو حكم متطرف عصبوي إقصائي يعتمد منهجية استبداد النخبة الدينية التي تتغطى بالمقدس، والمقدس يمكن تفصيله على قياس النخبة نفسها في أي وقت.

لهذا فإن نظام الحكم في إيران ليس أكثر من نظام استبدادي ضحيته الأولى الإنسان الإيراني نفسه، بمن فيهم أولئك الذين يهتفون بشدة لحكم الملالي ويتشددون لعمامة الفقيه أكثر من تشددهم للقمة عيشهم، هؤلاء ضحايا العتمة، العتمة التي تجلبها لهم نخب الفقهاء والشيوخ والتي تحجب النور عن عيون الناس.

ليس عندي مشكلة مع الإنسان الإيراني، ولا الثقافة الإيرانية، بل أني أكن لتلك الثقافة ـ المدفونة تحت ركام عمائم العتمة ـ الكثير من الاحترام والتقدير.

لكن خصومتنا لتلك الأنظمة الدينية المستبدة، وحتى الأنظمة المستبدة أيا كانت منطلقاتها يجب ألا تكون خصومة بحد ذاتها منطلقة من منصة التشدد والتطرف والمبالغة حد تزوير الوعي.

تلك الخصومة “المزيفة للوعي” تتجلى بوضوح في كثير من الإعلام العربي بمختلف وسائطه، ليصبح هذا الإعلام تابعا لأجندات سياسية تستخدم التمويل بكل أشكاله للسيطرة على دفق المعلومات الصادر عن وسائل الإعلام.

ما يحدث في الإعلام العربي بخصوص “إيران” تحديدا، من أكثر المضحكات المبكيات، فقد دأبت وسائل الإعلام على أن “تتمذهب” في عدائها لإيران فتخندقت في معسكر معاوية بعد أن استحضرته من قبره، فصار المتلقي العربي “غير الشيعي” والمسيس بسهولة من خلال ثغرة العقيدة في وجدانه ووعيه المسلوب، يرى في إيران كلها، بناسها وتفاصيلها أعداء وجوديين له؛ وفي المقابل، كان الإعلام المضاد المسيطر عليه من طهران، “متمذهبا” حد استحضار كل كربلائياته وبكائياته، فدخلنا من جديد في معركة صفين نسخة القرن الواحد والعشرين.

♦♦♦

السؤال المطروح على طاولة الإعلام العربي، هو ماذا يعرف المتلقي العربي عن إيران وثقافتها وناسها وحضارتها وتاريخها وأدبها؟ هل قدم الإعلام العربي “عموما” وجبة إعلامية دسمة تجيب عن كل ما يجهله العربي وهو بطبيعته عدو ما يجهل!

ما حجم الحرية التي يملكها من يمتهن الإعلام (لا فئة المتاجرين به)، لتقديم الحقائق بحيادية بعيدا عن الأجندات المتشنجة والمحتقنة بروح داحس والغبراء؟

طبعا، الإعلام العربي ذو الأجندات المحضرة مسبقا والممولة جيدا لن يهاجم فكرة الاستبداد في الدولة الإيرانية، ولن يعزلها عن باقي معطيات الشأن الإيراني، فهو إن فعل ذلك فإنه بطريقة ما يقوم بتعرية استبداده أيضا، ويفتح الباب مواربا لتساؤلات عن دول الاستبداد جميعها، وهو المحظور دخوله على مكونات وعي المتلقي العربي.

في المقابل، ماذا يقدم الإعلام التابع لملالي طهران وتمويلهم غير لغة خشبية مضللة تسعى بكل جهدها أيضا لإلغاء الإنسانية من خلال استدرار عواطف شعبوية وباستخدام لغة عبثية لا معنى لها لكنها على عبثيتها قادرة على دفع كل الأدرينالين في عروق المتلقي، مثل مقاومة وكفاح مسلح ونضال قومي ومن البحر إلى النهر.. وكلها تعابير ومفردات لا تسمن ولا تغني إلا نفس تلك الأنظمة المستبدة.

♦♦♦

هنالك في الإعلام العربي وفي كلي خندقيه، لغة تخوين واضحة الملامح، فإن لم تكن في الحرب ضد إيران، فأنت بمنطق خشبي عجيب خائن لعروبتك ودينك، وإن كنت ضد إيران فأنت بمنطق خشبي مقابل وعجيب أيضا انبطاحي وخائن لقوميتك وقضيتك!

هذا يضع الإعلام في ساحة المعركة بل في منتصفها بالضبط، والخاسر الوحيد هو المتلقي نفسه لتستمر مسيرة تزييف الوعي على الدوام.

طبعا لكيلا نكون سوداويين تماما فإننا نتلمس أحيانا إضاءات إعلامية عربية تقاوم من أجل مهنيتها، وتكافح لتظل على موضوعيتها، وتناضل لتبقى على حافة البقاء والوعي في زمن دفق معلوماتي مجنون بلا قيود ولا كوابح ولا مسؤولية، تجاهد لتستمر بين دولارات الكاز والغاز.

نشرت في “الحرة” قبل أسبوع من إطلالة كركدن ونعيد نشرها بموافقة الصديق مالك مشكورا

Scroll to Top