إجراء تجريبي لائم تفكك الإمبراطوريات.
فكرة مركبة تم استعمالها بشكل متواتر وعشوائي في حياكة تحتوي على الكثير من البهارات المعروفة: التقارب بين الأفراد والجماعات الإنسانية، هذه الجماعات تصل إلى سلطة القرار منذ خروجها من عمر المراهقة إلى سن البلوغ ـ نداء لصيغة الاستفتاء التي تسمح لشعوب واقعة تحت وصاية أجنبية أن تعبر عن طبيعة خلاف المصالح والطبائع عن مستعمريها بالتعابير الخاصة بالسيادة.
ليس من المفاجئ أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية ـ في تكريم لتاريخ تحررها ـ معمل التجارب، ومن ثم رجع الصدى لحق تقرير المصير. وبنفس الطريقة التي أصبح فيها الشعب الأمريكي بالغا، وقطع حبل السرة الذي فرضته عليه بريطانيا، فإن من حق جميع الشعوب أن يؤكدوا رغبتهم وأمنياتهم في الكرامة التي لن تكون هبة خاصة بالأقوياء في حين يبقى الإذلال النصيب المعتاد للضعفاء. وبهذا الشكل يعرض النيلسونيون والروزفلتيون التطور السلمي نوعا ما للأمم.
إن الطابع الغامض لمناهضة الولايات المتحدة للاستعمار ـ غامض لأن السلطة السياسية تتحجب بمثالية غالبا ما تكون متذبذبة ـ ليس له أي أصل آخر غير هذا.
يشكل إعلان “النقاط الأربعة عشرة” للرئيس ويلسون Wilson هو أول وثيقة تشرع اللجوء إلى حق تقرير المصير وتعطي المصطلح المصداقية التي يحتاجها في نظر العالم.
فلم يمض زمن، إلا وفي كل مكان، ارتفع صوت المطالبين بالعدالة والرافضين للتأقلم في دول لا تعني لهم شيئا: الأرمن، الشراكسة، التركمان، التتار، الأكراد، العرب يشعرون بترنح عرش الباب العالي وتفكك موزاييك روسيا المتعددة الجنسيات. وعلى حطام هاتين الإمبراطوريتين، قامت جموع أقليات تطرح نفسها كاحتمالات أمم. وقلة منها من ينال المطالب التي ينتظرها.
هنا يتضح الخلل العميق: في كل مرة لا تقع معالم الأمة القادمة في ظرف عالمي مقبول من قبل “اخوتها الكبار” فإن حق تقرير المصير يبدو وكأنه يلعب دور محرك القلاقل الانفصالية. وهو دور مدان سلفا لأن المخاطر التي يحملها في إطار محدود يمكن أن يجول العالم بأسره إذا ما ضمن الانفصاليون غياب العقوبة. والولايات المتحدة الأمريكية لا تجهل معنى ذلك وهي الدولة التي عاشت كربة الحرب الأهلية التي عوقب فيها الجنوب بقسوة من قبل الشمال لرغبته “في تقرير مصيره”. الأمر الذي يجعل هويس قناة حق تقرير المصير لا يفتح إلا بعد اتخاذ احتياطات معينة، هل نفتح الباب على مصراعيه لنرى دولا تتفكك (العراق والسودان هما أكثر البلدان تعرضا للخطر، نيجيريا حاولت إغفال المشكلة فاستيقظت على حرب بيافرا، سكوتلندا نفسها تنتخب “الوطنيين”).
إن التجارب التي تلت الحرب العالمية الأولى قللت من حماسة الاستفتاء الشعبي عند منظري حق تقرير المصير. فقد بدا لهم أن هكذا استشارة شعبية ـ متناسبة مع مواقف الأكاديميين من الحقوقيين ـ يمكن أن تعطي مراكز توتر خطيرة، وأن تنجب صراعات كبرى، وأن تفضي إلى فشل الحقوق وانتصار القوة. فالاستفتاء الذي نظم في 21 مارس(آذار) 1921 في سيليسيا العليا Haute – Silsie أعطى 707000 صوتا لصالح الانضمام إلى ألمانيا ضد 479000 لصالح بولونيا. وكان هذا بالضبط ما حمل البولونيين على اللجوء إلى السلاح. ومع يأس اللجنة المعنية بحل مشكلة سيليسيا العليا، طرحت هذه اللجنة التقسيم كحل ـ نقول بلغتنا اليوم، تقسيم الأراضي المتنازع عليها.
في 1938، وفي مقالة شهيرة اعتقدت صحيفة “التايم” البريطانية أنها تعطي المسوغات لمطالب السوديت Sudites تجاه حكومة براغ، بطرحها مبدأ حق تقرير المصير لتلبية احتياجات هذه الأقلية الجرمانية. وكان ذلك تقديما للذريعة المطلوبة لاتفاقيات ميونيخ التي قلصت تشيكوسلوفاكيا إلى حدود التشيك التي كانت محكومة هي نفسها بالانقراض في غضون ستة أشهر.
في حالات مثل سيليسيا العليا أو السوديت، كان الخطأ حسب برتراند جوفينيل في تطبيق قرار له طابع قضائي على وضع يتطلب قرارا سياسيا بالمعنى الواسع للكلمة. فمن الضروري الاعتراف بأن حق تقرير المصير ليس له حظوظا في التطبيق، إلا إذا نال “التغطية الضرورية” في الوقت نفسه من الاحترام والحماية، من قبل سلطة وصاية ديبلوماسية مقنعة. أن يكون الألمان غير موحدين بعد، يمكننا قول الكثير حول الموضوع.
باختصار، من أجل أن تمارس رغبة شعب، فمن المهم أن يعترف الآخرون بأن الفرصة ملاءمة لذلك. وفي هذا يكمن الإصرار الفائق لحق تقرير المصير. ولهذا السبب، فإن نيل الاستقلال عبر الطرق اللذيذة يتضمن، عند كل من يعمل لهذا الغرض، إتقان علم اللحظة المناسبة.
- كتب الشاعر السريالي المصري جورج حنين (1913-1974) هذا النص في 1968 في الموسوعة السياسية المختصرة باللغة الفرنسية وترجم للعربية ونشر في “الإمعان في حقوق الإنسان” عام 2000.